موفق نيربية
تنحدر الدولة في سوريا تدريجياً باتجاه الفشل والفوضى، بفعل سياسات النظام الحاكم، الذي لم يعد نظاماً ولا حاكماً بشكلٍ فعلي؛ لتظهر بخط عريض خلف هذه الصورة الراهنة، أصداء قديمة كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها تردّد تكراراً ومراراً، أهمية» الحفاظ على مؤسسات الدولة» منذ عام 2011، لتلافي ما حدث في ليبيا، واليمن لاحقاً، وفي العراق قبل الجميع وفوقهم.
كان هنالك أفراد في المعارضة السورية، يردّدون الطرح الثوري الجذري الذي يرى ضرورة تحطيم» الدولة» التي تملّكها النظام وشوّهها، بكلّ مؤسساتها الأمنية والعسكرية والإدارية والاقتصادية؛ لكن الولايات المتحدة جاءت – بعظمتها- إلى العراق محملة بروح الانتقام المفتوح لما حدث في 11/9، وبادرت على الفور إلى حلّ الجيش، والبنى الأمنية والعديد من مؤسسات الدولة المدنية، وأنهت بذلك عملياً أساساً مهماً لبقاء الدولة هناك، بضرب إمكانية استمرار وظيفتها باحتكار العنف في المجتمع خصوصاً، بعد أن منع عنها قبل ذلك حكامها حكمَ القانون وسيادة الشعب.
أمّا حين وصل الدور إلى سوريا، فقد حلّت الحكمة مكان التهوّر غير اللائق بالدولة العظمى، واستحوذت مقولة الحفاظ على مؤسسات الدولة عليها، مع تفسير ذلك بأنه يعني الجيش أولاً، مقابل الدعوة إلى الانشقاق عنه وتفكيكه؛ والأجهزةَ الأمنية ثانياَ، مقابل الدعوة إلى حلّها وإلغائها، وكذلك باقي المؤسسات اللازم استمرارها لعودة الدولة إلى سياقاتها بعد التغيير السياسي المنشود. وقد توقّف مفهوم العقد الاجتماعي في ظلّ النظام الأسدي عند هوبس، حين افترض شيوع حالة طبيعية من حرب الجميع على الجميع، حتى يأتي نظام وعقد يقدّم من خلاله الحاكم ضمانة الأمان والحياة للأفراد، مقابل الطاعة والخضوع للدولة بأنظمتها وأدواتها. وأشاع النظام الحاكم في سوريا دوماً فكرة «الأمن والاستقرار» حتى صدقها الكثيرون، وسلّموا بأن غياب الحرية والقانون طبيعي، مقابل الأمن، وأن أجهزة الأمن والقمع محقة في فرض حالة الرعب المقيم. ويُروى الكثير من الحكايا حول تلك المقولة وتطبيقاتها. لم يتعدّ النظام الأسدي ذلك حتى إلى جون لوك، الذي افترض أن الحالة الطبيعية تتضمن حقوق الحياة والحرية والتملّك، التي لا بدّ أن يضمنها العقد الاجتماعي للمواطنين، مقابل التزامهم بالأنظمة والقوانين- كما تجسّد في إعلان الاستقلال الأمريكي على سبيل المثال- كذلك لم يصل إلى مستوى عقد جان جاك روسو الاجتماعي، بافتراضه أن الحالة الطبيعية كانت سلمية أساساً، لذلك يتمتع العقد عنده بحرية المتعاقدين، ويدخل في التفاصيل الأكثر حداثة، كما تجلّى في دستور الثورة الفرنسية، ولائحة حقوق الإنسان. ولم يصل إلى تحديثات القرن العشرين وطروحاته في الحديث عن «الوضعية الأصل» أو «حجاب الجهل» حيث لا بدّ أن يكون هذا العقد نتيجة جهد لأناس مفصولين عن المصالح الخاصة متعالين عنها، حتى ينتج نظام حرٌّ ديمقراطي ودستوري وعادل أيضاً، كما ظهر في الدساتير الحديثة الأكثر تطوراً، والقابلة للتطوّر دائماً.
عقد السوريين كان وما زال قائماً نظرياً على إعطائهم الأمان من السجن والتعذيب والقتل والإذن باستمرار عيشهم ومعاشهم المحدود، الذي يرتفع مع درجة الخدمة والاندماج في اللعبة، مقابل الطاعة العمياء والكذب والصمت على ما يجري. لكن الزمان تغيّر، منذ عام 2011 وصولاً إلى الآن، مع الانفجار والانكشاف الذي حققته الثورة في طورها السلمي قبل التدهور نحو ما حدث بعد ذلك.
في تطوير ماكس فيبر وتحديثه لتعريف ماركس للدولة، تمّ تعديلها من كونها أداة القمع في يد الطبقات السائدة، إلى كونها محتكراً وحيداً للعنف في المجتمع، يقمع العنف الذي يظهر خارجاً عنها أو عليها. وأدوات ممارسة ذلك الاحتكار هي القوى المسلحة والأمنية العديدة، هذه القوى كانت في سوريا قبل عام 2011 هي الجيش بأقسامه المختلفة، التي يسيطر عليها نسق معقد من الحرس الجمهوري وسرايا الدفاع والمخابرات العسكرية وغيرها، إضافة إلى الأجهزة الأمنية التي تقبع قوات الشرطة في قاعدتها وتتراصف فوقها أجهزة الأمن السياسي وأمن الدولة والأمن العسكري نفسه، وأمن القوى الجوية وأجهزة أخرى لا نهاية لها.
ما زال بعض هذه القوى قائماً، ولو كان ذلك مع تعديلات كبيرة، مثل الأجهزة الأمنية، إضافة إلى الحرس الجمهوري، لكن الحال تغير على الأرض ميدانياً، فقد انقسمت القوات المسلحة إلى أجزاء تابعة لأمرائها، وأخرى للروس أو الإيرانيين، كما أن نظام التجنيد أصبح فوضوياً ومرفوضاً من المعارضين والموالين. كما دخلت على الخط ميليشيات لا تحصى، مثل حزب الله خصوصاً، إضافة إلى تلك الشيعية التي جاء معظمها من بعيد: «فاطميون» من أفغانستان و»زينبيون» من باكستان، وإيرانيون حول فيلق القدس الإيراني، وميليشيات أخرى بأسماء وتركيبات، يتبع بعضها لأحزاب اسمية، ولرجال أعمال يقوم عملهم على التهريب والمخدرات – أو تجارة الحرب في أحسن الأحوال – مع نشاط عصابات بشكل متداخل.. هذه كلّها تتداخل مع الأجهزة الرسمية، أو التي كانت رسمية في السابق.
تلاشت بذلك قدرة الدولة على «احتكار العنف» بشكل مركزي، مع بقاء تحالف لا مركزي على أساس المصالح المشتركة، والمخاوف المشتركة أيضاً، وبتلاشي قدرتها هذه، فقدت جزءاً أساسياً من تعريفها، ومن شرعيتها، لمصلحة الفوضى.
لكن للدولة وظائف أخرى أيضاً، في إدارة وتنظيم حياة الناس وملكيتهم وتعليمهم والقضاء في خلافاتهم وتجاوزاتهم بعضهم على بعض أو كل، وفي تأمين حصولهم على الوثائق اللازمة، من أوراق هوية وميلاد وزواج، وجوازات سفر، وشهادات تعليم مضمونة، وسجلات مدنية وعقارية تضمن حقوقهم وحرية تصرّفهم بها. هنالك مجلّدات يمكن تدبيجها في كلّ باب من هذه الأبواب وغيرها مما يسهو عنه المرء أو يذهل. وقد استطاع الحكم الأسدي أن ينهي- وليس مهماً أن يكون متعمداً أو غير متعمد في ذلك- معظم آثار الدولة تلك وهيبتها، بالأحرى أن نتحدّث عن» حياديتها» بين مواطنيها، وهو الجانب الذي يدخل في تمييز وجودها عن انعدامه. قام النظام وحلفاؤه أيضاً بتدمير البنية التحتية للدولة، من خلال تدميره لنسبة عالية من مساكنها؛ ولمجتمعها بتهجير نسبة هائلة من سكانها، ولحياتها بإنهاء حياة حوالي مليون إنسان من أهلها تحت القصف والتعذيب أو القتل الممنهج المتسلسل، ولكهربائها وماء شربها وصرفها الصحي وقطاعها العام. كما ضرب بنيتها الفوقية أيضاً، حين عمل على تهشيم تماسكها الاجتماعي والوطني – الزجاجي أساساً- والذي دخل عليه بمفهوم التجانس، الذي يبرّر التمييز والطائفية والعنصرية، وبالتشريد والتهجير والقتل الجماعي وإزاحات الهندسة الديموغرافية.
ضاعت بذلك على أولئك الذين ألحّوا على المعارضة بأهمية «الحفاظ على مؤسسات الدولة» وأهملوا كون الجانب القادر على فعل ذلك عملياً، وهو النظام الذي حقق ذلك وأنجزه. ذلك صحيح رئيس فاقع، من دون نسيان أن هنالك من أسهم متعمداً أو بغفلته في ذلك – جزئياً على الأقل- من بين المعارضة بأجنحتها وسياساتها المختلفة، وفي أجزاء البلاد الثلاثة كلّها: تلك التي تقع في الشمال الغربي أو في الشمال الشرقي، أو في مناطق النظام وفوضاها الخاضعة له تماماً أو نسبياً؛ أو دورَ الانتهازيين المتقلّبين بين الحالين. لم يلتزم بذلك عن وعي إلّا المعارضون- الثوار- المسالمون الديمقراطيون العقلانيون، الحريصون على الوطن والمواطنة، وهم من تمّ تحييدهم أو تهجيرهم أو قتلهم، أو أولئك الذين دفعتهم الحيرة والخشية أو الخوف إلى التزام «الحياد» والحيطة والانتظار!
المصدر: القدس العربي