يتحدث الكثير من المختصين والمهتمين اليوم عن مسألة في غاية الأهمية مفادها أنه، لعل واحدة من أهم مشاكل العرب عمومًا والسوريين خصوصًا صعوبة تكتلهم وتشكيل كيان يرعى مصالحهم وينظم شؤونهم. لأنهم جميعًا يريدون أن يكونوا صلاح الدين، ولا أحد منهم يرغب أن يكون جنديًا مغمورًا في جيشه. ويبدو أن أصل المشكلة تربوية ثقافية وليست جينية. جيرون سألت بعض المختصين والباحثين عن ماهية ما يرونه في ذلك، وكيف ينظرون إلى ارتباط ذلك بالواقع السوري الذي آلت إليه الأوضاع، في جميع زوايا وفصائل المعارضة السياسية والعسكرية مجتمعيًا وسياسيًا؟
الباحث الدكتور حمزة رستناوي يرى أنه ” ليس ثمة أسباب وراثية أو جوهرانية لا يمكن تغيرها بخصوص إمكانات التنظيم والعمل الجماعي. القضية أساسًا تتعلق بالثقافة السائدة والتربية. الثقافة العربية الاسلامية ماتزال تقدر عاليًا الشخصيات السياسية والقادة تاريخيًا وحاضرًا. وتنظر لهم كمخلصين. فالأمة تنتظر مخلصها. كثيرون سابقًا وجدوا في عبد الناصر مخلصًا، وحاليًا كثير من السوريون يرون في الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مخلصًا أيضًا. الاتجاه القومي الاشتراكي والاتجاه الديني الاسلامي في العموم يعززان هذه النظرة، القضية تدريب و مهارات يكتسبها الانسان و ينشأ عليها. الأسرة الديمقراطية التشاركية سوف تعزز نمط تفكير ديمقراطي تشاركي عند الأطفال في العموم. أما الأسرة الاستبدادية فسوف تعزز نمط تفكير استبدادي أو مخصي عند الاطفال كذلك، على سبيل المثال هل يوجد ثقافة العمل التطوعي لدى السوريون والعرب عمومًا! هذه قضية يُشتغل عليها من قبل منظمات أهلية ومجتمع مدني ونوادي شبابية.. الخ. القضية تحتاج لتدريب وتراكم خبرات كالتدريب على حصر نقاط الخلاف والاتفاق ضمن المجموعة وأن تكون النقاشات والحوارات موجهة لغرض تجاوز الخلاف وتقريب الآراء من بعضها، التدرب على الحوار الحضاري دون شخصنة أو تجريح”. وأضاف لابد من ” اعتماد لغة تواصلية متفهمة والابتعاد عن الاستفزاز المقصود والمشاكسات، ومحاولة فهم أسباب الاختلاف وتفسير دوافعها، هل هي ثقافية مكتسبة أم مصلحية انتهازية. الابتعاد عن التخوين والتكفير وآليات صناعة الأعداء.. واعتبار التخوين والتكفير بمثابة محرمات ثقافية سياسية، والتدريب على العمل التطوعي وثقافة التطوع”.
الباحث السوري محمد نور النمر تحدث لجيرون قائلًا ” رغم الاختلاف الجوهري لمنظومة القيم التي آمنت بها الثورة السورية في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية عن منظومة قيم النظام الأسدي القائمة على الاستبداد والخضوع، إلا أن بعضًا من سلوكيات النظام قد تسرّبت إلى بعض ممارسات المعارضة السياسية والعسكرية، وبالتحديد فكرة “البطل المخلّص” المستمدة من القائد الأوحد الذي يصنع البطولات والأمجاد، أو القائد الحكيم الذي لا يدرك أحد حكمة قرارته.
فإذا كان جمهور المؤيدين للنظام يصل إلى درجة العبودية لبشار الأسد، فإن جمهور المعارضة يكاد يفقد الثقة بالنخبة السياسية المعارضة التي تمثله، هذا ما توضحه الوسائل الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي في ممارسة العنف الرمزي الذي يصل حد الاعتداء على الآخرين، وهم الذين يجمعهم عدو واحد الاستبداد والإرهاب. ” لكنه أكد أيضًا أنه ” مع أن حقيقة تشظي المعارضة السورية السياسية والعسكرية قد تعود إلى تعدّد الدعم السياسي والمالي لها، إلا أن أساس المشكلة في اعتقادنا ثقافية تقوم في أساسها على إيمان النخبة السياسية والعسكرية المعارضة بفكرة (المخلّص البطل) سواء كان بطلًا قوميًا أو دينيًا أو اجتماعيًا، هذه الفكرة هي التي حالت بيننا وبين وجود المؤسسات التي تُعد أُس قيم الثورة السورية في بناء دولة المواطنة القائمة على تحقيق الكرامة والعدالة والديموقراطية لجميع مواطنيها”.
