د- عبد الناصر سكرية
على مدار أربعة عقود متتالية كان الشعب السوري يعبر بأشكال متنوعة عن سخطه على نظام القمع والإستبداد والإنحراف الوطني إلى عصبوية طائفية مقيتة، وكان يقدم التضحيات المتواصلة دفاعا عن هويته الوطنية باحثا عن حريته المفقودة وكرامته المهدورة في اقبية أجهزة الأمن التي بلغ عددها العشرات وبلغت شراستها عنان السماء وأسماع العالم أجمع.
وعلى الرغم من التحركات الإعتراضية الكثيرة التي حدثت في تلك العقود وقدم فيها الشعب السوري بكل فئاته ومشاربه السياسية ؛ تضحيات كبيرة سجونا مليئة وقتلا وتشريدا وتهجيرا ؛ إلا أن بيئة وطنية ملائمة لثورة شعبية عامة لم تتوفر إلا بعد ان تراكمت تحديات كثيرة ومعها اخطار متشعبة وفوقها تضحيات ومساهمات عامة شاملة أضيفت إلى ظرف تاريخي مؤات في الوسط العربي المحيط حينما إندلعت إنتفاضات ثورية كثيرة في عدة بلدان عربية..
فكان أن إندلعت إنتفاضة ثورية شعبية عارمة في سورية إستجمعت في زخمها كل الطاقات النضالية والحوافز الوطنية وقيم المجتمع السوري الملهمة لتغيير حقيقي يبني دولة الحرية والعدالة والمواطنة ..
وهكذا تفجرت تلك التظاهرات المدنية الشعبية الرائعة بملايينها الشبابية وأبنائها من كل أنحاء سورية ، فشكلت تهديدا حقيقيا لسلطة الفساد الطائفي والإستبداد الأمني المخابراتي والإنحراف الوطني الشامل..وحينما دنت من بلوغ مراميها تدخلت جهات كثيرة متضررة من أي تغيير حقيقي في سورية لصالح الحركة الشعبية فهذا يهدد مصالح محلية وإقليمية ودولية كثيرة وإن تضاربت أحيانا إلا أنها تلاقت على إبقاء سلطة التبعية المأجورة ووأد الانتفاضة الشعبية الحرة بل وتشويهها وتحريف غاياتها وجرها الى مستنقعات التبعية والفساد المأجور وذلك بتسليط واجهات مرتهنة هنا او هناك لعبت ولا تزال دور المرابي الذي ينتعش من أقوات الناس وعملهم..ولقد تزعمت الولايات المتحدة الامريكية وادواتها المتشعبة مهمة إفشال الثورة وتحريف مسارها وتشويه مقاصدها انسجاما مع مخططها العدواني المسمى الشرق الاوسط الجديد…وهكذا صار الشعب السوري هو الذي يقدم التضحيات ويتحمل النتائج الإجرامية التدميرية فيما أؤلئك المتسلقون على جدران الثورة يبيعون ويشترون ويتاجرون بدماء الشهداء وعذابات المعتقلين وأوجاع المهجرين المشردين..إلى أن بلغ الإمتهان بإرادة الشعب السوري وآماله أن وضع أمام خيارين متكاملين إما الواقع المظلم المتجبر الفاسد وإما البديل المأجور الذي يتاجر بالسياسة في جانب ويمارس القمع والإجرام في جانب آخر..
وسط هذه الأجواء والمآلات ثمة تساؤلات كثيرة تحتاج إلى إجابات واضحة محددة دفعا للإلتباس الذي يؤدي إلى النكوص والتراجع أو الإحباط واليأس..
