د. أحمد حمّود
بعد كل ما شهدناه خلال أكثر من خمسة عقودٍ منذ رحيل عبد الناصر في 28 أيلول/سبتمبر 1970، يمكن التأكيد من جديد أن وفاته كإنسان كانت محطة رئيسة، ولكن ليست وحيدة، من محطات غياب وتغييب الناصرية كمشروع نهضوي عربي.
فالمحطة الأولى كانت تنفيذ تحالف أعداء النهوض العربي، من الداخل ومن الخارج، لمؤامرة انفصال سورية عن مصر في 28 أيلول/سبتمبر 1961، وبالتالي ضرب الجمهورية العربية المتحدة، الذي ما زالت تداعياته الخطيرة تتوالى رغم مرور ستة عقود.. وما زالت مخططات الأعداء تهدد العديد من بلداننا بالمزيد من التفتيت والتدمير.
ثم أتت المحطة الثانية أي هزيمة حزيران/يونيو 1967، التي بدورها شكّلت مع الانفصال مصدراً آخر لإنتاج التداعيات السلبية التي تراكمت ولعبت دوراً خطيراً في وصولنا الى الواقع المرير الراهن. وقد حمّل عبد الناصر نفسه مسؤولية هذه الهزيمة فتقدم باستقالته. لكن الرفض الشعبي الواسع ألزمه بالعودة عنها، مما دفعه لاستئناف المواجهة مع العدو الصهيوني عبر حرب الاستنزاف ولإعادة النظر في بناء كل شيء، الدولة والمجتمع والمؤسسات والجيش والفكر والبرامج.
لكن القدر لم يمهله، فكانت المحطة الثالثة بوفاته الفعلية في أيلول 1970، بعد انغماسه الكامل لمدة 11 يوماً، رغم خطورة وضعه الصحي، في عمل دؤوب متواصل وضغوط هائلة لإيقاف المواجهات الدموية بين الجيش الاردني والمقاومة الفلسطينية.
لكن وفاته لم تكن المحطة الأخيرة في غياب الناصرية، الذي بدوره جاء نتيجة لعدة ظروف ذاتية وموضوعية تقاطعت وتواكبت لتُنهي المشروع النهضوي، كان من أهمها ما يلي :
أولاً، إنقلاب أنور السادات في أيار/مايو 1971، الذي تخلى عن كل سياسات عبد الناصر في كل المجالات الداخلية والخارجية، وانتقل بمصر الى التبعية الكاملة لأمريكا تحت شعار 99 بالمئة من المشكلة ومن الحل بيدها. ليس هذا فحسب، بل وحوّل انتصار تشرين الأول/اكتوبر 1973 العسكري الى هزيمة سياسية وخاصة عبر زيارته للكنيست الاسرائيلي، ثم توقيعه لاتفاقيات كمب ديفيد عام 1979. والأخطر من ذلك كان تخلي مصر عن دورها وموقعها القيادي في المحيط العربي. إذ أن هذا التخلي، في الظروف الراهنة، يشكل المحور الرئيس للغياب الخطير المتواصل للمشروع العربي، حيث تتهشّم بلداننا بين مطرقة المشاريع المعادية، الأمريكي والروسي والإسرائيلي والإيراني والتركي وحتى الأثيوبي، وسندان أنظمة وقوى وأحزاب الاستبداد والفساد والإفساد.
ثانياً، فشل الناصريين والقوميين الذريع في حمل مشعل الناصرية، بدءاً من القيادات التي انقلب عليها السادات ووصولاً الى القواعد والتنظيمات في كل المواقع والساحات. وقد جاء الفشل رغم الجهود والمحاولات التي كان أهمها التنظيم القومي “الطليعة العربية” الذي تفكك عام 1985-1986، بعد انتشار خلاياه وتنظيماته في معظم البلدان العربية. وما زالت نتائج هذا الفشل تتوالى، رغم استمرار وجود الناصريين أفراداً ومجموعات وتنظيمات وشرذمات في مواقع وبلدان عديدة حتى اليوم… نشير هنا إلى أن حمل المشعل ليس تدبيجَ مقالات وخطب حماسية واحتفالات ونشر صور وأشعار ومدوّنات تضج بها وسائل التواصل والإعلام، وإنما هو إعادة إطلاق وبناء المشروع النهضوي بكل أبعاده وأركانه وقضاياه وتحدياته ومستلزماته.
ثالثاً، استغلال وتحالف الأنظمة مع الحركات الإسلامية، خاصة في مصر وبدعم من السعودية، وتوظيفها في محاربة الناصريين واليساريين عموماً تحت شعار “العلم والإيمان”، وبشكل مناقض تماماً للتفاعل الجدلي بين مختلف تيارات الأمة (القومي والديني والاشتراكي والليبرالي)، الذي تميزت به التجربة الناصرية وتنظيماتها. وقد تواكب ذلك مع سعي الغرب الأمريكي والأوروبي الدائم لهزيمة المشروع التحرري العربي، وتشجيعه لموجة ما سُمّي “صحوة اسلامية” تحت شعار مقاومة “الإلحاد والشيوعية”، فضلاً عن دعمه المتواصل لنمو الهويات الفرعية (إقليمية وإثنية ودينية ومذهبية و…) تحت شعار “حقوق الأقليات”، وذلك لإضعاف بل لإعدام الهوية العربية الجامعة.
وهكذا، بغياب عبد الناصر بعد الانفصال، غابت الوحدة وغاب رمزها الأهم، وغاب دور مصر الرئيسي ، وغاب التفاعل الجدلي بين تيارات الأمة، وغاب المشروع النهضوي العربي، مما صبّ لمصلحة مشاريع الهيمنة الخارجية والنفوذ الأجنبي وأدواته الداخلية والأنظمة المستبدة والنخب المتواطئة والأحزاب التقليدية الفاشلة والحركات الاسلامية الماضوية.
وإذا كان “في الليلة الظلماء يفتقد البدر”، فكيف بنا إذا كان سواد ظلمة ليالينا حالك بما لا يقاس ؟ !فبلادنا وشعوبنا، في الظروف الراهنة، تعاني من المخططات والهجمات والتدخلات الخارجية والاحتلالات المتعددة، ومن الاستبداد والفساد والتجزئة والتبعية والتخلف… أضف الى ذلك كل ما قامت وتقوم به قوى “الثورة المضادة”، داخلياً وعربياً وعالمياً، من محاولات تخريبية وحروب لتفكيك وإطفاء ثورات الربيع العربي، في كل البلدان العربية، حتى في تونس البوعزيزي..
من هنا تأتي أهمية الظاهرة الشبابية التي فتحت باب الأمل بالتغيير عبر انتفاضات الربيع العربي العفوية منذ عام 2011، والتي تتمحور حول ديناميةِ أجيال جديدة متعلِّمة ومتمرِّسة باستعمال الوسائل والتقنيات الحديثة. هذه الأجيال لم تعد ترضى العيش في ظل عَفَنِ أنظمة الإستبداد والفساد وتواطؤ النخب وفشل الأحزاب والتنظيمات، فتتجاوز جدران العزل والتشرذم وتتلاقى مع بعضها البعض، بكل تنوعاتها ومشاربها وأطيافها وانتماءاتها، لتُعيد الإعتبار لانخراط كل الناس في العمل السياسي، ولتُطلق عمليات “التفاعل الجدلي” والنضال المشترك فيما بينها من أجل التغيير.
هنا تجدر الإشارة إلى أن جماهير الربيع العربي لم ترفع الكثير من الشعارات الوحدوية والعروبية، لكنها حملت قضاياها وهمومها الوطنية وتفاعلت فيما بينها، وخرجت الى الشوارع رافعةً نفس الشعارات ومن أجل نفس الأهداف. وليس صدفةً أن هذه الأهداف تتقاطع الى حد بعيد، رغم اختلاف الظروف، مع الأهداف التي تميّز بها مشروع الناصرية النهضوي، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، ليس مهمّاً أبداً أن تحمل شعارات الربيع العربي الصفة الناصرية، ولم يكن عبد الناصر مهتمّاً باطلاق اسمه على المشروع النهضوي العربي.. وإنما المهم أن تتولى نخب وقوى وشباب الأمة إستيلاد هذا المشروع من جديد، وحمل مشعله والنضال بدون هوادة من أجل تحقيق أهدافه.
وهكذا يبقى الأمل معقوداً على القوى الشعبية وخاصة على أجيال الشباب الجديدة التي، على الأقل، سبق وحطمت حاجز الخوف، وفتحت باب التغيير وأطلقت مساراً تحررياً متعرجاً معقّداً، وهي تعي أن التغيير وتحقيق الإنجازات لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها، وأن طريقه طويلة ومحفوفة بالكثير من المصاعب والتحديات والمخاطر والتضحيات والمعارك والمواجهات.
إن الشعوب العربية ما تزال قادرة على الخروج سلمياً للتعبير عن غضبها ومطالبها، رغم كل مؤامرات “الثورة المضادة” الداخلية والخارجية. ولن يجدي كل ما تمارسه أنظمة الإستبداد والفساد من محاولات التخويف وكم الأفواه والقمع والعنف، لمنعهم من مواصلة النضال من أجل حقوقهم في الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة والعيش الكريم.