أما الاختصاصي النفسي عبد الرحمن دقو فقد أشار إلى ” أن مسألة تضخم النزعة الفردية والتباهي بالمسؤولية الاستبدادية، وسيطرة المصلحة الفردية كظاهرة لدى الشعب العربي عمومًا والسوري خصوصًا أعتقد أنها نتاج سياسة دولة تربوية ممنهجة وتربية اجتماعية وأسرية.
فالطبيعي قيام كل من: دور الدولة السياسي في دعم المواطنة والمؤسسات الممثلة لها وتساهم من حيث النتيجة في تشكيل مجتمع يعي ذاته ويحافظ على مقدراته فيحصد نتيجتها كرامة وحضارة وثقافة أمة. والمجتمع بمؤسساته المختلفة يساهم في تأمين احتياجات الفرد والأسرة للوصول للمواطنة المنشودة فتظهر التكتلات الاجتماعية والسياسية والنقابية التي تعبر عن حاملها الاجتماعي بشكل سوي. والأسرة تساهم في تربية الأبناء بمفاهيم أخلاقية تتناغم والمواطنة والتكامل والتعاون في بناء الذات من خلال بناء الآخر عبر التعاون مع الأخوة والأقران والأهل.” لكنه أشار أيضًا إلى ” الدور غير الطبيعي (المَرضي) لتلك المؤسسات تشبه الدائرة المغلقة تتشكل لدى الآباء ثم تنتقل إلى الأبناء وهكذا، إنها تمثل النزعة الفردية في أوج تضخمها وتنتقل عبر التربية السلبية القائمة على الخوف والتهديد والاقصاء والفردية والاتجاه نحو التفكير المتمركز حول الذات فقط، وهكذا يكبر الأبناء ليصبحوا آباء ويتبعون ذات النهج الفردي البراغماتي على حساب المصلحة العامة. فالمسألة إذا ليست جينية إنما حصيلة نهج تربوي (سياسي اجتماعي أسري) متراكم عبر الزمن”. وأضاف دقو ” ما هو الآن هو واقع غير طبيعي (اضطراب مفهوم المواطنة) ويظهر ذلك جليًا من القمة إلى القاعدة وليس العكس: فسيطرة الدولة واستبدادها على المجتمع المدني خلق نموذجًا أخلاقيًا قائمًا على الفردية وتضخم الأنا يجذر الاستبداد، وبالتالي عزوف المكونات الاجتماعية عن دورها الطبيعي. بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني الذي حُدد دوره ضمن ذات النهج والتدجين وإلغاء الفاعلية الاجتماعية مع قواعده، وبنفس الذهنية التي تلزم الجميع بالطاعة دون ابداع أو اجتهاد. وكذلك الأسرة فامتدت هذه السياسة لتصيب الأسرة فتفككت ونأت بنفسها حرصًا على أمنها وبات النهج التربوي للأبناء هو ذات النهج الذي تلقاه الآباء”. ثم انتهى إلى القول ” واقع حال المعارضة السياسية والعسكرية والهيئات والجمعيات المدنية الناشطة إغاثية وإعلامية وتربوية سواء في الداخل أو في بلاد اللجوء لم تستطع أن تتجاوز فرديتها وأنانيتها وتغليب مصلحة المجتمع.
مما يفسر فشلها وعدم قدرتها على الامتداد والتجذر اجتماعيًا وعدم تلبيتها لطموح ومتطلبات الشعب السوري، وتعتبر ممارساتها تعبير عن استبداد قادتها، كصورة عن طبيعة سياسة الدولة، ونلحظ ذلك في التشكيلات العسكرية المختلفة والمتقاتلة ناهيك عن التنظيمات السياسية المعارضة الواقعة بنفس المرض. وإن مظاهر اضطراب سلوك التعاون والايثار والمواطنة ما هو إلا نتاج نهج سياسي منظم حصد الشعب السوري نتائجه فحمل ويلاته أينما ذهب، وبالتالي نحن بحاجة لإعادة تأهيل الانسان السوري كمواطن له كرامه وحرية اتخاذ رأي والتعبير عنه في مناخ ديمقراطي وليعلم أن مصلحته هي جزء من مصلحة المجموع وأن له حقوق وعليه مسؤوليات يوفر وجودها حياة كريمة للجميع تدفعه للمشاركة والثقة بالآخر والايمان أن يد الله مع الجماعة.”
المصدر : جيرون