محمد قجة
تروي المصادر التاريخية أن الامبراطور الروماني «نيرون» كان من أسرةٍ معروفة بالبطش والغطرسة وقسوة القلوب والسرور برؤية الدماء. وقد تكرّستْ هذه الخصال في «نيرون» الذي زاد على تلك الخصال الطيش والحماقة والإصغاء إلى رفاق السوء والابتعاد عن نصائح المخلصين.
كان المربي «سنكا» أحد الأساتذة الذين علّموا «نيرون» في صباه، ولكن أم «نيرون» كانت ترفض تعليمه الفلسفة لأنها تقود إلى إطالة التفكير، وإطالة التفكير تقود إلى الخور والضعف والتردد. ولذا آثرَت الأم أن ينشأ ابنها بعيداً عن الفكر الفلسفي العقلاني، وأن يبقى على طيشه وتهوّره وصلفه.
كان المربي «سنكا» واحداً من أبرز مفكري عصره، ولكنه لم يتمكن من توجيه «نيرون» في المسار العقلاني الحضاري، وكلما حاول أن يوبّخ «نيرون» الطائش، كان هذا يهرع إلى أمه يشكو لها تردّد «سنكا» وعقلانيته الخائبة، فتنهر الأم «سنكا» وتأمره بالكفّ عن ولدها المدلل.
اغتنم «سنكا» في أحد الأيام فرصة انفراده بالامبراطور المجنون «نيرون»، وخاطبه قائلاً:
سيدي الامبراطور.. ألا ترى أن الناس يشكون من بطشك ويصفونك بالتهور والحماقة، ويقولون أنك لا تصغي إلى نصائح الحكماء بل إنك أحطْتَ نفسك بجملةٍ من المتهورين الذين سيدمّرون البلاد ويفنون العباد؟ وإنني يا سيدي بحقّ تربيتي لك أرجو أن تعيد النظر بتصرفاتك وسلوكك.
أجاب «نيرون» غاضباً مستغرباً:
¬ومن هم هؤلاء الصغار الذين لا تعجبهم تصرفاتي؟ إنني أنا الملك الأوحد في الكون، وروما العظيمة هي القوة الوحيدة القاهرة التي لها حقّ التصرف في أي مكان في العالم. ألا تعلم أيها الفيلسوف أن الآلهة قد أوكلت إليّ مسؤولية إعادة ترتيب العالم بما يخدم مصالحي ورؤيتي وقضيتي؟ وإذا كانت هذه رغبة الآلهة، فلماذا أصغي إلى أصوات ضعفاء مترددين مثلك؟ ولماذا لا أغتنم الفرصة لأمدّ ظلّي القدير على الغرب والشرق وأجعل الناس جميعاً عبيداً لي، وأجعل بلادهم مزرعةً ملحقة بقصري الأبيض المنيف فوق تلة العالم؟
قاطعه الفيلسوف «سنكا» قائلاً:
¬ولكنك يا سيدي أسرفتَ في التهور، ها هي روما في داخلها تشكو العوز والبطالة وكثرة الديون التي أرهقتها، وها هي المؤسسات تعلن إفلاسها، والفساد منتشر على أوسع نطاق، والناس يقولون أنك مع حاشيتك غارقون في هذا الفساد، وأنكم تكذبون ليل نهار على الناس في المعلومات المزوّرة التي تقدّمونها إليهم. لقد طفح الكيل ولا بد من إعادة النظر في السياسات المرسومة.
حتى جدّتك العجوز «أوريانا» تشكو من طيشك وقد أخذتْ تبتعد عنك وتتخذ موقفاً مخالفاً بل معادياً، وتؤلب عليك بقية البلاد.
ضحك «نيرون» بصوتٍ مدوّ، وحدّق في الفيلسوف «سنكا» ثم صرخ فيه:
¬كل هذه الأقوال السخيفة لا تعنيني، وجدتي التي تتحدث عنها أصبحت مخرفة لا آبه برأيها، وهي ليست سوى جثّة هامدة. إن الذي يهمني هو هذا الذهب المتدفّق في بلاد سومر وأكّاد، ذهبٌ يجب أن يكون لي وحدي، وإذا أرادت جدتي شيئاً منه فلا بأس أن أُلقي اليها بالفتات.
قاطعه «سنكا» قائلاً:
ولكن هذا الذهب له أصحابه، وهم لن يسمحوا لكَ بأخذه، بل سيدافعون عنه وعن بلادهم.
اسكت ايها الاحمق.. أجاب «نيرون».. فالذهب للأقوى، ولا يهمني مَن صاحب الأرض ومَن صاحب السماء، إن عجلاتي الحربية المرعبة ستسحق كلّ مَن يقف في طريقي. وسأعتبر كلَّ مخالفٍ لرأيي رجلاً إرهابياً يستحق اللعنة والموت. يبدو أنك يا «سنكا» قد نسيتَ أنني أحرقت روما لأتلذّذ بمنظر النار وهي تلتهم الأبراج العالية، ولكنني في الوقت نفسه استطعتُ أن ألصق التُهم بالإرهابيين الذين تسلّلوا إلى روما، وهكذا ضربت عصفورين بحجرٍ واحد. وأنا الآن ألاحق الإرهابيين الذين يهدّدون مملكتي ويعترضون مشيئتي.
أطرق «سنكا» حائراً وقال:
سيدي الامبراطور.. ثقْ أنني أُخْلص لك النصيحة، إنّ هذا الطيش سيجرّ عليكَ الهلاك.. ألم تسمع بمن قبلك مِن الملوك الذين اغترّوا بقوتهم، ثم أتتهم الكارثة من حيث لا يحتسبون؟ إن أصحاب الذهب لن يسكتوا وسيجدون من يساعدهم في قضيتهم لأنها قضية عادلة.
أجاب «نيرون»:
لقد مللتُ من حديثك يا «سنكا».. لو كان أصحاب الذهب يغارون على ذهبهم كما تقول، لرأيناهم يتحركون ويصرخون ويحتجّون ويشكّلون الجبهات المقاومة. ولكن، ألا ترى أنهم نائمون نومةَ أهل الكهف، وأنهم لا يحسّون بالسكين في أعناقهم؟ انني يا «سنكا» لم أجد مَن يقف في وجهي ويقول لي (لا).. ولذلك صرختُ فيهم قائلاً: انتبهوا.. لقد انتهت اللعبة.. إنني قادم!
(محمد قجة/ صفحة التجمع العربي للتنوير)
المصدر: الحوار نيوز