إمبراطورية نوبل الأدبية !! هل يبدو هذا العنوان الصادم متفقاً مع لافتة تتشح بها أعظم جائزة عالمية يتسابق عليها الجميع – أفراداً وبلداناً – ؛ بل قد يتصارعون أحياناً لأنها الكفالة المضمونة بولوج جنة الخلود الموعودة مع كلّ امتيازاتها الاعتبارية والمادية ؟ أرى العنوان من جانبي في الأقل متفقاً كتوصيف عادل مع نوبل الأدب. نعم، صارت نوبل الأدب – وليس سواها من الجوائز النوبلية – إمبراطورية تشوبها علل كلّ الإمبراطوريات التي نعرف. كنّا حتى عقدٍ من السنوات، ومع اقتراب الموعد السنوي الثابت للإعلان عن جائزة نوبل للآداب، نترقبُ بشيء من المتعة والشغف هذا الماراثون الأدبي ونحن نتوقع فوز كاتبنا المفضل وسط موجات صاخبة حول توقعات الصحافة الأدبية في العالم وتوقع سوق الرهانات – الأقرب لرهانات سباق الخيل – عمّن سيكون صاحب الحظوة في نيل التكريم العالمي الأرفع بجائزة نوبل التي ستكفل للفائز شهرة غير مسبوقة مع الامتيازات المترتّبة عليها. لم يكن مثل هذا الصخب مع جوائز الطب أو الفيزياء أو الكيمياء أو الاقتصاد ؛ فثمة اتفاق شبه محسوم على أحقية الفائزين فيها. معيار النزاهة في نوبل العلوم تكاد أن تكون مطلقة ؛ أما في نوبل الأدب فثمة ظلال ودهاليز ومسالك معتمة.
تعدّت نوبل الأدب – بالتحديد – كونها امتيازاً فردياً لتصبح اكسسواراً لازماً تسعى له الدول لاستكمال مستلزمات هيبتها الجيوبوليتيكية. ” قنبلة ذرية ونوبل الأدب ” : هذا ماتسعى له كلّ دولة باعتبار أنّ القنبلة الذرية إشارة إلى القدرة العلمية الضاربة، ونوبل الأدب إشارة إلى التسامي الروحي في نطاق الرأسمال الرمزي ؛ ولأجل نيل الامتياز الروحي النوبلي توظفُ كل دولة أي قدرة متاحة لها للحصول على نوبل الأدب، وثمة حكايات مخزية ومشينة في هذا الشأن تطعن نزاهة نوبل الأدب يمكن للقارئ أن يعرف بعضاً منها إذا ماقرأ الموضوع المنشور في الصفحة الثقافية بالقدس العربي بتأريخ 8 أكتوبر 2019 تحت عنوان ( كواليس نوبل للأدب : رشاوى، وضغوط، وتآمر، وصفقات ). الأمر ليس بجديد ؛ بل حتى أن تشرشل يمكن أن يكون له يدٌ في هذا الشأن. كيف ؟ سأتركُ الأمر للقارئ لكي يقرأ المقالة أعلاه المدعومة بشهادات من أفراد ينتمون للإمبراطورية النوبلية.
تتمحور الموضوعة الخلافية التي أريدها مدخلاً لتأشير الخلل الخطير الذي أصاب نوبل الآداب في معيار النزاهة المؤسسة على قدر كافٍ ومتفق عليه من الموضوعية في تقييم كلّ من الإنجازات العلمية والأدبية، وهنا سيسارع الكثيرون لتأكيد تلك المقولات الشائعة بشأن “موضوعية العلم وذاتية الأدب” التي لم تعُد تُحسَبُ سوى مقولة رثّة عتيقة يتعكّز عليها بعض قليلي الموهبة والعمل الجاد في محاولة تمريرهم لأعمال تفتقد الحدّ الأدنى المقبول من الرصانة تحت لافتة أنّ الأدب فرشة واسعة تتحمّلُ قول أي شيء وكل شيء.