لماذا حدث ما حدث
لماذا انتكست الثورة ؟
لماذا لم نحقق أهدافا ذات شأن
لماذا دفعنا تضحيات عظيمة فحصلنا على مكاسب هزيلة ؟؟
هل كانت ثورة عقيمة ؟
هل الشعب السوري هو المشكلة وهو المسؤول بما يحمل في ذاته وشخصيته من رواسب وعادات كما يقول البعض ؟؟
هل عقرت نساء سورية عن إنجاب شباب وطني قادر على الدفاع عن وطنه والذود عن هويته وحريته ؟؟
هل تحملت الأحزاب والنخب السورية مسؤولياتها بشكل صحيح وموضوعي ولم تصل لنتيجة ؟؟
ليس هذا حديثا لتقييم الثورة واسباب انتكاستها المرحلية فهذا شرح آخر لكننا اردنا إثارة بند واحد يتعلق بمسؤولية النخب السورية وأوجه قصورها الذاتي عن إستيعاب المتغيرات والضرورات في آن معا..
نريد بهذه التساؤلات مواجهة جدية مسؤولة مع أنفسنا لندرك مواضع القصور والخلل فنتداركها ونصحح فيها ما نحن قادرون على تصحيحه مما يتعلق بنا ونتحمل وزره إذا ما بقي ممتدا فينا مخربا لمسيرتنا معطلا لغاياتنا النبيلة..هذا إذا كان هناك بعد متسع أو شيء من الوقت الكافي للتصحيح أو القادر عليه..
إننا جميعا ندرك حجم التدخلات الخارجية التي خربت في مسيرة الثورة السورية وهو ما ينبغي أن تكون وسائله وادواته ونتائجه واضحة مبينة للجميع ؛ إلا أننا هنا أردنا التوقف فقط عند أسباب قصورنا الذاتي الذي كان أحد أهم أسباب مآلات ثورتنا المخطوفة المحبطة..
واذا كان موضوعيا القول أن عقودا خمسة من الإضطهاد والتنكيل بالشعب السوري حد الرعب وإلغاء الحياة السياسية في عموم سورية ، كانت سببا في عدم تبلور حركة وطنية شعبية جامعة في الأيام والشهور الاولى للثورة ؛ إلا أن هذا السبب لم يعد موضوعيا أو مقبولا بعد إنقضاء عقد كامل من التضحيات والمعاناة الشعبية الشديدة..
فماذا فعلت النخب السورية الحزبية الثقافية والسياسية لتدارك هذا النقص الحاصل ولترتقي الى مستوى تضحيات وعذابات وآلام الشعب السوري فتبادر الى تشكيل قيادة وطنية واحدة تخطط وتقود وتحمي وتصون وتبرمج الاهداف الوطنية وفق برنامج عمل مرحلي نظامي متكامل ؟؟
إن التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب السوري خلال السنوات العشر المنصرمة كانت تكفي لتغيير أعتى الأنظمة وأكثرها دموية وإجراما ، فيما لو توفرت لها ظروف ذاتية ملائمة واولها وأبرزها وفي رأس قائمتها قيادة وطنية ثورية مستقلة نظيفة..
وإذا كان مبررا إنتظار سنة أو سنتين من عمر المؤسسات التي تشكلت كالمجلس الوطني والإئتلاف وما انبثق عنهما لتحديد امكانية جدواها وفعاليتها وصدق تعبيرها عن تطلعات الشعب السوري ؛ إلا أن بقاءها حتى الآن وحيدة كمؤسسات ” معارضة ” إنما يعني فشل كل الآخرين غير الراضين عنها او الواثقين بمصداقيتها ؛ فشلهم في تشكيل قيادة وطنية بديلة…وهذا بدوره ساهم في تعزيز تسلط تلك المؤسسات على مقدرات عينية وتمثيلية كثيرة ؛ وكان ولا يزال سببا في إحجام كثيرين من السوريين المخلصين عن اية مشاركة إيجابية كما في إحباط كثيرين غيرهم ودفعهم إلى زوايا التقوقع والذاتية والإنعزال عن مجريات كل عمل وطني..
