آنا بورشفسكايا
مقالات وشهادة
إن التفكير في الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفيتي يوضح أن موسكو ونهجها البراغماتي المناهض للغرب لم يغادر الشرق الأوسط بالكامل. فروسيا مستمرة في الحفاظ على مكاسبها وتعمل حيثما أمكن لتعزيز نفوذها دون أي التزامات مفرطة.
لم تندلع إحدى أولى المواجهات الرئيسية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في أوروبا، بل في الشرق الأوسط. ففي ربيع عام 1946، رفض جوزيف ستالين لفترة وجيزة سحب الجيش الأحمر من إيران منتهكاً الاتفاقات الموقعة مسبقاً. وشكّلت الأزمة اختباراً مهماً للنظام الحديث الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية كما كشفت الأهداف العدائية والتوسعية لـ الاتحاد السوفيتي. وفي وقت لاحق، برز الشرق الأوسط كميدان أساسي لمواجهة عالمية بين القوى العظمى. وأشار سقوط الإمبراطورية السوفيتية إلى نهاية حقبة من الاستبداد الشمولي، ووعد بنظام عالمي جديد، حيث اكتست سيادة الدول الصغيرة أهمية. وكان لا بد لهذه اللحظة الفاصلة أن تؤثر على الشرق الأوسط.
الاتحاد السوفيتي، إرقد بسلام: التداعيات في الشرق الأوسط
في الواقع، انسحبت روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي لفترة وجيزة – وجزئية – من الشرق الأوسط. وشكّل ذلك انحرافاً في مسار التاريخ، حيث كان لـ روسيا مصالح متعددة في المنطقة بشكل عام، خلال معظم فترة قيامها ككيان سياسي مستقل. وقد بقيت العديد من هذه المصالح قائمة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ومع ذلك، لا يمكن فصل الأثر المترتب على الشرق الأوسط عقب سقوط الاتحاد السوفيتي عن الوضع المحلي في روسيا وعلاقتها مع الغرب. ورغم أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان حدثاً فريداً وتاريخياً، إلا أنه شكّل في الوقت نفسه عملية تفكك إمبريالي لا تزال قائمة حتى اليوم، حيث يشجب الكرملين النظام العالمي “القائم على القواعد” ويؤكد على أن القوى العظمى تحتاج إلى مناطق نفوذ متميزة.
وقد منح بوريس يلتسن، أول رئيس روسي منتخب ديمقراطياً، الأولوية للاعتبارات المحلية وتوطيد الروابط مع الغرب، ولا سيما في أوائل تسعينيات القرن الماضي، إلّا أن السياسة الخارجية الروسية بشكل عام كانت غير مترابطة. فعندما تعلق الأمر بالشرق الأوسط، اعتمد الكرملين مقاربة عملية وإن كانت مفككة، ركزت بشكل أساسي على التجارة والدبلوماسية. وبقيت العلاقات مع تركيا وإيران مهمة. كما حافظت موسكو على تواصلها مع عملاء تقليديين مثل العراق وسوريا و«حزب الله» رغم تراجع هذا التواصل بشكل ملحوظ، ولم يعد بإمكان موسكو توفير الرعاية لهم. كذلك، بدأت روسيا بتحسين علاقاتها مع إسرائيل، التي أعاد الكرملين إقامة علاقات دبلوماسية معها قبل شهرين فقط من انهيار الاتحاد السوفيتي. وفي غضون ذلك، واصلت روسيا دعم البرنامج النووي الإيراني وبيع الأسلحة إلى الجمهورية الإسلامية.
