أحمد الجمال
من أثقل وأرخم الأعباء التى قد يبتلى بها المرء، أن يضطر بين حين وآخر لمناقشة قضية أصبحت وأضحت وأمست محسومة فى عقل ووجدان قطاعات هائلة من البشر، الذين يتحقق فيهم معنى الإنسانية، وتراهم منتشرين فى أصقاع الأرض.
والقضية هى العدوان الصهيونى على شعب فلسطين، الذى كانت آخر حلقاته ما حدث منذ أيام لا تتجاوز الشهر.. أما الحسم فهو أن كل هؤلاء البشر يدركون أنه عدوان، وأنه عنصرى، وأنه استيطانى، وأنه مدان بمعايير الشرعية الإنسانية والشرعية الدولية والشرعية الأخلاقية، وأنه يعتمد على القوة الغاشمة المدعومة سياسيًا وعسكريًا من دول ودوائر بعينها، والمفاجأة- التى لن تسر البعض هنا فى مصر، وفى بعض الدول العربية- هى حدوث تحولات فى دوائر أوروبية وأمريكية، بقيت عبر عشرات السنين مساندة للصهاينة مساندة مطلقة على طول الخط، ومنها صحيفة «الجارديان» البريطانية العريقة، التى لم تكتف باتخاذ موقف سلبى ضد إسرائيل، بل اعتذرت عن وقوفها مع وعد بلفور لدى صدوره قبل أكثر من مائة عام، وترتبت عليه إقامة دولة إسرائيل فى فلسطين، وقد اعتبرت الصحيفة ذلك الموقف- بتأييدها وعد بلفور- من أفدح الأخطاء التى ارتكبتها فى تاريخها الممتد لمائتى عام.
ومع «الجارديان» الرصينة- التى تحترمها النخبة البريطانية ويحترمها قراء كثير عبر العالم- تأتى هيئة الإذاعة البريطانية التى تحولت نسبيًا، بل إلى حد كبير، عن انحيازها لإسرائيل، حيث نشر موقع BBC بتاريخ 22 /5 /2021 مقالًا بعنوان «تحول مزلزل فى سياسات الحزب الديمقراطى الأمريكى تجاه القضية الفلسطينية»، ثم نشر مقالًا آخر فى 24 /5 /2021 يتساءل فيه عن حجم المساعدات الأمريكية لإسرائيل، وكلا المقالين يشير إلى تحول فى موقف تلك الهيئة.. ثم تأتى صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، التى نشرت فى 26 /5 /2021 تغطية نادرة تتضمن صور وأسماء وقصص الأطفال الفلسطينيين الذين قتلتهم آلة الحرب الصهيونية فى عدوانها الأخير على غزة وبلغ عددهم 66 طفلًا وطفلة، وقد أفردت الصحيفة لذلك مساحة كبيرة على خلفية سوداء حدادًا عليهم، وكان العنوان بدوره شديد العمق: «كانوا مجرد أطفال»!.
وإلى جانب كل ذلك، كانت المظاهرات الشعبية فى مدن أوروبا وأمريكا تندد بالممارسات الإسرائيلية، ولم يتخلف قادة رأى ومشاهير وفنانون أوروبيون وأمريكيون عن اتخاذ الموقف ذاته عبر مواقع التواصل الاجتماعى والفيديوهات الكثيرة، إضافة لمواقف مماثلة لأعضاء برلمانات ومجالس منتخبة فى دول أوروبا وأمريكا، بل إن شابًا أمريكيًا يهوديًا شرح كيفية تحوله هو وأبناء جيله اليهود من تأييد إسرائيل والحرص على قضاء عطلاتهم الصيفية هناك إلى الوقوف مع الشعب الفلسطينى، بعد أن لمسوا حجم الظلم الواقع على أهل فلسطين، ثم إن أمرًا لافتًا للنظر حدث فى الولايات المتحدة، حيث قام 500 ناشط أمريكى من الحملة الانتخابية لبايدن ومن اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطى بالتوقيع على رسالة تدعو الرئيس الأمريكى إلى معاقبة الحكومة الإسرائيلية على جرائمها بحق الفلسطينيين.