ليس هذا فحسب بل إن غياب قيادة وطنية مستقلة شريفة للعمل الشعبي المنتفض لا يزال سببا في تنسيب صفات سلبية متنوعة بالثورة السورية وإتهامات لها باطلة نظرا لبقائها محاصرة بين مطرقة النظام وسندان المؤسسات التمثيلية المرتهنة أو المأجورة سواء تلك السياسية او تلك العسكرية الميليشيوية المجرمة التي تفتك بشرفاء سورية ممن لا تصل إليهم أذرع النظام المجرم مباشرة..
فلا نلومن هنا إلا أنفسنا حينما لا نتصدى للقيادة الحرة البديلة..
واذا كان مفهوما أيضا أن لا يكون لدى النخب الوطنية برنامجا ثوريا وطنيا واضحا للتغيير في الأيام الأولى للثورة ؛ فإنه من غير المفهوم ومن غير المقبول أبدا بقاء التحركات الشعبية مجرد تضحيات كثيرة وكبيرة جدا لكنها متفرقة تهدر على مذبح التشتت والتمزق الوطني..من غير المقبول بقاؤها تقدم على غير هدى بسبب غياب قيادة للعمل الوطني تتخذ لها برنامجا وطنيا مرحليا للتغيير واضح المعالم محدد الوسائل والأهداف والغايات ..يقنن التضحيات ويوظفها في المكان المناسب المجدي والمفيد..
على النخبة السورية أن تمتلك الشجاعة الكافية لتصارح الشعب السوري العظيم بحقيقة عجزها الذاتي عن التقدم ومجارات تضحياته والإرتقاء إلى مستواها وتحمل مسؤولياتها التاريخية الملحة فيما اذا كانت عاجزة فعلا عن ذلك ؛ وذلك حقنا لمزيد من الخراب والدمار والدماء والتهجير والإنهيار..وإلا فلتبادر فورا الى تجاوز ذاتها ومعوقاتها الذاتية لتعيد الامل والثقة بالثورة وبالمستقبل..في ذات الوقت الذي يتوجب عليها العمل على تصعيد نخب شبابية قيادية جديدة من اؤلئك الشباب الذين تصدوا بصدورهم العارية لموجات الإجرام المتلاحقة ؛ اؤلئك الصامدون في الداخل يعملون في كل ميدان ومجال من اجل حماية الناس ومساعدتهم على البقاء والصمود والمواجهة..
لقد تجاوزت الحركة الشعبية الثورية المنتفضة كل قدرات النخب السياسية التي كانت قائمة عند إندلاع الثورة .تجاوزتها بعد أن فاجأتها وتقدمت عليها عطاء وتضحية وإيثارا..يدل على هذا أن كل التضحيات كانت من تلك القيادات الشعبية التي ظهرت ميدانيا وتصدت لمهام الثورة والمواجهة ..كما ان الأثمان الباهظة دفعتها الفئات الشعبية كلها عدا تلك النخب القابعة تحلل وتنظر من وراء مكاتبها الجميلة..ولعل هذا أحد أسباب عجزها عن قيادة الانتفاضات الشعبية حينما كانت حاضرة فاعلة تحتاج للتوجيه والحماية والرعاية والتطوير..
إن الجهود التي بذلها ويبذلها مئات وربما آلاف الناشطين السوريين في أرجاء العالم المتفرقة سعيا وراء سراب تدخل دولي او مساعدة دولية للشعب السوري في مطالبه الانسانية العادلة ؛ إنما تشكل أحد اوجه القصور الذاتي لتلك النخب وعجزها عن فهم وادراك كنه النظام الحاكم وطبيعة واهداف ومصالح القوى العالمية التي تسانده وتحميه.وحقيقة اطماعها جميعا في الوطن السوري والجغرافيا السورية كما في التاريخ السوري أيضا..
إن اللهاث وراء موقف دولي الى جانب الشعب السوري إنما هو إضاعة للوقت وللجهد وللنتائج أيضا..
