علي العبدالله
لم يكن ما أعلنه مبعوث الرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، عن حيثيات الحل النهائي للصراع في سورية جديدا أو مفاجئا؛ ما جعل رد فعل المعارضة السورية ومؤسّساتها السياسية على تصريحه ناشزا ومستغربا، فقد كانت روسيا، منذ انطلاق ثورة الحرية والكرامة، ضد التغيير الديمقراطي المنشود، ومع بقاء النظام مع تعديلات طفيفة في بنيته؛ وقد عبّرت عن ذلك بصور وأشكال عديدة من استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن 16 مرّة، لحمايته من المساءلة والمعاقبة إلى المناورات حول فحوى القرارات الدولية، للدفع بتفسيرات تصبّ في مصلحته وبقائه إلى تدخلها العسكري عام 2015، واستثمار قدراتها الجوية الجبارة في ضرب فصائل المعارضة المسلحة وتشتيتها وتدمير أسلحتها البسيطة والاستحواذ على الأراضي التي كانت تسيطر عليها وقتل المدنيين وتدمير البنى التحتية لإجبارهم على النزوح، مرورا بالعمل على تمزيق المعارضة السياسية وتفريق صفوفها وضربها بعضها ببعض عبر تشكيل المنصّات والمسارات السياسية الموازية لمسار جنيف الأممي، أستانة وسوتشي، بحيث تؤسّس لأمر واقع، يجعل بقاء النظام تحصيل حاصل. حديث المعارضة عن “انقلاب” روسيا على العملية السياسية وتدميرها ليس أكثر من إعلان رسمي عن انفصالها عن الواقع، وعيشها في الأحلام والأوهام الذاتية، وافتقارها قدرات الدرس والتقويم والتوقع والتخطيط لمراحل التفاوض بناء على تقديرات واقعية وتصوّرات عملية.
لم يكن تصريح المسؤول الروسي موجّها إلى المعارضة السورية، كي يبلغها رفضه تطلعاتها وتصوراتها، فلا جديد في مواقفها أو لديها مشاريع تنوي تنفيذها تستدعي إعادتها إلى جادّة “رشدها”، ووضع محدّدات لوقفها عند حدّها فمسيرتها لا تشير إلى احتمال التمرّد على خطط روسيا وبرامجها لإفراغ العملية السياسية من محتواها وإبعادها عن جوهر القرارات الدولية. للتصريح، بفحواه وتوقيته، وظيفة أخرى وعنوان آخر، هو نقلة على رقعة شطرنج الاشتباك الروسي الأميركي وامتداداته الجيوسياسية والجيواستراتيجية الذي جسّدته الضغوط المباشرة في البحر الأسود والحدود الروسية الأوكرانية وبحر البلطيق والحدود البيلاروسية البولندية: حشود عسكرية روسية ضخمة على الحدود الأوكرانية وتدريبات عسكرية وتجارب صاروخية وإنذارات سياسية مشفوعة بمطالب محددة من الجانب الروسي، ومناورات بحرية ضخمة وقرارات عسكرية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وتهديدات بإجراءات قاسية في حال مهاجمة روسيا أوكرانيا، من الجانب الأميركي.
عكست الضغوط المتبادلة سعي الطرفين إلى تحقيق مكاسب جيوسياسية واستراتيجية. تريد روسيا دفع الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو إلى التراجع عن خطط تمدّد الحلف نحو حدودها الغربية، عبر سحب دعوته أوكرانيا وجورجيا إلى الانضمام إلى صفوفه وعدم نشر أسلحة متطورة في أراضي الدول التي التحقت بالحلف بعد عام 1997، دول شرق أوروبا، ما يعني، في حال تحقّقه، كسر اندفاعة التحالف الغربي وهزّ أسس النظام الدولي الحالي أحادي القطب والتمهيد لقيام بديل يرتكز إلى تعدّد الأقطاب تكون من ركائزه، في حين تحاول الولايات المتحدة حماية النظام الحالي الذي تجلس على قمته منفردة، عبر تطويق روسيا بضم أوكرانيا وجورجيا إلى صفوف الحلف وتركيز انتشارها العسكري في أوروبا في دول أوروبا الشرقية التي كانت جزءا من حلف وارسو؛ ما يجعل صواريخها تصل إلى الأراضي الروسية في عشر دقائق، وفق تصريح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، واحتواء الصين.
