محمود الوهب
لم يكتف النظام السوري بما فعله في سورية والسوريين من قتل وتهجير وتدمير وخراب شامل وبيعه كثيرا من ثروات الوطن، ما خفي منها وما ظهر، طاولت الأرض والإنسان، بل إنه ذهب إلى سلب السكان الأصليين بيوتهم وأراضيهم التي ورثوها أبناءً عن آباء وأجداد منذ آلاف السنين.. وإعطائها إلى مرتزقة أغراب، ما أتي بهم إلا لقتل السوريين وتهجيرهم. وقد قال بشار الأسد، في خطابٍ له أمام تجمّع فعاليات سورية في 26/7/2015، حين تهدّد نظامه بالسقوط، لبثّ روح الثبات فيهم: “إن الوطن ليس لمن يسكن فيه، ويحمل جواز سفره، وإنما لمن يدافع عنه، ويحميه، والشعب الذي لا يدافع عن وطنه لا يستحقّ أن يكون له وطن”. هكذا إذن: “الشعب” الذي لا يدافع عن وطنه، وهل ثمّة شعب في الوجود ماضياً وحاضراً لا يدافع عن وطنه؟! لكن بشار لا يرى الوطن إلا من خلال وجود شخصه، وعلى الشعب أن يدافع عنه فهو الوطن.
كان الجيش السوري في ذلك الوقت قد استنزف قواه، وشارف على هزيمة مؤكّدة.. وقد ميَّز الأسد في ذلك الخطاب بين “تعب الجيش” و”هزيمته”. ويبدو أنه كان يهيئ للاستنجاد بالروس، فما حدث بعد شهرين فقط أن روسيا دخلت إلى سورية، أي في 30 سبتمبر/ أيلول 2015. وليس دخول روسيا ما يهم كاتب هذه السطور هنا، ولا ما حصلت عليه لقاء قتلها السوريين وتهجيرهم، من مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية، وإنما هو عملية بيع القطاع العام رسمياً (للأصدقاء)، فقد نشر وزير الصناعة، زياد صبحي صباغ، إعلاناً في 26 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) يدعو فيه الراغبين إلى “إعادة بناء وتأهيل وكل ما يلزم لإعادة تشغيل منشآتها المتوقفة، والمدمّرة بفعل الأعمال التخريبية، وغيرها”. ونصَّ الإعلان على أن “تحتفظ تلك المؤسسات بنشاطها الأصلي الذي كانت عليه، أو أي نشاط آخر ينسجم وحال المؤسسة أو موقعها”. ولم يشر الإعلان إلى أية تفصيلاتٍ عن شراكة أو بيع. لكن عبارة “أي نشاط آخر” تعني أن لمن يعيد البناء أو التأهيل رأياً أو شرطاً، وهذا يعني أنه شريك أو صاحب ملك! ولذلك تصحّ كلمة بيع في مكانها المناسب، خصوصا إذا علمنا أن النظام محاصر بالديون، وهاجسه البحث عن المال بأي طريقةٍ كانت، حتى إن كانت سطواً كما جرى لبعض تجار حلب منذ أسابيع.
كان فراس طلاس قد كتب على “فيسبوك”: “بالتنسيق بين وحدة المتابعة التابعة للقصر الجمهوري في دمشق من جهة، وبين السفارة الإيرانية والحكومة الإيرانية من جهة أخرى، يجري تحويل أربعين منشأة صناعية تتبع القطاع العام إلى ملكية الحكومة الإيرانية عبر شركات متعدّدة مملوكة إما للوزارات الإيرانية أو للحرس الثوري الإيراني، ومنها: معمل جرارات السفيرة (الفرات)، معمل البرّادات بردى سبينة، ومعمل إطارات أفاميا في حماة على طريق السلمية، ومعمل تاميكو في المليحة ريف دمشق، ومنشأة حلب للإسمنت الإميانتي، ومعمل الشيخ سعيد/ حلب، ومعمل سجاد التل/ حلب، وشركة مطاط وبلاستيك/ حلب، وشركة السيرومات في الزربة/ حلب، ومقر تاميكو في ريف دمشق..” إضافة إلى معامل وشركات ومؤسّسات أخرى كثيرة.
