عبدالوهاب بدرخان
عندما التقى وزير الخارجية الإيراني ممثلاً عن الحوثيين أخيراً في مسقط وأبلغه أن طهران تؤيّد وقف إطلاق النار والعودة الى المفاوضات، ونُسب إليه قوله إن “الحل السياسي هو السبيل الوحيد لتسوية الأزمة” في اليمن، لم يكن واضحاً أيّ إيران ينطق محمد جواد ظريف باسمها، أهي “الساحة/ ميدان القتال” أم “الدبلوماسية”، وهل وقف النار مطلوب بمعزل عن مسار معركة مأرب أم بعد الحسم الذي يحاوله الحوثيون منذ شهور، وهل الناطق باسمهم محمد عبد السلام تابع لإيران الحرس الثوري أم لإيران الدولة؟
من الطبيعي أن تصبح النظرة الى “الجمهورية الإسلامية” بعد تسريب شهادة ظريف مختلفة عمّا كانت قبله، فهو من أبرز مخضرمي النظام ويعرف عمّا يتحدث، ثم إن التسجيل غير المعدّ للنشر بل لـ”التاريخ الشفوي” الذي شاءه الرئيس حسن روحاني لنقل تجربة حكومته الى الحكومة اللاحقة، سمح لظريف بإطلاق صراحته، وبتصفية حساباته حتى لو كانت مع غريم راحل هو قاسم سليماني. كان الأخير قد أخضعه لإملاءاته في السياسة الخارجية، كما بالنسبة الى المفاوضات النووية، وما لبث أن همّشه في شباط (فبراير) 2019 عندما رتّب زيارة لرئيس النظام السوري التقى خلالها المرشد على خامنئي والرئيس روحاني من دون التنسيق مع الخارجية، ما دفع ظريف الى الاستقالة احتجاجاً على “عدم حفظ مكانة الخارجية” كما قال لدى عودته عنها.
لم يكن الحديث معداً للنشر، لكن تبيّن أنه كان معداً للتسريب، وإذ طلب روحاني من الاستخبارات التحقيق في الواقعة، فإنها لم تجد صعوبة في المهمة، لأن الجهة المستفيدة من التسريب معروفة. لم يكن “الحرس” مضطراً للتورّط مباشرة ما دام عملاؤه مبثوثين في مفاصل الإدارة، وسرعان ما أطاحت الإجراءات الأولية قريبين من الرئيس، أو قيّدت حركتهم، أي أن محيط روحاني نفسه مخترق، ولا غرابة في ذلك.
كان ظريف مدركاً أن شهادته، حتى لو بقيت سرّية، ستُثير غضباً شديداً في أوساط مقدّسي سليماني ومقدّريه، بمن فيهم المرشد الذي كان يعتمد على قائد “فيلق القدس” لتعميم توجيهاته، ومع ذلك بدا ظريف مصمّماً على إطلاق حكمه بأن ما كان سائداً أيام سليماني لم يكن صائباً لإظهار إيران كدولة طبيعية ذات مصداقية، بل كان موجّهاً لتعزيز “إيران الثورة” التي لا يمكن أن يثق بها أحدٌ في العالم. وبالتالي فإنه أكّد المؤكّد، ولم يخطّئ ما كان معروفاً في الداخل والخارج على أنه “حقيقة” النظام الإيراني، حيث يحكم المرشد بواسطة “الحرس”، وكلاهما يستخدم المستوى السياسي لتمويه خُدع الميدان. لكن ظريف يعلم أين يوجد ويعمل، أي أنه ليس واهماً، فلا هو في دولة قانون ولا في دولة مدنية، وإذ يشكو من أنه كان مُطالباً يومياً باستخدام الدبلوماسية لتلوين النّفاق، أو يشكو من أنه كان مضطراً لإخفاء اقتناعاته، فإنه تفانى في تأدية هذه المهمّة.