وقد قاد الرفض الأميركي للمطالب الروسية، كما عكسته مواقف حلف الناتو ودول الاتحاد الأوروبي، والمكالمتان الهاتفيتان بين الرئيسين، الأميركي بايدن والروسي بوتين، إلى رفع سقف الضغوط وتوسيع ساحة الاشتباك نحو ساحاتٍ أخرى، منها الساحة السورية، حيث يمكن قراءة تصريح المسؤول الروسي ردّا على مواقف وإجراءات أميركية: موافقة الكونغرس على ميزانية وزارة الدفاع (البنتاغون)، مع زيادتها بـ 25 مليار دولار عما طلبه بايدن، وقدرها 778 مليار دولار وضمنها بند لدعم أوكرانيا بـ 300 مليون دولار ومبلغ للتعاون في مجال الأمن مع دول البلطيق بـ 150 مليون دولار، واستهداف النظام السوري إن بتوقيع الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، قرار التقصّي عن ثروة رئيس النظام وأسرته وتحديد مقدارها ومصدرها، وتحرّك الإدارة الأميركية لمنع التطبيع مع النظام وتأهيله ومنع إعادته إلى جامعة الدول العربية ومساءلته عن أفعاله خلال العشرية الماضية، والنظر بعين الرضا إلى الغارات الإسرائيلية المتلاحقة على المواقع الإيرانية على الأرض السورية؛ وتعضيد الموقف التركي في شمال غرب سورية في مواجهة الضغوط الروسية والإيرانية وتخصيص مبلغ 300 مليون دولار من ميزانية الدفاع لدعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؛ مرفقا بإعلان عن بقاء القوات الأميركية شرق الفرات، وفتح شيوخ في الكونغرس ملف صناعة حبوب الكبتاغون المخدّرة وتصديرها، والدعوة إلى وضعه على جدول أعمال الإدارة. وتنطوي الإجراءات في الملف السوري على استهداف خطة روسيا لتعويم رئيس النظام، ولعرقلة مسار أستانة، عبر بقاء القوات الأميركية على الأرض السورية.
وقد واكبت تصريح المسؤول الروسي، مواقف وإعلانات روسية: إعلان بوتين، في برقيته لتهنئة رئيس النظام السوري بمناسبة رأس السنة الميلادية “أن بلاده ستواصل تقديم الدعم الشامل لسورية الصديقة في الحرب ضد الإرهاب الدولي، وكذلك في ضمان تسوية سياسية شاملة وإعادة الإعمار بعد الصراع”، وتهديد لافرنتييف نفسه بعدم تمديد آلية إدخال المساعدات الدولية عبر الحدود ما لم يتعامل الغرب مع النظام السوري ويرسل المساعدات إلى دمشق ليتم توزيعها منها؛ وأن يقدّم له مساعدات في إطار الإنعاش المبكر لإعادة مرافق دعم الحياة، والطاقة، وخطوط الكهرباء، ومحطّات ضخ المياه، ومرافق الرعاية الصحية، والمدارس، كل المساعدات التي تصل إلى سورية يجب أن تدخل عبر السلطات الشرعية، فالسلام في سورية مرتبطٌ بتحقيق السيادة الكاملة للحكومة السورية، وفق تصريحه، توسيع القاعدة الجوية في حميميم وتطويل مدرّجاتها كي تصبح مناسبةً لهبوط (وإقلاع) طائرات النقل الثقيلة وقاذفات نووية استراتيجية، التلويح بنشر صواريخ “تسيركون” في ميناء طرطوس لتغطية حوض البحر الأبيض المتوسط، وفق إعلان رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما، أندريه كارتابولوف، وتعزيز وجودها في مطار القامشلي بزيادة عدد الطائرات إلى 24 طائرة من طرازات مختلفة، سوخوي 34 وميغ 29 ومروحيات هجومية، وطائرات للإنذار المبكر والتشويش ومنظومات تشويش خاصة بالحرب الإلكترونية، إجراء مناورات عسكرية مع قوات النظام في بادية السويداء على مدى أسبوع، بالقرب من القاعدة الأميركية في التنف، باستخدام الذخيرة الحية؛ تضمّنت تدريبات “تحاكي الحروب الصحراوية ومواجهات مع الجماعات المسلحة المدعومة من واشنطن التي تنتشر في البادية السورية”، وفق مصدر عسكري من قوات النظام. هذه المواقف والإعلانات المتبادلة جزء من عملية عضّ أصابع للضغط من أجل ثني روسيا عن مهاجمة أوكرانيا بالنسبة للولايات المتحدة، ومن أجل الضغط على الولايات المتحدة وحلفائها لتلبية مطالب روسيا في أوكرانيا وشرق أوروبا.
لا يلغي هذا حق المعارضة السورية في الردّ على الموقف الروسي ورفضه وإدانته، ولكن ليس باعتباره انقلابا على العملية السياسية وتدخلا في الشؤون السورية، كما قالت، بل باعتباره جزءا من مخطّط لزج سورية في صراع دولي واسع، باستخدام أراضيها للمناورات العسكرية والسياسية، ما يحوّلها إلى بؤرة صراع مديد، ويربط مستقبلها بالمصالح الروسية باستمرار احتلالها جزءا مهما من أراضيها واستغلال مواردها، من دون استبعاد تحويلها إلى ساحة معركة إقليمية دولية يدفع شعبها أثمانا باهظة من أبنائه وموارده، والرد على ذلك بإعادة تقويم موقفها من العملية السياسية واتخاذ موقف عملي من مساري أستانة وسوتشي؛ والتمسّك بمسار جنيف والمطالبة بفتح كل السلال لمفاوضات متواصلة، حتى إنجاز الهدف بتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة.
المصدر: العربي الجديد