ونقلت جريدة «واشنطن بوست» أن الرسالة دعت بايدن إلى بذل المزيد من أجل حماية حقوق الفلسطينيين ومحاسبة إسرائيل على عدد القتلى غير المتكافئ الذى تسببت به القوات الإسرائيلية، مقارنة بتلك التى تسبب بها المسلحون الفلسطينيون- حسب قول الصحيفة.
هذه بعض الإشارات التى قلت إنها لن ترضى بعض المصريين والعرب ممن هم متهالكون لنيل رضا الأعتاب الصهيونية.
وبمناسبة حكاية أعداد القتلى التى تضمنتها رسالة ناشطين أمريكيين للرئيس بايدن، فإن لدينا فى صحافة مصر من كتبوا فقارنوا بين عدد من قتل وأصيب من الصهاينة بسبب الصواريخ الفلسطينية، وبين عدد من قتل وأصيب من الفلسطينيين، إضافة لمساحة وحجم الدمار بسبب القصف الإسرائيلى، ولم تكن المقارنة عندهم إلا للتهكم والسخرية الضمنية، وتأكيد أن مضار المقاومة أكبر بكثير من فوائدها، هذا إذا كانت لها فوائد أصلًا لديهم، وهم يعتمدون على أكذوبة طالما سادت وتركت آثارها السلبية فى حياتنا، هى أكذوبة أن «الأرقام لا تكذب»، وهكذا على إطلاق الأمر.. وعليه، فإن كلامهم وتحليلهم يقوم على حقائق رقمية لا تحتمل الكذب، ويا ويل وسواد ليل من يجرؤ على المناقشة، وكلنا يذكر الاقتصادى الذى سماه السادات «إيرهارد مصر»، وأظنه كان الدكتور عبدالرزاق عبدالمجيد، الذى كان يعتمد على الأكذوبة الرقمية.. وكانت النتيجة أنه لا مصر أصبحت ألمانيا على يديه ولا إيرهارد تمصر بسببه.
إنهم مع لغة المقارنات الرقمية يغفلون كل الجوانب المتصلة بأوضاع أطراف الصراع، ولم يتساءل الخبير الاستراتيجى- صاحب المقارنة- عن كيفية صنع غزة للصواريخ فى ظل حصار محكم، ولا ذكر حجم الاقتصاد وحجم الخبرات العلمية والتقنية وحجم الجيوش وحجم المساعدات والدعم وحجم التسليح وغيره من الجوانب لدى الطرفين، لتصبح المقارنة قريبة من الموضوعية النسبية.
ومن أسف أننا إذا قارنا بين مواقف نخب أوروبية وأمريكية وتوجهات صحف هناك، ومعها الرأى العام، وبين أمثال ذلك الخبير الاستراتيجى، ومعه أحدهم من مقترفى الكتابة الذين يستميتون لأجل أن تنتظم مصر فى هوية واحدة مع الصهاينة؛ فسوف نجد أن مواقف الأوروبيين والأمريكيين أكثر إنسانية وأعمق حضاريًا وثقافيًا وأقرب إلى الموضوعية السليمة.
وبالمناسبة، ولأن التكرار يعلم الشطار ومعهم آخرون، فإن موقفى من اتخاذ المرجعية الدينية الأصولية الإسلاموية أساسًا للصراع فى فلسطين وفى المنطقة هو الرفض البات، سواء كان ممثل تلك المرجعية هو حماس أو حزب التحرير الإسلامى أو الإخوان أو غيرهم، وبقى أن يحدد الآخرون موقفهم ممن يتخذون المرجعية الدينية الأصولية التوراتية ومعها المرجعية الاستعمارية الاستيطانية العنصرية العدوانية أساسًا لصهيونيتهم ودولتهم.. وأتمنى أن أقرأ شيئًا عن ذلك.
المصدر: المصري اليوم