لقد أسّس القطاع العام، في البداية، ليكون من ركائز دولة الاستبداد بعد الجيش وأجهزة الأمن. لا ليكون وسيلة وأداة رئيسة للتنمية كما أعلن، بل لعبت عمليات التأميم التي تتابعت، في سورية منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، دوراً في تخريب تجربة التنمية التي كانت تسير في صعود، وعلى نحو طبيعي، إذ يقودها أهلها من فئات البرجوازية المنتجة بحق. ولم يكن تخريب القطاع العام نشازاً عن كل ما جرى تخريبه في عهدي الأسد الأب والابن فيما بعد، بل إنه تساوق مع الفساد الشامل الذي لفَّ مؤسسات الدولة كافة.
وكان فشل القطاع العام منذ البداية متوقعاً، إذ عمل وفق قاعدة “الاقتصاد في خدمة السياسة” لا العكس. وعلى ذلك، فقد ولِّيت على القطاع العام إدارات جاهلة، فلا كفاءة لديها ولا خبرة، بل توّلته إدارات “حزب البعث قائد في الدولة والمجتمع”. وعلى ذلك، غدت المناصب مع الأيام للبيع، فلكل منصب ثمنٌ يقدَّر بما يدرّ على المستفيد، بدءاً من مدير المدرسة وانتهاء بالوزير وأعضاء مجلس الشعب، ومروراً بالمحافظين ورؤساء مجالس المدن وعموم الإدارات. أما المراكز التي يمكن التبادل فيها، فتُباع فيما بين أصحاب العلاقة أنفسهم، كنقاط الشرطة الدائمة على سبيل المثال، وبعض موظفي البلديات، وسوى ذلك.
ومن ناحية أخرى، صار قطاع الدولة ملاذاً للخاملين القادمين عن طريق الوساطات، إضافة إلى أنهم زادوا عن الحد، فالمعمل الذي يكفيه مائة عامل مثلاً كان النظام يحمله مئتين، إن لم يكن أكثر. وثمّة أمرٌ آخر، وجود أسماء وهمية تذهب رواتبها للإدارة، ولمن كان قد ولَّاها في الأصل. تماماً كما حال التفنيش في الجيش. ولذلك قدّرت إنتاجية العامل في سورية بثلث ساعة فقط، قياساً إلى بعض الدول المتقدّمة. وذلك كله، ولم نأت على ذكر الهدايا والسرقات، وما يُصنع من تماثيل، أو ينفق على الزينات في مهرجانات الدبك والرقص بأعياد الحاكم و”إنجازاته” و”انتصاراته”. وقد وصل الأمر بتلك الإدارات الفاسدة إلى تدبير حرائق في المعامل، لتغييب الوثائق وطمس الأدلة. فكم من معملٍ احترق بفعل “ماسّ كهربائي”، تماماً كمن انتحر بثلاث رصاصات في الرأس.
أما الأمر الثالث فيتعلق بنفقاتٍ إضافيةٍ نظامية، أي بحسب قوانين “البعث” وأجهزته الأمنية، ومنها ما تذهب مكافآت شهرية إلى شعب الحزب الموجودة في الحي أو المنطقة حيث المؤسسة المعنية، فالشعبة مشرفةٌ على كل ما في منطقتها من أنشطة اقتصادية أو ثقافية أو غير ذلك تبعاً للقاعدة ذاتها. وينطبق الأمر نفسه على الأجهزة الأمنية المعنية بحماية تلك المؤسسات، ومن مصلحة الطرفين التغطية على كل نواقص تلك الإدارات وسلبياتها.
لقد استمرّت الطبقة العاملة التي يحكم باسمها حزب البعث، تطالب في مؤتمراتها النقابية، وعبر تقاريرها المختلفة، بمعالجة أوضاع القطاع العام أربعين سنة، لكن قيادتها السياسية لم تهتد إلى حل. ويبدو أن تدمير سورية جاء غطاءً مناسباً، لصفقةٍ تفرضها ضرورة سداد ديون حرب النظام على الوطن والشعب، ومكافأة للقتلة على ما اقترفوه من جرائم وأوزار.. ويبقى السؤال: ما الذي تبقى من سورية للبيع؟
المصدر: العربي الجديد