علاء اللامي
ثارت ضد الغزاة مِرارا وتكرارا، وخذلها الفراعنة، وسفك دماءها الإسكندر المقدوني بعد أن قاومته أربعة أشهر في حرب شعبية هي الأولى في التاريخ البشري، وتواجه اليوم الصهاينة النوويين ببطولة نادرة: هي غزة، التي كان اسمها عند الكنعانيين هزاتي وعند الفراعنة غزاتو وعند الآشوريين الرافدينيين عزاتو.
* قبل العصر الإسلامي بعدة قرون، وبالضبط في القرن الثاني عشر ق.م، كانت غزة واحدة من المدن الخمس التي بناها شعب الفلسطة المهاجر الى الساحل الفلسطيني الجنوبي من جزر شرقي البحر المتوسط كما يعتقد باحثون، إلى جانب مدن أخرى هي: عسقلان، أسدود، جت، وعقرون، في الساحل الجنوبي ما بين يافا ووادي العريش.
* سماها العرب “غزة هاشم” نسبة إلى هاشم بن عبد مناف، الجد الثاني للنبي العربي الكريم محمد بن عبد الله، وكان هشام واحدا من كبار تجار الحجاز، وهو الذي سنَّ لهم رحلتي الشتاء والصيف اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم، ومات بها شابا في الثلاثينات من عمره ودفن فيها في القرن الخامس الميلادي أي قبل الإسلام بقرنين. وبهذا فغزة هاشم تؤكد حقيقتين: الأولى إنها كانت همزة وصل بين فلسطين والجزيرة العربية – وخصوصا الحجاز واليمن – على مر العصور قبل الإسلام وليس بعده كما يقول الصهاينة ومن والاهم من كتبة مأجورين يريدون قطع الصلة بين الفلسطينيين وبلادهم الأصلية فلسطين، والقول أو الإيحاء بأنهم مهاجرون جاؤوا من بلاد أخرى كلهم. والحقيقة هي أن هجرة الأقوام السامية بين أقاليم المشرق العربي حقيقة واقعة ولكنها ليست كل الحقيقة هناك شعوب أصلية وأخرى مهاجرة تندمج بالسكان الأصليين كما اندمج شعب الفلسطة البحري بالكنعانيين، والفلسطينيون العرب شعب أصيل وهو وريت الشعوب القديمة وفي مقدمتها الفلسطة والكنعانيون – ومنهم اليبوسيون بناة أورسالم/ القدس – وغيرهم.
* قبل الإسلام بقرون عدة، كانت غزة مركزاً تجارياً كبيراً للتجار العرب الجزيريين كما قلنا، ويبدو أنَّ العرب كانوا على اتصال وثيق بالشطر الجنوبي من الساحل الفلسطيني منذ ظهورهم في التاريخ. ففي المدونات التاريخية نقرأ؛ أنَّ تاجراً مكيا يسمى عقبة بن أبي معيط قد كان له – قبل الإسلام – متجر كبير في مدينة صفورية القريبة من الناصرة. أما أبو سفيان، فقد كان يملك عقارات ومتاجر في فلسطين.
* شاركت غزة في عصر دويلات المدن، في ما نسميها اليوم بلاد الشام – في ثورات هذه المدن ضد الغزاة ومن ذلك (في 720 ق.م، اندلعت ثورات ضد الهيمنة الآشورية في حماة وغزة ودمشق والسامرة، بتحريض ودعم مصري على الأرجح، واستطاع سرجون الثاني الآشوري أن يقضي على هذه الثورات، في ولايات الشمال، في موقعة “قرقر”. ثم زحف جنوباً حتى وصل إلى ربيحو “رفح” حيث أوقع هزيمة نكراء بـ “سيبو” قائد جيوش مصر الفرعونية، الذي أرسله الفرعون لنجدة حنون “هانُّو” ملك غزة فانسحبت القوات الفرعونية وتركت غزة تواجه مصيرها وحيدة. فقد حاولت مصر الاستمرار في دعمها للممالك الفلسطينية ضد غريمها الرافديني الآشوري، فتشجع حنون ملك غزة – وكان لاجئا سياسيا في مصر – على الثورة ضد الدولة الآشورية، وأمر الفرعون قواته في ربيحو “رفح” بقيادة سيبو بدعم الثائرين الفلسطة، وحين بدأ الصدام العسكري هرب القائد الفرعوني سيبو ودمر سرجون الثاني مدينة رفح وأسر ملكها حنون.
* نافست مدينة غزة مدينة ومملكة صور الفينيقية شمالا في عنادها وصمودها الأسطوري، ولم تتعظ من نهاية جارتها الشمالية المأساوية، مملكة صور التي دمرها الإسكندر المقدوني وأسر سكانها بالجملة. حيث لم يتعامل الإسكندر بن فليب مع المدينة الجريحة صور بشهامة كما فعل الملك الرافديني نبوخذ نصر سنة 585 ق.م، والذي احترم أهلها ولم يؤذهم، لا بل تولت الجيوش المقدونية الفتك بأهلها بقسوة بعد أنْ قاتلوا قتال الأحرار المستميتين، وباع الإسكندر أكثر من ثلاثين ألفاً من سكانها، نساء وأطفالاً، في أسواق الرقيق سنة 332 ق.م. وصمدت غزاتو تقاتل قتالا بطوليا، شارك فيه جميع أهلها في تجربة للحرب الشعبية هي الأولى من نوعها في التاريخ البشري المعروف. وكان يقود قواتها الشعبية ضابط إغريقي مهاجر يعيش فيها ويدعى باتيس، واستمر القتال على أسوار غزة بين شهرين إلى أربعة أشهر حسب الروايات، ثم دخلتها جيوش الإسكندر بعد تدميرها، وقبض الغزاة على القائد الغزاوي باتيس وأمر الإسكندر بإعدامه بطريقة وحشية. ونهب الغزاة بضائع التجار العرب، ولا سيما العطور والبخور، ووزعها الإسكندر على أعوانه ورجال دولته.
* وغزة الفلسطينية اليوم تواجه ببطولة ملحمية العدوان الصهيوني المنفلت والخارج على كل عرف أو قانون دولي أو دين سماوي، عدوان يسفك فيه العدو دماء السكان العزل بسلاحه الأميركي الحديث تحت الحماية الغربية المطلقة. إنها غزة الجريحة المعانية الصامدة ولكنها أيضا غزة الكرامة الإنسانية والعزة الفلسطينية العربية والصمود والانتصار القادم حتما!
فقرات مختصرة وموسعة من كتابي “موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ وحتى الفتح العربي الإسلامي
“- دار الراعي – سنة 2019 رام الله فلسطين المحتلة.
المصدر: الحوار المتمدن