إن الجهود الجبارة التي بذلها ولا يزال كثيرون من الفعاليات السورية في الفضاء الدولي كانت كافية لحماية الثورة وتنظيم صفوفها وبلورة مطالبها وقيادتها الوطنية ؛ فيما لو كانت بذلت في الداخل السوري لترتيب شؤونه ومتطلبات صموده وبقائه وحماية قياداته الشبابية المنبثقة عن حراكاته الميدانية ، وتنشئتها تنظيميا وحركيا لتتحمل مسؤولية ما عجزت عنه النخب السابقة للثورة ..
تلك فرصة أضاعتها تلك النخب والفعاليات يوم ان كان بإمكانها الاهتمام بالداخل الميداني وليس بالخارج المجاني..
هذه تجربة أخوتنا في الثورة الفلسطينية ومآلات تضحياتها بعد خمسة عقود من النضال والفداء..ها هو الداخل الفلسطيني قد أصبح عماد الصمود والمقاومة والأمل بالإنتصار ..اما الخارج الفلسطيني وهو الكثير الانتشار والعميم نوعية وامكانيات فإنه لم تعد له فعالية في العمل الثوري والوطني الفلسطيني..
ومهما تعاظمت قوة الخارج السوري وفعالياته فلن تبلغ خمس ما تحصل عليه الخارج الفلسطيني من تأييد دولي ومن امكانيات متنوعة ومع ذلك عاد ليتطلع الى الداخل ليكون منطلق الثورة والتغيير..فهل نتعظ ونعود فنولي الداخل ما يحتاجه من دعم ورعاية وتثوير وترشيد وقيادة ؟؟
كذلك تحمل تجربة أهلنا في العراق دلالات كثيرة ودروسا عميقة ينبغي أن نتعلم منها ونصحح مواقعنا وتوجهاتنا فلا نقع في فخ ما وقعت فيه نخب عراقية وطنية لا تزال تدفع ثمنه ضعفا وتشتتا حتى اليوم..
إن تعليق اية آمال على الغرب والأمريكي تحديدا لمساعدة الشعب السوري إنما هو وهم موصوف واضح يبدد الجهود ولن يحصل إلا الخداع الذي تجيده الولايات المتحدة راعية الإرهاب في العالم بكل أشكاله ومرتكزاته..إنها هي الموجه الحقيقي لكل الوقائع الميدانية التي تجري لسورية وفيها..
وليس قانون قيصر الا خديعة كبرى تستهدف المجتمع السوري باكمله تفتيتا وتفكيكا وإنهاكا حتى السقوط الكامل تحت وطاة عملية سياسية وأمنية سوف تؤدي بسورية الى وضع مشابه للعراق ..
وإذا كانت كل الوقائع الميدانية عبر العالم لم تقنع بعض النخب السورية بما هي عليه سياسة وأهداف الولايات المتحدة والصهيونية العالمية في سورية والمنطقة العربية والعالم ؛ فإن مثل هذه النخبة لا تصلح لقيادة اي عمل وطني ينقذ سورية..
وفي مقابل هذا فإن عصبوية فئوية ذاتية لا تزال تهيمن على كثير من النخب السورية فتقعدها عن ممارسة دورها الوطني التوحيدي القيادي المطلوب..
تلك فئوية من منشأ حزبي سابق أو ذاتي لاحق ؛ تمنع أصحابها من الإنعتاق للارتقاء إلى مستوى القضية الوطنية الملحة جدا ولن تنتظر أحدا منهم..
ذاتية فئوية معيقة ومعوقة لا يعول على من لا يزال متمسكا بها رغم إلحاح الواقع الى تكامل الطاقات الوطنية منعا لمزيد من الإنهيار وإطلاقا لعمل وطني شامل لإنقاذ سورية وشعبها وبناء سورية جديدة كما تتطلعون..
إن الشعب السوري يواجه وحيدا قوى النفوذ العالمي الجبارة وأدواتها المحلية المتمكنة ؛ فإذا لم تواجه النخبة ذاتها أولا فتتجاوز فئويتها وقصورها فلن تقوى على قيادة الشعب السوري ولا على التعبير الأمين الصادق عن تطلعاته وآماله في الحرية والعدالة والحياة الكريمة..