لكن الشرق الأوسط لم يكن من أبرز الأولويات. فخلال هذا العقد، كان اهتمام روسيا الرئيسي ينحصر في نفسها، أي على هويتها وتحديد فكرة وطنية جديدة. وتؤكد محفوظات بيل كلينتون الرئاسية التي تمّ كشف النقاب عنها مؤخراً وعياً كبيراً بضعف موقف روسيا تجاه الغرب، وتركيزها على أن تتمّ معاملتها على أنها كيان موازٍ له. فكانت روسيا مصممة على العودة إلى المشهد العالمي بشكل أو بآخر. وبدءاً من تشرين الأول/أكتوبر 1992، كتب وزير الخارجية الروسي الموالي للغرب أندري كوزيريف في صحيفة “موسكوفسكي نوفوستي” أن روسيا ستصبح “حكماً” قوة عظمى، وهي نقطة كررها بعد نحو عامين في معرض تأييده في صفحات مجلة “فورين آفيرز” لإقامة شراكة أمريكية – روسية استراتيجية في سياق عالم “متعدد الأقطاب”.
تحوّل في المقاربة
في نهاية المطاف، خسرت الأصوات الموالية للغرب ذات الميول الليبرالية موثوقيتها لصالح تلك التي فضلت موقفاً أكثر صرامة تجاه الغرب وعلاقات أكثر قرباً مع الشرق. وبالتالي، بحلول عام 1996، حل يفكيني بريماكوف محل كوزيريف. وصاغ بريماكوف رسمياً رؤية لعالم متعدد الأقطاب. لكن بينما سعى كوزيريف إلى توطيد الشراكة مع الغرب، وضع بريماكوف تصوراً لمثلث يجمع روسيا – الهند – الصين من أجل إقامة قوة موازنة. وكان بريماكوف، وهو مستعرب ماهر، مدركاً بشكل خاص أن روسيا فقدت نفوذها في الشرق الأوسط وحاول إعادتها إلى المنطقة، وهي رسالة تركت أثراً لدى الكثير من الأشخاص الذين أعربوا عن أسفهم على هذه الخسارة. علاوةً على ذلك، منحت رؤية بريماكوف الأوسع نطاقاً، روسيا التركيز الذي افتقرت إليه خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، وهي رؤية تبناها فلاديمير بوتين.
من ناحية أخرى، استمرت علاقات روسيا مع الغرب في التدهور. ففي آذار/مارس 1999، استقل بريماكوف طائرة من موسكو متوجهاً إلى واشنطن لكنه ألغى الرحلة في منتصف الطريق احتجاجاً على قصف حلف “الناتو” لمواقع عسكرية صربية في كوسوفو رداً على حملة التطهير العرقي ضد ألبان كوسوفو. وبعد تلك الحادثة بوقت قصير، اعترضت موسكو بشدة على الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003. وفي هذا الإطار، قال أحد المحللين في الشؤون الروسية في نيسان/أبريل من ذلك العام إن “الصراع الأمريكي – العراقي أخرج على ما يبدو إلى العلن مطلباً [روسياً] باستعادة مكانتنا كقوة عظمى”. وبعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، أصبحت مكافحة الإرهاب أولوية رئيسية للولايات المتحدة. لكن بالنسبة للكرملين، بقيت العوامل الجيوسياسية ميزة أبدية للنظام العالمي.
هنا يأتي بوتين
منذ تسلّمه السلطة، عمل بوتين بتأنٍ بل بثبات لإعادة روسيا إلى الشرق الأوسط. وتماشياً مع رؤية بريماكوف، سعى إلى إقامة علاقات عملية مع كافة الجهات الفاعلة الرئيسية في المنطقة، حتى وسط تقرّبه في النهاية من جهات فاعلة معادية للغرب. وكانت تلك مقاربة ذات محصلة صفرية معادية للغرب يكون فيها فشل الولايات المتحدة ثمن نجاح روسيا. كما أنها كانت أكثر عملية ومرونة مقارنة مع الغموض الإيديولوجي المتصلّب للاتحاد السوفيتي – وقد أثبتت أنها أكثر نجاحاً. وكان الحلفاء والمنافسين الأمريكيين على حد سواء أكثر استعداداً للتعاون مع روسيا في عهد بوتين إذ تصوّروا أن نسبة التعارض بين العمل مع موسكو وواشنطن في وقت واحد أقل في هذه الفترة.
