محمود الوهب
لعلَّ التراجع الذي أصاب عدة أحزاب سياسية إسلامية في عدة بلدان عربية مسّها الربيع العربي وضع المتابع في دائرة التساؤل، بحثاً عن الأسباب الجوهرية لذلك التراجع، فتلك الأحزاب جميعها كانت قد وصلت إلى الحكم عبر صناديق الانتخاب، ومن خلال ناخبين مسلمين راغبين ومكلومين، وجاء أغلبهم بعد إسقاط حكام مستبدّين ممعنين في ظلم شعوبهم وتخلّف بلادهم، ومهزومين على غير صعيد ومجال.. فمن أين جاء ذلك التراجع، إن لم نقل الفشل؟
جاء الربيع العربي انقلاباً شعبياً باتجاه الحرّيات العامة السياسية والاجتماعية، ولتغيير مسارات استبدادية شوّهت أوطانها وشعوبها، وقاد إلى تراجعها عن مثيلاتها في دول كثيرة في العالم، وتخلُّفها عن مفاهيم حضارة اليوم وأدواتها، في زمن نمت فيه أجيال شابة، ذكوراً وإناثاً، على مفاهيم مغايرة، ورؤى جديدة جاءتهم بتأثير منجزات عصرهم من علوم وتكنولوجيا، وثقافة شملت الفكر والأدب والفنون بألوانها المختلفة، وحملت قيماً وعلاقات جديدة تتجاوز عاداتٍ وتقاليد كثيرة والنظرة إلى المرأة مكانة ودوراً.. صحيحٌ أن الشكل الانفجاري الذي حدث في كثير من بلدان الربيع لم يمهل تلك الأجيال لتكوين قياداتها، وأحزابها الجديدة، الأمر الذي جعل أحزاباً أخرى تقليدية في الفكر والممارسة تقفز إلى قيادة أولئك الشباب، وهي أحزاب تكاد لا تختلف في أمورٍ كثيرة عما كان سائداً.. إضافة إلى أن ظروف القمع السياسي الذي عاشته لم تسمح لها في خوض تجربة الحكم والتحالفات، والانفتاح على الآخر كما لم تمنحها الأساليب المعهودة لديها بالتقاط ما تطمح إليه الأجيال الشابّة من حرياتٍ تفسح في المجال، لتمكينهم من البدء بتنميةٍ شاملةٍ تطاول الاقتصاد والمجتمع، فكانت في ممارساتها تشبه، إلى حد كبير، جوهر الاستبداد الذي كان، فبقيت الحال على ما كانت عليه، بل لعلها تفاقمت في بعض البلاد إلى جانب نزيف الدم والخراب والتشرّد..
بدايةً، لابد من الإشارة إلى أن الدين حالة روحية فردية تمنح المؤمن، أياً كان دينه أو مذهبه، الاطمئنان إلى حياته ومصيره، كما يوفر الدين حالةً من التوازن الداخلي التي هي حاجة مهمة في حياة الفرد. ولم يكن الدين، في أي يوم، موضع صراع بين الناس، إلا إذا جاء غطاءً لغاياتٍ سياسيةٍ وأسباب تمسّ عيشهم مباشرة، سواء ضمن أفراد الدين الواحد أو شمل أدياناً مختلفة. وقد حدث قبل قرون أن توجّهت الجيوش الأوروبية إلى مناطقنا، وكانت قد جعلت الصليب شعاراً لها، وقد خطب البابا فيها فقال: “هلمّوا إلى بلاد السمن والعسل” .. العبارة التي كشفت غاية زحف تلك الجيوش نحو بلادنا، وتبيّن أن جوهرها هو الخلاص من حال الاقتتال الدائم بين أمراء الإقطاعيات المتناحرة، بسبب قلة الموارد. وفي المقابل، لم تكن الصراعات التي نشأت بعد وفاة النبي محمد حول أية فكرة من أفكار الدين الذي أتمّه في حجّة الوداع. وعلى الرغم من ذلك، أخذ ذلك الصراع طابعاً شديد العنف بين مسلمين شديدي القرب فيما بينهم، ما قادهم، في النهاية، إلى وجود مذهبيْن اثنين، وصلت ضحاياهما عبر معارك كثيرة إلى مئات ألوف المسلمين.. ولا تزال إيران تستغل الدين خدمة لمشروعها القومي وللتمدّد في بلدان الجوار عسكرياً واقتصادياً، فالدين، كأيِّ فكر أو إيديولوجيا، يمكن أن يُستعان به على قضاء بعض الحاجات، وقد تصل تلك الاستعانة أحياناً إلى الاستغلال، تغطيةً لمصالح محدّدة، ما يدخل المستغلّ في مسألة يرفضها الدين والمؤمنون به.. وعلى ذلك، يمكن تسجيل النقاط التالية:
– الإنسان ابن واقعه وبيئته فكراً وعملاً، والواقع متجدّد متبدّل، وذلك بديهي، مرئي بالعين المجرّدة، ومدركٌ بالعقل أيضاً، لا يحتاج أدلة ووثائق. وواجب السياسي قراءة الواقع في ضوء حاجات الناس الآخذة على الدوام بالتبدّل والتجدّد، ويعمل على تلبيتها. والمواطن، في نهاية المطاف، لا يسأل السياسي عن دينه أو مذهبه، بل عما قدّمه له، ولمواطنيه وللوطن عامة! فالواقع يفرض على السياسي أن يجعل الوطن والمواطن هدفه وغايته، فالمواطن هو عماد الوطن وأساس بنيانه وأمنه ورفعته.
