ساري عرابي
في حين تبدو المقاومة الشعبية في بلدتي بيتا وبرقة/ نابلس في الضفّة الغربية قادرة على ردع المستوطنين، بعد تطاولهم غير المسبوق على الفلسطينيين في سنوات العقد المنصرم، وتحديدا من بعد الانقسام الفلسطيني وفرْضِ سياسات متعارضة مع مبدأ المواجهة في الضفة الغربية، فإنّ المقاومة في قطاع غزّة، تجري مناوراتها المشتركة التي تضمّ فصائل المقاومة مجتمعة تحت عنوان “الركن الشديد 2″، في ما يبدو استعدادا لمواجهة محتملة مع الاحتلال، الذي أعلن بدوره عن استعداده لمواجهة من هذا النوع، وذلك في ذكرى معركة “الفرقان” كما سمّتها المقاومة الفلسطينية، أثناء تصدّيها لعدوان الاحتلال الذي سمّاه “الرصاص المصبوب” وامتدّ من 7 كانون الأول/ ديسمبر 2008 إلى 18 كانون الثاني/ يناير 2009.
قد يبدو المشهد الفلسطيني ثابتا؛ باستمرار الانقسام، وما يتصل به من حصار لقطاع غزّة، ومواصلة السلطة الفلسطينية لسياساتها، ومُضِيّ موازين القوى الإقليمية والدولية الخادمة للاحتلال على حالها، بيد أنّ المشهد العام يطوي على تحوّلات مهمّة وإن بدت بطيئة.
إنّ أهمّ ما في النقلة النوعيّة الجبّارة، التي راكمت فيها المقاومة في قطاع غزّة قدراتها، من العام 2008 إلى العام 2021، في شرط مستحيل، هي رسالة الإمكان المزدوج، أي الإمكان الداخلي بامتلاك أسباب القوّة في التغيير حين امتلاك الشرط اللازم لذلك، وهو شرط ذاتيّ محض، يتمثل في الإرادة والصدق وحسن التنظيم واستثمار الموارد، والإمكان الخارجي، بقلب القدرات الفلسطينية الذاتيّة على العدوّ، على النحوّ الذي يقلّص من تفوقه الهائل، لصالح الممكنات الفلسطينية المحدودة، وسعيها الدؤوب في التحايل على عناصر تفوّق العدوّ الاستخباراتية والعسكرية، وبما يتّصل بهما من قدرات تكنولوجية لا يمكن للمقاومة امتلاك شيء منها.
لم تكن هذه المراكمة التي تأسّست عليها القفزة النوعية إلا نتاج التنظيم، بمعناه الكلاسيكي المتبادر إلى الذهن، أي القوّة البشرية المنظّمة ممثّلة في فصائل المقاومة
لم تكن هذه المراكمة التي تأسّست عليها القفزة النوعية إلا نتاج التنظيم، بمعناه الكلاسيكي المتبادر إلى الذهن، أي القوّة البشرية المنظّمة ممثّلة في فصائل المقاومة، وفي طليعتها حركة حماس، التي تدير القطاع وتدفع أكلاف ذلك، ثمّ قوّة العقل المنظّم، وهي قوّة مركّبة من الاستثمار الأمثل للموارد، وتوظيف الكفاءات، وفهم العدوّ، وإبداع الأساليب القادرة على التحايل على تفوّقه. ولا يمكن الاحتفاظ بهذا القدر من التنظيم البشريّ والعقليّ إلا بقدر معقول من الأخلاق المنظّمة التي لا بدّ منها لضمان إمكان المراكمة والإنجاز في شرط مستحيل، وقاعدة ذلك الصدق والنزاهة ونكران الذات والتضحية والتوازن النفسي، في حدّ لو توفّر في بقيّة الأجهزة السياسيّة والإداريّة لكانت القفزة أكبر.