وفي السنوات اللاحقة، اتسع الصدع بين الغرب وروسيا. ففي خطاب مشهور ألقاه بوتين بعد الحصار الإرهابي على مدرسة في بيسلان في أوسيتيا الشمالية عام 2004، ألقى باللوم بشكل غير مباشر على الغرب لمحاولته إضعاف روسيا، حيث قال: “روسيا لا تزال إحدى القوى النووية الكبرى في العالم، وعلى هذا النحو لا تزال تمثل تهديداً لهم. وهذا هو السبب لضرورة التخلّص من هذا التهديد. وبالطبع فإن الإرهاب مجرد أداة لتحقيق هذه الأهداف”. وتم إلى حدّ كبير فهم مصطلح “لهم” بأنه يعنى الولايات المتحدة والغرب. وفي السياق نفسه، صرّح وزير الخارجية سيرجي لافروف بعد سنوات قائلاً: “ندرك أن روسيا قوية وواثقة لا تروق للجميع”.
عودة روسيا …
واصل الكرملين رؤية يد الغرب في كل زاوية، من الثورات الملونة في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي التي جاءت في العام نفسه مروراً بـ”الربيع العربي” ووصولاً إلى الاحتجاجات داخل روسيا بعد عدة سنوات. وكانت حملة ليبيا التي نظمها حلف “الناتو” الشكوى الأخيرة في لائحة طويلة من المظالم ضد الإملاءات الأمريكية المتصورة. وصحيح أن الأسباب وراء تدخل بوتين في سوريا كثيرة ولكنه كان يتعلق بشكل أساسي باتخاذ موقف في وجه النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة ومنع هذه الأخيرة من الإطاحة بديكتاتور آخر. وقد عادت روسيا إلى الساحة العالمية وتتصرف كما ينبغي.
وأعاد هذا التدخل رسمياً روسيا إلى الشرق الأوسط. ومن هذا المنطلق، كان بالتأكيد عاملاً في تغيير قواعد اللعبة، ولكنه أيضاً شكّل خاتمة منطقية لسنوات من بناء النفوذ في المنطقة وعجز الغرب عن رؤية الأهمية الكاملة لهذه التطورات. وبالفعل، اعتقد الغرب، ولفترة طويلة جداً، أن روسيا يمكن أن تكون جزءاً من الحل في سوريا وفي أماكن أخرى من المنطقة؛ فالمنافسة الجيوسياسية لروسيا في فترة ما بعد الحرب الباردة في الشرق الأوسط كانت أحادية الجانب. وكانت المنطقة بحدّ ذاتها قد توددت على نحو متزايد من روسيا على مرّ السنين، حيث أدركت صعود نفوذها وتأرجح الغرب، إلى جانب تحويل أولويات السياسة الخارجية الشاملة بعيداً عن المنطقة.
روسيا في الشرق الأوسط كي تبقى هناك
بعد ثلاثين عاماً على سقوط الاتحاد السوفيتي، سيستمر وجود روسيا في الشرق الأوسط لكي تحافظ على مكاسبها وتعمل حيثما أمكن لتعزيز نفوذها دون أي التزامات مفرطة. ومع استمرار الولايات المتحدة في تغيير أولوياتها، ستجد روسيا المزيد من الفرص لكسب موطئ قدم وترسيخ وجودها بشكل أكبر. وسمح غياب الغرب لروسيا بملء الفراغ ودعم ديكتاتوريين يفلتون من العقاب رغم ما يقومون به، الأمر الذي لا يمكن إلا أن يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار والعنف في المستقبل. إن التاريخ لم ينته بعد، ومنافسة القوى العظمى لا تنتظر أحداً، والاتحاد السوفيتي لا يزال يتداعى.
آنا بورشفسكايا هي زميلة أقدم في معهد واشنطن ومؤلفة الكتاب الجديد “حرب بوتين في سوريا: سياسة روسيا الخارجية وثمن غياب أمريكا”. وقد نُشر هذا المقال في الأصل على موقع “ناينتين فورتي فايف” (19FortyFive).
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى