العقيد عبد الجبار العكيدي
أبلغت الرئيسة المشتركة لمجلس سوريا الديمقراطية “مسد” إلهام أحمد، قادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، قبل أيام بالتحضر والاستعداد لانسحاب محتمل للقوات الأميركية من شمال شرق سوريا.
تصريحات تأتي بعد سلسلة تحركات أميركية تشير إلى انسحاب قواتها من عدد من المناطق في الشرق الأوسط، كان أبرزها الانسحاب من أفغانستان، بعد توقيع اتفاق مع حركة طالبان برعاية قطرية، بالإضافة إلى اتخاذ خطوات عملية لتخفيض عدد القوات الأميركية في دول الخليج.
وعندما يتم ربط ما سبق بالحديث عن انسحاب أو تقليص لهذه القوات في العراق وسوريا، فإننا أمام واقع يشير بوضوح إلى استراتيجية جديدة تتعلق بالتواجد العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وما يخشاه ويحذر منه حلفاء واشنطن أن يكون إعادة التموضع شمال شرق سوريا يأتي ضمن بازارات سياسية أكبر ترتبط بملفات عالقة بينها وبين روسيا، أو أطراف أخرى، مثل ملف أوكرانيا والملف النووي الإيراني.
وإذا كنا معنيين في هذا المقال بالحديث بالدرجة الأولى عن مستقبل الوجود العسكري الأميركي في سوريا وأهميته، فإن هذا يجعلنا محكومين بالضرورة بمحاولة فهم واستكشاف طبيعة النوايا الأميركية الجديدة على هذا الصعيد.
لم تكشف الولايات المتحدة حتى اليوم عن عدد جنودها وحجم قواتها في سوريا، والموجودة في إطار التحالف الدولي لمكافحة تنظيم (داعش)، وينحصر تواجدها في شرقي الفرات والتنف، في 28 موقع عسكري، موزع بين قواعد ونقاط عسكرية، أهمها:
قاعدة رميلا شرق القامشلي، قاعدة تل بيدر شمال محافظة الحسكة، قاعدة حقل كونيكو للغاز، شمال شرق دير الزور، حقل العمر النفطي، الذي يعتبر مقر قيادة قوات التحالف الدولي في سوريا، حقل التنك، حقل الجفرة النفطي، قاعدة الشدادي، قاعدة عين العرب (كوباني)، قاعدة ديريك بريف الحسكة، بالإضافة إلى قاعدة التنف العسكرية على الحدود السورية-الأردنية، وهي القاعدة الأكبر في سوريا.
وكما سبقت الإشارة، فإن المبرر القانوني الذي ستستند عليه واشنطن في حال قررت الابقاء على قوات عسكرية تابعة لها في سوريا هو التفويض الممنوح للعمليات المرتبطة بتهديد تنظيم داعش والجماعات الإرهابية المتطرفة التي تشكل، من وجهة نظر أميركية، تهديداً لأمنها القومي.
أما من الناحية الجيواستراتيجية، وهذه في الواقع هي الأسباب الحقيقية للتواجد العسكري الأميركي، هو منع التوسع الروسي، بالإضافة إلى الحد من نفوذ إيران والتنظيمات المرتبطة بها في سوريا والمنطقة، والتي تشكل تهديداً لحلفاء واشنطن في المنطقة (الأردن ودول الخليج العربي) بالإضافة إلى إسرائيل.
أما الحديث عن بقاء القوات العسكرية الأميركية، فما ينطبق على الوضع في سوريا ينطبق على الوضع في العراق، فالبلدين يشكلان اليوم وحدة عضوية بالنسبة لاستراتيجية التواجد الاميركي وطبيعة التهديدات الموجبة لاستمراره، وأولها طبعاً مواصلة دعم شركائها في محاربة الإرهاب، إلى جانب عرقلة التمدد الإيراني الهادف إلى تحقيق حلم النظام بفتح الطريق من طهران الى المتوسط، مرورا بدمشق وبغداد.
الدافع الثالث هو ضرورة الحفاظ على حالة التوازن مع روسيا الطامحة بقوة للوصول إلى هذه المساحة المنطقة (شرق سوريا وغرب العراق)، وعليه لا يمكن تصور أن واشنطن يمكن أن تغادر سوريا بهذه البساطة وتترك لروسيا فرصة أن تأخذ مكانها، خاصة وأن قوات سوريا الديمقراطية كانت مستعدة دائما للتعاون والتحالف مع موسكو ونظام الأسد.
وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن ما يعزز فكرة البقاء الأميركي هو أن المخاطر التي تواجه القوات العسكرية (قليلة العدد) في هذه البقعة تكاد تكون شبه معدومة، رغم أن هناك من يرى أن أميركا إذا أرادت الخروج من سوريا والعراق فإنها تفعل ذلك مدفوعة بالدرجة الأولى أن تكون قواتها بعيدة عن متناول الهجمات التي تشنها الميليشيات المرتبطة بإيران، والتي من المحتمل جداً أن تتزايد كلما تأزم الوضع بينها وبين واشنطن، أو تعرقلت محادثات فيينا حول الملف النووي، إلا أن هذه المخاطر لا تعتبر ذات بال عندما تقارن بالمخاطر الكبيرة التي يمكن أن تنتج عن انسحابها، وأولها ملء الفراغ الذي سيخلفه هذا الانسحاب من قبل خصومها إيران، روسيا.
هل ستنسحب أميركا بالفعل؟
يبدو أن المزاج الأميركي العام والسياسيين هناك يميلون للانكفاء عن المناطق الخطيرة، والتي ليست ضمن دائرة التهديدات المباشرة، من أجل التفرغ لمواجهة الصعود الصيني في المناطق الأكثر حساسية وحيوية بالنسبة للولايات المتحدة (بحر الصين الجنوبي-جنوب شرق اسيا) بالإضافة إلى افتراض أن هذا الانكفاء العسكري سيوفر الكثير من الناحية الاقتصادية التي يمكن توظيفه في مواجهة الصعود الاقتصادي للصين أيضاً، رغم أن كلفة التواجد العسكري في شرق الفرات والتنف منخفضة جداً، وهي بالعموم مناطق مكشوفة قابلة للحماية والرصد بسهولة، خاصة وأنها مؤمنة بقوات “قسد” برياً، والتمويل توفره عائدات النفط والزراعة.
أما بالنسبة لقاعدة التنف فتعتبر امتداداً للتواجد الأميركي في الأردن، ولم يسجل في أي من المنطقتين تهديداً أمنياً حقيقياً يستوجب زيادة الاعتمادات الأمنية أو التعزيزات العسكرية، وأغلب هذه التكاليف مغطى من الدول الموجودة فيها، كدول الخليج العربي، بالإضافة لمصادر أخرى كصندوق التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب.
وعليه فإنه لا يمكن الاعتقاد بوجود انسحاب عسكري أميركي بالصورة والشكل وإنما إعادة انتشار وتموضع، وربما خفض حجم القوات، والاستعاضة عن ذلك بالتفوق التكنولوجي العسكري، ورمزية العلم الأميركي.
كما أن أي انسحاب كامل وناجز سيؤثر وسيزيد من اهتزاز ثقة حلفاء واشنطن بها، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي تخذل فيها واشنطن حلفاءها، كما فعلت مع حكومة كردستان العراق بعد الاستفتاء على استقلال الاقليم في خريف العام 2017، وسحبها لمنظومة صواريخ باتريوت من الحدود التركية-السورية، في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2015، وتخليها عن حليفها المهم في المنطقة، المملكة العربية السعودية، في مواجهة ميليشيا الحوثيين في اليمن، بل حتى إسرائيل ذاتها غير راضية عن التفاعل الأميركي مع التهديدات الإيرانية، فكيف سيكون حال دول الخليج الأكثر تأثراً بتلك التهديدات، وقوات سوريا الديمقراطية التي ستكون عرضة للانقراض، في حال انسحاب القوات الأميركية، وفريسة سهلة للجيش التركي وقوات الجيش الوطني السوري المتحالفة معه.
إن الانسحاب العسكري الأميركي من عدمه يحدده توازن عاملي الأهداف الاستراتيجية من جهة، والكلفة البشرية والاقتصادية للبقاء من جهة أخرى، إضافة الى مدى التأثير في توجهات الرأي العام (التسويق السياسي) الذي سيظل يعتمد على سردية محاربة الإرهاب القابل للتسويف بطبيعة الحال، من أجل السماح ببقاء العسكر الأميركي في سوريا والمنطقة لأطول وقت ممكن.
أما العامل الاستراتيجي فيتمثل بالدرجة الأولى بالصراع مع إيران، والحفاظ على أمن اسرائيل المهم بالنسبة لواشنطن، أما في سوريا فالصراع الأساسي على النفوذ مع روسيا وإيران ، ومع تركيا بدرجة أقل يبرز كدافع مهم ، وكذلك يسهم هذا البقاء في منح إدارة بايدن القدرة المستمرة على لعب دور في أي تسوية سياسية فيها.
أما الانسحاب فيعتمد عامل المتغيرات الاستراتيجية، أو تجنب زيادة الأعباء الاقتصادية أو الخسائر البشرية، وهي عوامل متغيرة، وبالتالي يبقى احتمال الانسحاب وارداً ولو بدرجة أقل، وهنا لا بد من ملاحظة ما جرى مؤخراً من فتور في العلاقة مع “قسد” نتيجة عدم مراعاتها للملاحظات الأميركية، وتوجه الأخيرة الى خطة تدريب وحدات حرس حدود يقدر عددهم ب (3000 ) مقاتل من المكون العربي، ربما تعتمدهم أميركا كقوى بديلة، خاصة في حال أوكلت مهامها شرق الفرات لتركيا ضمن تفاهم ما، وهذا احتمال قائم، مع زيادة النزوع الأميركي الى الاعتماد على المكونات الأخرى في المنطقة.
من الواضح أننا أمام انكفاء أميركي عن المنطقة، لكن لا يمكن القول إنه سيكون كاملاً، ويبدو ان أميركا لديها مشاكل تتعلق بفهمها للتطورات الحاصلة في العالم، وتعاطيها مع هذه التطورات المتسارعة، بالإضافة لمشاكلها الداخلية بسبب ما يبدو أنه شيخوخة مؤسسات الحكم البيروقراطية التي تكلست وأصبحت تشكل عبئاً على حساب الأفكار والمرونة التي تتطلبها سرعة التطورات، عكس الصين الدولة الفتية المرنة المندفعة، وعكس الحماسة الروسية والجرأة والطموح الواضح لديها لاستعادة دورها العالمي.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هل ستتنبه أوروبا وبريطانيا صاحبة الدور التاريخي في الشرق الأوسط، والتي تعتبر هذه المنطقة منطقة نفوذ تقليدي لها، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمواجهة روسيا، وبالتالي التحرك بناء على هذه المعطيات، أم أن القارة العجوز ما زالت تعيش في جلباب أميركا!؟
المصدر:المدن