إنّ أصل الإشكالية في نوبل الأدب في مقابل نزاهة نوبل العلوم ليس ذا علاقة بطبيعة التأسيس المفاهيمي لكلّ من العلم والأدب ؛ بل يعود إلى نمطية مختلّة في نزاهة شبكة العلاقات التي تشكّل البنية البيروقراطية لكلّ منهما : لو أعملنا ذاكرتنا في إحدى جوائز نوبل غير الأدبية عبر السنوات السابقة لرأينا غياب مزادات التصويت للأسماء المرشّحة ؛ بل ثمّة على العكس شبه إجماع على الأسماء المستحقّة للفوز في حقول الطبّ والفيزياء والكيمياء والاقتصاد – باستثناء جائزة السلام التي ستظلّ مثلبة لن تسلم منها نوبل -، وواضحٌ أنّ وراء تسخين مزادات الخيول الأدبية شبكةً من دور النشر والعلاقات التجارية المحكومة باعتبارات التوزيع وتحقيق أقصى الأرباح المرتجاة.
لنخصّصْ حديثنا الآن لنوبل الأدب 2021 وملكها المتوّج . ذهبت السكرة وحان وقت العمل الذي يسابق الزمن لاقتناص فرصة لاتجود بها إمبراطورية نوبل الأدبية إلا مرّة كل عام ؛ إذ لاتكاد تمرّ سويعات على إعلان اسم الملك المطوّب على رأس مملكة الأدب حتى يسارع المستفيدون في ترتيب أجندتهم القادمة : طبعات جديدة من أعمال قديمة للفائز نُشِرت ببضعة آلاف وهاهي جاهزة للنشر بالملايين. إنه موسم (بزنس) في نهاية المطاف، ولاضير في هذا أبداً طالما اعتمد معايير النزاهة.
عرفتُ اسم الفائز النوبلي بجائزة الأدب 2021، عبد الرزاق غورناه (أو قرنح أو قرنة أو جرنة أو سواها ماشئت من الأشكال) قبل نحوٍ من عشر سنوات عندما كنتُ أشتغلُ على ترجمة كتاب (مقدّمة كامبردج في الآداب مابعد الكولونيالية). توقفتُ كثيراً عند إسمين هما Abdulrazak Gurnah و Aijaz Ahmed وردا في الفصل الأخير المسمّى ( أطفال العالم ) ضمن أسماء كثيرة يعرفها المتمرسون في حقل الدراسات الاستشراقية ومابعد الكولونيالية، وجُلّهُم من التلاميذ الخلّص لإدوارد سعيد حتى لو إختلفوا معه لاحقاً. قضيتُ أوقاتاً ليست بالقليلة في معرفة الجذر الاشتقاقي ( الإثنولوجي ) لكلا الإسميْن السابقين، كما قرأت مواد تختص بكلّ منهما وبالطريقة ذاتها التي فعلتها – وأفعلها – مع كل اسمٍ جديد يُعْرَضُ لي في سياق ترجمة كتاب أو مقالة أو حوار.
عبد الرزاق غورناه
أثارت فيّ مسألة فوز عبد الرزاق غورناه جملة من الموضوعات الإشكالية سأتناولها في سياق سريع :
أولاً : ليس الجهل بِـ (عبد الرزاق غورناه) قبل فوزه بنوبل الأدب مثلبة أو دالة على جهلنا المفترض وبخاصة لدى عموم القراء. لماذا نريدُ من قارئنا العربي أن يكون غولاً معرفياً يحيطُ بكلّ الأسماء الأدبية أو الثقافية العالمية وبخاصة أنّ دور النشر العربية لم تترجم له شيئاً من قبلُ ؟ هل يعرفُ كل القرّاء الغربيين نجيب محفوظ الذي حصل على نوبل الأدب قبل أكثر من ثلاثين سنة ؟ معرفة أسماء الأدباء والروائيين المعاصرين ليست إشارة إلى سعة الثقافة أو شرطاً لها. لم يسمع الكثير من القرّاء العرب مثلاً بالروائية الايرلندية (سالي روني Sally Rooney) التي حققت أعلى المبيعات خلال السنوات القليلة الأخيرة، وهذا أمر بديهي لأنّ اعمالها لم تُتَرجم حتى اليوم، وحتى لو تُرْجِمت فليس شرطاً أن يقرأها الجميع. هل القارئ العربي مطلوب منه أن يكون قارئاً حصرياً للرواية دون سواها من الألوان المعرفية ؟ وحتى لو كان قارئاً حصرياً للرواية فلن يواكب الأسماء الجديدة التي تطلّ علينا كل عام. أنا روائية ومُتابِعة وأحكي عن معرفة وثيقة في هذا الميدان. كفى ظلماً للقارئ العربي، ولاتزيدوا أعباء الحياة القاسية على كاهله.