ربما يُحسب لشهادة ظريف أنها سلّطت الضوء – من دون أن يقصد – على نفوذ العسكر، فـ”في إيران، الميدان العسكري هو الذي يحكم”. قال إن نفوذه في السياسة الخارجية كان “صفراً”، وإنه لم يتمكّن مطلقاً من مطالبة أي قائد عسكري بأي عمل لمساعدة الدبلوماسية. واقع الأمر أنه ليست هناك سياسة خارجية بالمعنى المتعارف عليه، لذلك غلّف بعض وجوه مجلس الشورى سخطهم على ظريف بإشارات غير مباشرة الى “سذاجته” وجهله أن ساحة المعركة والدبلوماسية “ركنان أساسيان لحماية مصالح الشعب والأمن القومي”، بحسب أمير عبد اللهيان. ولمّا كانت “الساحة” هي التي تقرّر فما على الدبلوماسية سوى أن ترضخ للأمر الواقع. هذا ما فعله ظريف، أما الذين أمروا بتسريب شريطه فلم يأبهوا للأضرار الناجمة عنه، بل أرادوا تأديبه وإنهاء حياته السياسية ولو بمخالفة لأخلاقية العمل الحكومي وسرّيته.
هذا لا يحصل اعتباطاً في دولة مثل إيران تعيش وراء ستار حديد. ولعل التسريب كشف لمرّة أولى حقيقة اختلاف واقعي بين تيارَين وعقليتَين داخل النظام، فأولويات روحاني وظريف الاقتصادية ليست أولويات المحافظين و”الحرس” التوسّعية. ظهر ذلك غداة توقيع الاتفاق النووي في 2015، إذ كان جليّاً أن فريق روحاني الذي أنجز الاتفاق ظنّ أنه فتح صفحة جديدة مع الخارج ولا بد من متابعتها وتطويرها، لكن المرشد أغلق الأبواب أمام الولايات المتحدة وحصر دور الحكومة بالشأن الاقتصادي وأخضع حركتها فيه لمراقبة ضيّقة. لذا يصف المتشدّدون هذا الفريق بأنه “أميركي”، ويتهمونه بأنه يركّز في مفاوضات فيينا الحالية على رفع العقوبات عن القطاعات الاقتصادية من دون التشديد على رفع تلك المتعلقة بـ”الحرس الثوري” ورعاية الإرهاب. وبطبيعة الحال، فهذا الفريق ليس أميركياً لكنه توهّم بأن منطق السياسة يفترض مساراً معيناً لإخراج إيران من أزمتها، بعد تحريرها من العقوبات، في حين أن منطق “تصدير الثورة” يمكن أن يعيد العقوبات بشكل أو بآخر، وهو ما حصل وربما يتكرّر.
يؤخذ على فريق روحاني – ظريف أن “اعتداله” أو “إصلاحيته” أو “دبلوماسيته” لم تدفعه يوماً الى رفض تدخّل إيران في شؤون الدول الأخرى. وعلى افتراض أنها كانت فعلاً مخالفة لاقتناعات أعضائه، فإنهم لم يفصحوا عن ذلك، برغم أنهم دأبوا على دعوة دول الخليج الى الحوار واتهموها بالسلبية وعدم الاستجابة، متجاهلين أن وقف التدخّلات والتهديدات والاستفزازات، واتّباع الاحترام المتبادل في العلاقات، يشكّلان المدخل الصحيح الى أي حوار هادف. وبعد شهادة ظريف، يمكن إضافة شرطٍ آخر لا بدّ منه، وهو أن يكون هناك توافق صريح ومعلن على أن الحوار يمثّل إرادة إيرانية واحدة.
يبقى أن الشهادة المسرّبة تطرح أسئلة على ظريف وحكومته أكثر مما تعطي إجابات، ومنها مثلاً: هل إشارته الى الهجوم على السفارة السعودية في طهران (2016) تعكس رفضاً للاعتداء أم انزعاجاً من التوقيت فقط؟ وهل انتقاده سفر سليماني لطلب تدخل روسي يناقض تفاهمات تمّت مع جون كيري في شأن سوريا؟ وهل تضمّنت تلك التفاهمات تأكيداً من ظريف أن تغييراً سيحصل في سلوك إيران بعد توقيع الاتفاق النووي لكن الواقع كذّبه؟…
المصدر: النهار العربي