إن مئات التشكيلات والتجمعات المخلصة الشريفة المندفعة لخدمة القضية السورية والتي انبثقت في الداخل وفي الخارج ؛ لن تكون فاعلة مؤثرة ما لم تتوحد في إطار عمل جبهوي واحد بقيادة واضحة وبرنامج عمل مرحلي محددا..يرسم أهدافا عملانية لكل سوري وطني في كل المواقع والساحات في اطار استراتيجية وطنية متكاملة توحد وتجمع وتصون ولا تبدد..
إن بعض الجماعات قد اسست تشكيلات او منظمات لخدمة العمل الوطني لكنها سرعان ما إتخذتها معيارا لعلاقاتها بالآخرين فصارت هي القضية والحكم..فترسخت في مزيد من التشرذم والذاتية..وصاروا كم يصنعون الأصنام ليعبدوها..
إن قوى النفوذ الأجنبي بما تملكه من امكانيات مرعبة واساليب شيطانية استخباراتية جهنمية لا تزال قادرة على التلاعب بالنفوس والعقول والاهتمامات وتحمل الكثيرين على الانتظار ثم الإنتظار ريثما تستطيع تغيير الوقائع الميدانية المجتمعية الى ما يحقق لها اهدافها ويضمن لها سيطرتها الى عقود طويلة مقبلة على مجتمعاتنا وبلادنا وكل العملية السياسية فيها ..فالزمن حاسم وخطير وليس في صالح شعبنا فعلام لا يزال الكثيرون ينتظرون حتى ان طروحات بعضهم وتحليلاتهم توحي وكأنهم قد أسسوا حزب الانتظار فباتوا إنتظاريين الى ما لا نهاية لغد لن يشرق لصالحهم طالما بقوا على حالهم من الضعف والتشتت والسلبية..
فيما انصرف آخرون الى ما يسمى الوعي وخلق الوعي معتبرين ان مشكلة شعب سورية هي غياب الوعي وتجذر معتقدات بالية وليس نظام القهر الأمني..
فيما المطلوب الملح العمل الواسع على نشر ثقافة المقاومة الوطنية والتمسك بالأرض وبالهوية لمواجهة مخططات تفريغ سورية من سكانها وتغيير هوية من يتبقى في أخطر عملية تغيير ديمغرافي عرفتها بلادنا عبر تاريخها الطويل..
إن أية جهود أو أبحاث في كل المسائل المتصلة بالوعي المجتمعي والإصلاح الديني وأنظمة الحكم – على أهميتها الكبيرة – إن لم تكن جزءا متكاملا مع عمل وطني ثوري تحرري يستهدف بناء حركة وطنية جامعة تتصدى لمهمات توحيد الطاقات والجهود من أجل إنقاذ سورية وشعبها العربي من نظام القهر والإستبداد الوظيفي ومن كل احتلال أجنبي وكل أشكال الإنفصالية والإنعزالية والتقسيم ، لا تمثل ضرورة وطنية ملحة ولا تحتل حيزا ذا قيمة في مجمل العمل الوطني اللازم والمطلوب بإلحاح شديد..