يصوّرُ لنا البعض أنّ القرّاء الغربيين كانوا يقفون بالطوابير منذ الصباح الباكر ( مثلما يفعلون مع كلّ إصدار جديد للآيفون مثلاً ) عقب الإعلان عن كلّ رواية جديدة لعبد الرزاق غورناه. هذا أمر لم يحصل أبداً، ولن يحصل حتى بعد إعلان فوزه بنوبل الأدب 2021. ستزيد مبيعات كتبه بالتأكيد، وستنشط حركة ترجمتها إل لغات عديدة ؛ لن يكون في الأمر تسونامي أدبي. من جانب آخر تقصّدتُ البحث عن ناشر روايات غورناه العشرة فوجدتها داراً واحدة هي ( بلومزبري Bloomsbury) وهي وإن كانت دار نشر محترمة لكنها لاترقى بأي حال من الاحوال لكبريات دور النشر العالمية المعروفة.
ثانياً : جرّب أن ترفع إسم ( عبد الرزاق غورناه ) من ديباجة الإعلان النوبلي الذي كرّس فوزه، وضع بدلاً عنه ( نغوغي واثيونغو، أو تشيماماندا نغوزي أديتشي، أو بن أوكري، أو تسي تسي دانغاريمبكا ـ أو جامايكا كينكايد ” مع تحويرات مناطقية محسوبة “،،،، إلخ) ولن يحصل كبير فرق في الديباجة. المسألة كيفية وانطباعية وعمومية إلى حد كبير.
ثالثاً : يؤكّد أباطرة نوبل الأدبية أنّ المعيار الأساسي في الجائزة هو الجدارة الأدبية Literary Merit. لن أقتنع يوماً – وأحسبُ كثيرين يشاركونني في قناعتي هذه – أنّ عبد الرزاق غورناه أعلى قيمة أدبية من مارغريت آتوود أو ميلان كونديرا. ربما سيقول هؤلاء الأباطرة أنهم يرون غير مانرى، ولو فعلوا فأحسبهم سيكذبون. المقارنة غير واردة بأي مقياس من المقاييس. لو أنّ المعايير النوبلية حقيقية فربما سيكون الروائي والكاتب البنغالي (ضياء حيدر رحمن) الذي كتب روايته المبهرة (في ضوء مانعرفه) أكثر استحقاقاً لنوبل الأدب. تذكروا منذ اليوم هذا الاسم ( ضياء حيدر رحمن ) الذي قد يحوز الجائزة بعد عشرين أو ثلاثين سنة. تذكروه حتى لايتهمكم أحد بالجهالة حينها !.
رابعاً : سيفرحُ البعض بأنّ عبد الرزاق غورناه ذو جذور عربية يمنية. هؤلاء شبيهون بالقرعاء التي تتباهى بشعر بنت عمها. دعونا من هذه المخادعات السايكولوجية. غورناه لايعرف الحديث والكتابة سوى باللغة الإنكليزية (الكولونيالية!!) مضافاً لها السواحلية ؛ فعلام تهلّلون؟ حتى كبارُ الأدباء الأفارقة من المرشحين الدائمين على قوائم نوبل الأدب هم من أساتذة كبريات الجامعات الغربية، ولهم باعٌ في حقل دراسات التعددية الثقافية ومابعد الكولونيالية. ربما سيكون مشهداً ديستوبياً كالحاً لانتمناه لأشقى الأشقياء أن نتخيل حال عبد الرزاق غورناه لو كان في اليمن يجاهد للحفاظ على حياته وسط الجحيم الانساني المروّع. هل كانت ستأتيه نوبل الأدب حينها ؟
خامساً : لو كان ثمة حَسَنَةٌ تعزى لنوبل الأدب 2021 فهي أنها ستساهمُ في إعلاء إسمٍ سيفيده المليون من الدولارات النوبلية – فضلاً عن المترتبات المالية لحقوق التوزيعات الجديدة من كتبه السابقة – في عيش حياة مسترخية من الناحية المالية. ماالذي كانت مارغريت آتوود – مثلاً – ستفعله بملايين إضافية؟ لاأرى أنّ الشهرة والمال النوبليين كانا سيسعدانها وهي ترتشف قهوتها الصباحية في منزلها الكندي الفخم أو في منزلها اللندني المبني على طراز عمارة قصور القرن الثامن عشر.
