مالك ونوس
يلاحظ من يراقب مسار الحلّ السلمي في سورية، من فترة ليست قصيرة، غياباً لأي ذكر له أو لأي مبادراتٍ تصبّ في خانة إعادة تفعيله، فكل ما يجود به الفاعلون في الملف السوري هو الضغط من أجل التئام اللجنة الدستورية ومتابعة مجريات أعمالها. ومع النفخ فيها وتضخيمها حتى تبدو كأنها هي الحل الذي يتوقف مستقبل البلاد وأهلها عليه، نستطيع الجزم أن مسار هذا الحل وفق قرار مجلس الأمن 2254، والذي استعيض عنه بداية بسلال أربع تتضمن جدولاً للحل، قد اختفى. ثم جرى التوافق، أو بالأحرى اعتُمد الإيهام، بأن الحل يكمن تحت حنايا اللجنة الدستورية، تجود به متى يتوافق أطرافها.
تعدّ الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية التي عُقدت في جنيف وانتهت أعمالها، في 22 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، صورة طبق الأصل عن الجولات الخمس التي سبقتها، والتي تختصر الفشل في هذا المسار. ولم يكن لدى مبعوث الأمم المتحدة الخاص بسورية، غير بيدرسون، للتعبير عن مجريات هذه الجولة، وعدم تحقيق شيء فيها، سوى القول إنها “مخيبة للآمال”. واعتاد بيدرسون أن يبتهج في الجولات السابقة إذا ما اتفقت الأطراف على موعدٍ لجولةٍ لاحقة، غير أن الجولة الأخيرة لم تشهد مجرّد اتفاق على موعد آخر لالتئامها، ما أفقده هذه البهجة.
كثيرة هي المعطيات التي كان على وفد المعارضة أخذها بعين الاعتبار، قبل اتخاذ قرار حضور أعمال جلسات اللجنة. أول تلك المعطيات، وعلى الرغم من قلة استحضارها، فإنها تعكس نياتٍ دائمة، وتتمثل في الممارسة التي تختصرها العبارة التي قالها وزير الخارجية الراحل، وليد المعلم، حين علق على هذه اللجنة بالقول: “سنغرقهم بالتفاصيل”. وقد كان الأمر، وغرق الوفد المعارض بتفاصيل لا تمتّ للدستور، مثل موضوع السيادة، وبعده موضوع الإرهاب، الذي طرحه وفد النظام للنقاش في جولة الشهر الماضي. أما ثاني تلك المعطيات، فهو الانتخابات الرئاسية التي أجراها النظام، نهاية مايو/ أيار الماضي، والتي كان يجب أن تجري بعد تشكيل هيئة الحكم الانتقالي وبعد صياغة دستور جديد، وفقاً لتسلل تنفيذ السلال الأربع التي طرحها المبعوث السابق إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، سنة 2017.
والسلال الأربع التي كانت بمثابة جدول أعمال للحل السياسي هي بالتدرّج: تشكيل هيئة حكم انتقالي مشتركة خلال ستة أشهر، يتبعها صياغة دستور جديد، ثم انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة، والاتفاق على استراتيجية لمكافحة الإرهاب، إلا أن اللجنة الدستورية تشكلت قبل تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، وكان ذلك خرقاً لتراتبية جدول الأعمال، ثم جرت الانتخابات الرئاسية، ومع ذلك استمرّت المعارضة ووفد المجتمع المدني بالسير في هذه اللجنة، على الرغم من أن هذه الجولات لم تكن تسجّل سوى الفشل تلو الآخر.