في المقابل، ما تفتقده ساحة الضفّة الغربيّة هو التنظيم، لأسباب طالما عرضناها في أبحاث ومقالات عديدة، منها المقالة السابقة “كيف يمكن أن نفهم ما يجري في القدس والضفّة الغربية؟”. هذا الافتقاد لم يمنع تجدّد الهبّات منذ العام 2014، وانفتاح النمط الكفاحيّ فيها منذ ذلك التاريخ على نحو دائم، حتّى باتت اليوم في مركز دائرة الفعل النضالي القابل للتوسّع، أو في الحدّ الأدنى البقاء بمستواه الراهن وبوتيرته المتفاوتة. بيد أنّ التحوّل أوسع من ذلك وأشمل، وهو في إطاره العام سياسيّ وإن ارتكز أساسا على الفعل النضاليّ والموقف منه.
لقد كان عدوان الاحتلال على قطاع غزّة عام 2008 سياسيّا، بهدف إسقاط حركة حماس أو إضعافها، وظهر ذلك واضحا في طبيعة الضربة الجويّة الأولى، التي جاءت بعد عملية خداع واسعة أرادت دفع حماس للاسترخاء الأمني، فاستهدفت تلك الضربة جميع المقرّات الأمنيّة والعسكريّة للحركة وحكومتها، وكان من بين أهدافها حفل لتخريج الضبّاط، بينما كانت الحالة الفلسطينية تعاني من حداثة الانقسام وأثره العميق على الفلسطينيّين، وما تلاه من ترتيبات سعت لمحاصرة حالة المقاومة، بمنح عملية التسوية دفعة جديدة، عُقِد لأجلها مؤتمر خاصّ في أنابوليس بالولايات المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2007، بعد شهور قليلة على الانقسام.
التحوّلات جارية وإن بدت بطيئة، كما أنّ الجمود في ذاته الذي اعترى الحالة طوال أكثر من عقد قد يكون ضروريّا لخلق التحوّلات الصحيحة، أو للدفع نحو الأفكار الصحيحة، بدلا من المراوحة في الأفكار العاجزة ذاتها
تاليا، وعلى طول السنوات المنصرمة، انتكس مشروع التسوية، وانتهى إلى مشاريع الضمّ، وصفقات تصفية القضيّة الفلسطينيّة، وإحياء التطبيع العربيّ/ الإسرائيليّ، وفقَدَ مشروع السلطة الفلسطينية الأغطية السياسيّة والشعبيّة، وتراجع دورها الاجتماعيّ وتردّت قدراتها الاقتصاديّة، واستعادت المقاومة الفلسطينية مكانتها باطّراد منذ العام 2014 وصولا لمعركة “سيف القدس”، التي التفّت فيها جموع الفلسطينيين في كلّ أماكنها حول المقاومة، وهتفت لرموزها وفصائلها، وعزّزت المقاومة بهذه المعركة من دورها التعبوي للجماهير، الأمر الذي ما تزال مفاعيله حاضرة كما هو المشاهد في ساحة الضفّة الغربية، وقد تتعاظم، لا سيما والحالة الصهيونية أقلّ تماسكا، والمنطقة والعالم أكثر سيولة. فعلى قسوة معطياتها الراهنة، فليست في جمود واستقرار وصلابة ما قبل الثورات العربية، وما قبل الحيرة الإقليمية الجارية.
لا يمكن التغافل عن الجانب الذي يبدو جامدا من الصورة، لكنه ليس الجانب الوحيد منها، فالتحوّلات جارية وإن بدت بطيئة، كما أنّ الجمود في ذاته الذي اعترى الحالة طوال أكثر من عقد قد يكون ضروريّا لخلق التحوّلات الصحيحة، أو للدفع نحو الأفكار الصحيحة، بدلا من المراوحة في الأفكار العاجزة ذاتها. وما يمكن استخلاصه من ذلك كلّه: أولا القدرة على تحقيق الإمكان، وثانيا حتمية المواجهة واستحالة الترويض الأبديّ للشعب الفلسطيني أو تصفية قضيّته، وثالثا أنّ أهداف العدوّ ليست حتميّة مهما كان تفوّقه هائلا، ورابعا النضال وحده الذي يخلق التحولات ويصحّح المسارات ويستعيد المواقع ويرفع الفاعلين ويجدّد الإرادة والروح المعنوية للجماهير.
المصدر: عربي 21