سادساً : يبدو أنّ دور النشر العالمية قد استنفدت مصالحها المالية مع كبار الروائيين المعروفين ولم يعُد متّسعٌ لحلب المزيد من الاموال، وسيكون من المنطقي رفع أسماء جديدة إلى مصاف عرش المملكة الأدبية بواسطة الرافعة النوبلية ؛ الامر الذي سيحرّك موجة خامدة من المصالح المالية المتوزّعة على كبار الناشرين. كم سيحصل الفائز النوبلي ؟ سيحصل نسبة قليلة مهما تعاظمت من الارباح المتوقعة.الأمور محسوبة بدقة (شايلوك ) ينتمي للقرن الحادي والعشرين. حمداً لله أنّ الشايلوكات المعاصرين لايطلبون أرطالاً من لحومنا بل يكتفون بدولاراتنا!!
سابعاً : سيثير الكثيرون من أتباع اليسار الجديد ضجيجاً عن قيم العدالة والمساواة المطلوبة في معايير نوبل الأدب، ويرى هؤلاء أن الجائزة غالت كثيراً في إعلاء شأن المراكز الثقافية على حساب الأطراف، متناسين الأسماء العديدة الآسيوية والإفريقية التي فازت بنوبل الأدبية منذ عقود بعيدة. أقترحُ حلاً لهذه الإشكالية أن تعتمد نوبل الأدب ستراتيجية المحاصصة الثلاثية : أن تتوزّع الجائزة كلّ سنة على ثلاثة أسماء أدبية، واحدة لكاتب، وثانية لكاتبة، وثالثة لكاتب أو كاتبة من الجغرافية الموصوفة بالهوامش الثقافية ( آسيا وأفريقيا والبحر الكاريبي وأمريكا الجنوبية حصرياً ). لماذا ينفرد اسمٌ واحد كل سنة بهذه الجائزة بدلاً من اسمين أو ثلاثة مثلما يحصل مع نوبل الأدب أو الفيزياء أو الكيمياء أو حتى ( أحياناً ) السلام والإقتصاد ؟
ثامناً : معرفة الأدباء والروائيين (وصُنّاع الثقافة العالمية بعامة ) عبر وسطاء لاتصلحُ أن تكون بديلاً عن المعرفة المباشرة. سنسمعُ كلاماً طويلاً عن السياسات الثقافية الجديدة والقيم العولمية وسياسات الهوية والمنفى والذاكرة،،،، إلخ، وسيرى كثيرون في فوز أسماء جديدة محسوبة على هذه الاشتغالات الثقافية تحولاً ثورياً في موقف لجنة نوبل الأدبية. نحنُ لانعرفُ حقاً مايحصلُ في الكوليس، وليس من بديلٍ عن القراءة المباشرة ( أو الترجمات المتوقعة لاحقاً ) لكي نتيح لذائقتنا الأدبية وجهازنا الثقافي شيئاً من الاسترخاء وهو يحكمُ على مايقرأ. هذا أفضلُ كثيراً من التهليل لثياب ( أباطرة نوبل ) الجديدة !.
قد يراودنا التساؤل أحياناً : هل ثمّة من وسيلة تكون مصدّاً واقياً من صعود الأعمال الهزيلة أو غير المستحقة لشهرة نوبل الأدبية أو سواها من الجوائز الأدبية المرموقة ؟ سيتفنّن الكثيرون في تصميم وسائل وآليات يحسبونها قادرة على حجب الغثّ وترسيخ الرصين ؛ لكنّ الضمير النقيّ المستند إلى المروءة المنزّهة من سطوة المال هو ماينبغي التعويل عليه في النهاية، وكم آسف إذ أدركُ أنّ ذلك الضمير لم يزل غير راسخ في ضمائر النوبليين الأدبيين على العكس من نظرائهم في فروع الجائزة الأخرى، ولا نملك سوى انتظار ما ستجود به الامبراطورية النوبلية الأدبية في السنوات القادمة.
كاتبة وروائية عراقية
المصدر: القدس العربي