في نهاية الجلسة السادسة، ألقى ممثل المعارضة، هادي البحرة، اللائمة على المجتمع الدولي، لأنه لم يضغط على النظام ما سبّب فشل الجولة. وفي هذا نوعٌ من إعلان المعارضة استقالتها من وظيفتها معارضة؛ إذ لم يسجل ذهاب أي معارضة للتفاوض مع خصمها من دون أن تكون مسلحةً بأسباب القوة، كأن تكون مدعومة بثقلٍ يحدّده وزنها ونشاطها ووجودها الضاغط على الأرض، لا أن يفرضه الآخرون من داعمين أو من هيئات دولية، مع الأهمية التي يمثلها ثقل الداعمين إن وجدوا. وفي نظرةٍ سريعةٍ لواقع المعارضة يمكن تبيان مدى تشتتها، إضافة إلى غياب ثقلها العسكري بعد انهزامها في ساحاتٍ كثيرة، وبعد دخول عدد كبير من فصائلها في تسوياتٍ مع النظام أو مع روسيا.
علاوة على ذلك، ليس للمعارضة السورية ثقلٌ شعبي، فهي لم تستطع تشكيل فصيل سياسي؛ حزب سياسي يشمل السوريين المعارضين اللاجئين في الشتات في أوروبا والدول المجاورة، يوحّدهم على رؤية محدّدة تجاه قضايا بلدهم، ويفعل دورهم للضغط على حكومات البلدان التي يوجدون فيها لجعلها تتبنّى قضيتهم. وليس كلام الجميع عن قلة اهتمام إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بالملف السوري إلا نتيجة لغياب هذا الدور. كما لم تعمل المعارضة في مخيمات اللاجئين السوريين في دول الجوار على تحسين أوضاعهم، وتنفيذ برامج لتوعيتهم حول واقعهم وقضيتهم. بل على العكس من ذلك، شهدت السنوات الأخيرة تهالكاً لمؤسّسات المعارضة، وترهُّلاً جعل السوريين ينفضّون عنها وعن متابعة أخبارها، فما بالك في التعويل على دور لها في إنهاء مأساتهم.
من جهة أخرى، ثمّة دلالةٌ ذات أهمية بأن رعاة الحل السياسي ليسوا جادّين في نقل البلاد إلى ضفة هذا الحل، وتمكينها من الخروج من التأزم الحالي. بل ثمّة إشارة إلى أن سورية يمكن أن تبقى ضعيفة على هذه الشاكلة فترة طويلة. أما الدلالة فهي ما جرى عشية اجتماعات اللجنة الدستورية، حين كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يتفق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، على تجديد روسيا منح الجيش الإسرائيلي الحق بالعمل بحريّة في سورية. ما يعني أن روسيا تُقدّم نفسها الآمر الناهي في البلاد، وأن سورية ستبقى على هذه الحال من الضعف، بحيث تعجز عن ردع الإسرائيليين، وأن حلاً سياسياً يمكِّنها من أسباب القوة هو أمرٌ مستبعدٌ في تصوّرها.
غاب عن بال المعارضة أنّ دستوراً جديداً يتطلب، قبل صياغته، تسويةً تجلب السلام للبلاد وتعزّزه، وتحل المشكلات العالقة، وتؤسّس لبيئةٍ يستطيع المواطنون في ظلها الاقتراع بحرية في استفتاء على دستور من هذا القبيل. وبدلاً من أن تجري مراجعة لمواقفها وتدرس الأسباب الجدّية التي أدّت إلى الفشل في مسار اللجنة الدستورية، تصرّ على متابعة التفاوض العقيم مستندة إلى يقينٍ يُشك في صحته، عبَّر عنه البحرة، حين قال في نهاية الجلسة السادسة: “الانسحاب لا يخدم الثورة، ولا يوقف سفك الدماء”. يجري ذلك كله من دون أن يخطر بباله أن المعارضة بحاجةٍ إلى استراتيجية جديدة، تختلف عن استراتيجيتها الحالية التي أدّت إلى الفشل الذي نشهده، والذي ساهم في مسخ الحل السلمي بمجمله بصورة لجنة دستورية عقيمة، حين اختصر السلال الأربع بسلة الدستور.
المصدر: العربي الجديد