معقل زهور عدي
شهدت سورية أفضل فترة ديمقراطية في تاريخها الحديث بين الأعوام 1954- 1958، وأتاحت تلك الديمقراطية نمو حركة شعبية لعبت دورا فاعلا في السياسة ، وإذا كنا بصدد البحث عن أهم العوامل التي أدت لصنع وحدة مصر وسورية عام 1958 فلاشك أن الحركة الشعبية التي تعاظمت ضمن البنية الديمقراطية للدولة كانت الأهم على الاطلاق .
لم تكن الأرستقراطية السورية بمعظمها متحمسة للوحدة ، لكنها لم تكن أيضا قادرة على الوقوف بوجه المد الشعبي ، أما الجيش فقد كانت قياداته موزعة بين فريق ينتمي للحركة الشعبية وفريق آخر أقل قوة يجد ولاءه الاجتماعي والفكري ضمن بوتقة البورجوازية المدنية ذات الجذور الاسلامية – التقليدية والليبرالية .
وبعد ثلاثة أعوام وبفضل تراكم الأخطاء السياسية في إدارة العملية الوحدوية ، وغياب الديمقراطية ، أصبح الطريق ممهدا أمام النزعة الانفصالية التي أحنت رأسها للمد الشعبي الوحدوي منتظرة الفرصة للانقضاض على الوحدة .
لقد تم نزع سلاح الوحدة بإبعاد الشعب عن الفعل وغياب الديمقراطية. ذلك هو اليوم مجرد تاريخ مرت فوقه مياه كثيرة ، لكن درسه مازال حاضرا ، فالديمقراطية كانت البيئة والحاضنة للوحدة الحقيقية الوحيدة في تاريخ العرب الحديث .
منذ انهيار الرابطة العثمانية وخروج المشرق العربي منها في عام 1918 بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ، لم تتمكن الدول التي أنشأتها اتفاقية سايكس بيكو من خلق أوضاع مستقرة في المشرق العربي ، وأوضح مثال على فشل تلك الدول هو الحالة التي انتهت إليها الدولة اللبنانية ، وكذلك العراق وسورية ، فالوطنيات الناشئة كانت أضعف من العصبيات الطائفية ، وذلك ما أدركه وعمل عليه الغرب بنجاح .
يطرح فشل الدولة القطرية خيارين فإما أن نجد طريقة لإحياء الوطنيات التي أوشكت على الانهيار ، أو أن نجد طريقة لبناء رابطة فدرالية تضم دولا مثل سورية ولبنان والعراق. ومثل تلك الرابطة يمكن أن تمتص النزعات الطائفية ، وتخلق فرصا أوسع للنهوض الاقتصادي ، ويمكن لها أن تكون أكثر استقرارا على المدى الأبعد .
لكن شرط مثل ذلك الاتحاد يمر بالضرورة بالديمقراطية ، أما الاتحاد بالقوة على طريقة بسمارك وكما تسرب تأثيره لفكر حزب البعث فلم يعد ممكنا واقعيا ، أما التفكير فيه فلن يقود سوى لمزيد من التمزق .
وقد ظهر تأثير مثل ذلك التفكير في اجتياح صدام للكويت وضمها للعراق واعلان الكويت إحدى المحافظات العراقية فماذا كانت نتيجة ذلك ؟
الديمقراطية أولا ، والديمقراطية كمدخل لإحياء الحياة السياسية وإدخال الشعوب كفاعل في الحكم والقرارات المصيرية ، وفي أحضان الديمقراطية يمكن إعادة تأسيس فكرة الوحدة بطريقة عقلانية تستند إلى مصلحة الشعوب في توسيع السوق الاقتصادية وخلق دولة فدرالية أكثر استقرارا ، دولة قادرة على منح الأقليات حقوقهم القومية والثقافية دون أن يتسبب ذلك في زعزعة الكيان الوطني .
ويمكن لمثل تلك الدولة أن تخلق استقرارا سياسيا واقتصاديا أفضل للمنطقة التي تمزقها النزاعات الداخلية ، وستكون بمصلحة السلم العالمي والاستقرار الاقليمي .
ورغم أن المرحلة الحالية تبدو بعيدة عن تحقيق مثل ذلك الهدف ، لكن ضرورة إظهاره تنبع من المحاولات المستميتة لدفن فكرة الوحدة العربية وإقناع الأجيال الجديدة أن تلك الفكرة قد ماتت وأن الحديث فيها ضرب من الخيال .
أليس من المستغرب أن يكون لجميع القوميات الحق في التفكير بهدف الوحدة وأن يكون ذلك التفكير ممنوعًا ومستهجنًا على العرب .