– السياسة، في بعدها وعمقها، هي فن إدارة حياة الناس على الأرض. ولذلك هي خاضعة، على نحو أو آخر، لتلبية مصالح الشعب، في إطار سلامة الوطن وأمنه وتنميته، وعدم التمييز بين مواطنيه على أي أساسٍ كان، وفي ميادين الحياة كلها.. وما مصالح الناس غير تأمين وسائل عيشهم التي يأتي العمل في مقدمتها، فمن خلال العمل، يدخل الناس إلى تلبية حاجاتهم المادية من طعام ولباس وسكن، وتعليم وثقافة وتمتع بمباهج الحياة في أجواء آمنة ومستقرّة.. وذلك كله مرتبطٌ بالتنمية التي تأتي بفرص عمل جديدة، وعلى السياسي توفيرها لشعبه، بل لمن انتخبه وأعطاه بعض المزايا لقاء فعله ورغبته.
– مما سبق، يمكن الإشارة إلى عدّة السياسي التي هي وسيلته لإرضاء ناخبه، لا لينتخبه ثانية، بل لأن الوطن والمواطن هما موضوع السياسي الرئيس، الأمر الذي يُلزمه بإعداد برامج زمنية، تتضمّن كل مستلزمات حياتهما، والسهر على تنفيذها، سواء كان السياسي ممسكاً بالسلطة التنفيذية أم خارجها. ولا يمكن للسياسة أن تُمارس دونما برامج تصل بين الحزب السياسي وأبناء شعبه، في أجواء من الديمقراطية، تسمح بتلمّس نبض الشعب، على نحو مباشر ودقيق.
– مشكلة الإسلام السياسي هي الخلط أحياناً، إن لم يكن دائماً، بين الجانبين، المادّي والروحي، بين ما هو مقدّس وما هو حياتي يومي. وبسبب ذلك تراه على قناعةٍ بأنه وحده من يمتلك الحقيقة المطلقة. وغالباً ما ينصّب السياسي الإسلامي نفسَه مكان الفقيه ويأخذ دوره، وهذا لم يكن على مدى التاريخ الإسلامي، اللهم إلا إذا استثنينا العقد الأول من العصر الراشدي، وسنوات قليلة من العقد الثاني.
– ظهر الإسلام السياسي في البلاد العربية وجهاً آخر لفكرة القومية العربية، فكلاهما عاد إلى الماضي، وعمل على استعادته، وشتّان بين استعادة الماضي والاستنارة بمحتواه، وكلاهما أعطى فكرته، وإن على اختلافهما، نوعاً من القدسية، ولم يربطها بالواقع المعيش المتباين. كما أنه لم يمعن في الواقع الدولي المتقدّم في ميادين العلوم والاقتصاد وفكرة الديمقراطية التي كانت فضاء رحباً لنهضة الغرب. وجرى خلطٌ في النظر إلى مواقف هذا الغرب السياسية من قضايانا وإلى الديمقراطية نظاما سياسيا، يمكن أن يكون سبيلاً لتجاوز التخلف. وما جرى عكس ذلك تماماً، فكلما ارتفع الصوت القومي لدى هذا الحاكم أو ذاك تفرّد بحكمه أكثر، واستبدّ بشعبه، وتخلص من معارضيه، وإن كانوا من حزبه ومؤيديه.
– نمت ظاهرة مساهمة المرأة في الحياة العامة فكراً وعملاً وإبداعاً مختلفاً، وعلاقات قائمة على المودّة والاحترام والمساواة فيما يخصّ شؤون الحياة المشتركة مع الرجل، ما فرض ضرورة العمل على تجاوز النظرة المستعلية، أو الاستعانة عليها، باسم الدين أو سواه، بمفاهيم صارت خلف البشرية، فلا يمكن للمرأة أن تُنجز كل ما يمكن أن يُنجزه الرجل، وربما تفوّقت عليه في هذا الجانب أو ذاك، ثم عليها أن تكون تحت أمره.. أو تكون ضحية عاداتٍ بالية لا علاقة لها بدين أو أي منطق سويّ.
خلاصة القول: لا يمكن للإنسان أن يتصدّى لبناءٍ حديثٍ بأدوات قديمة أو وسائل غير مناسبة، فلكل عصر ثقافته، ولكل عصر “دولته ورجاله”، بمعنى طرق إدارته وعقله المدبر الذي يعي واقعه، ويجيب عن أسئلته، ويلبي حاجاته.. فهل كان قادة الإسلام السياسي على قدر صرخة شارع الربيع العربي، أو حيث قدِّر لهم أن يحكموا؟ الوقائع تقول لا، فالفقر في ازدياد، وكذلك الفساد والبطالة، وكل ما ينجم عن ذلك من أمراض.
المصدر: العربي الجديد