إن النخب السورية التي إنصرفت إلى ما يسمى خلق وعي جديد – مكتفية بما تسعى – إنما أسقطت من حسابها ضرورات العمل الوطني الراهنة الملحة في ظل الظروف الإستثنائية جدا التي تعيشها سورية..كما أنها تسقط فعالية الزمن من الحساب ظنا منها أن القوى المعادية والطامعة سوف تتوقف عن التخريب والنهب والتفكيك والتدمير وصناعة وعي مضاد بإنتظار ذلك الوعي الموهوم الذي سوف تشكله تلك النخب المنهزمة وربما المهزومة في ذاتها ..وإن لم تكن كذلك فهو وعي يحتاج الى عشرات السنين ليتشكل بالصورة التي يصبح فيها قادرا على التغيير السلمي المنشود..هذا فيما لو توقفت تلك القوى المعادية لتحرر سورية وشعبها عن العمل التخريبي المضاد..إن هذه القوى المعادية لسورية الوطن والشعب ولنظام العدل و القانون والإستقلال ؛ بما تملكه من إمكانيات هائلة ، بل هائلة جدا ، قادرة على ممارسة كل انواع التخريب الثقافي والفكري والسياسي والأقتصادي والإجتماعي والأخلاقي بما يكفي لتدمير ليس مقومات الصمود والتغيير بل لتدمير مقومات الحياة ذاتها بما فيها وجود الانسان ذاته..أليس هذا ما يحصل حاليا في سورية ؟؟ الا يجري تفكيك البنيان حجرا حجرا حتى ينهار كل شيء وينهار معه الإنسان ؟؟ وماذا ينفع بعد ذلك كل حديث عن الثورة والتغيير وعن الإصلاح والوعي وشكل النظام وحتى عن الدين والعلمانية والديمقراطية والحداثة والتراث ؟؟
كما أن بعض المثقفين السوريين النخبويين راحوا ينبشون في بطون التراث بحثا عن مسوغات للاستبداد او تأييد له تحت مظنة القول ان ما تشهده سورية مؤخرا من عصف الاستبداد إنما مرجعه الى تراث غائر في القدم عمق تكوين امتنا التاريخي..افلا يعني هذا تبرئة نظام الاجرام الحاكم من تهمة الاستبداد ؟؟ أليس هذا تحويلا للصراع في مواجهة النظام والاحتلال الى مواجهة مفتوحة لا تنتهي ولا تصل الى نتيجة ، مواجهة مع التراث وهو الجامد المتراكم في النصوص ؟؟
أليس تحرير النفوس أولى بالاهتمام والبحث والتفكير من تحرير النصوص ؟؟
هؤلاء إنما يبرئون النظام واتباعه من مسؤولية الاجرام والبطش والارهاب بحجة البحث في جذوره التاريخية .
فهم إما منافقون او متوهون علموا ذلك ام لم يعلموا..
او متخاذلون هربوا من تحمل مسؤولية عملانية بما تتطلبه من جهود وتضحيات وتحمل..
بعض المثقفين السوريين إنصرفوا عن البحث في ماهية النظام ومفاعيل حكمه المستبد طيلة خمسة عقود إلى البحث في مفاعيل التراث وسلبياته وكأنهم بذلك يقدمون خدمة للنظام الذي بات لا يأبه لجهودهم وأبحاثهم النقدية طالما بقي متسيدا على كرسي الحكم غطاء لكل أنواع الشرور والمظالم والعدوان..وبقيت إهتماماتهم غائرة بعيدا عن الواقع الراهن..
أليس ملفتا غياب برنامج وطني مرحلي للتغيير حتى الآن لدى جميع النخب والتشكيلات والمنظمات السورية ؟ فضلا عن الأحزاب او ما بقي منها لم يترنح تحت وطأة العصبية الحزبية أو الجمود التنظيمي..
إن الحركة الشعبية السورية تملك خزانا نضاليا ثوريا عظيما لكنه يحتاج الى تنظيم وليس الى تنظير..
خزان هائل يفوق ما لدى معظم النخب من روح متحفزة للتغيير ومستعدة لدفع أثمانه الباهظة وهو ما لم تقدم كثير من النخب دليلا على إمتلاكها قدرة مشابهة له..
إن الثورة تحتاج الى قيادة ثورية..وليس الى مثقفين منظرين..الثوري هو الذي يلتصق بمعاناة الشعب ويعبر عنها بامانة ويقودها بتنظيم قوتها وإندفاعها حتى تحقق أهدافها المرحلية وغاياتها النهائية ..
وليس كل مثقف ثوريا وإن أيد الثورة او وقف الى جانبها بما يقول ويكتب..
ان هذا لا يعني خلو ساحة العمل الوطني من نخب مخلصة ثورية أمينة ، بل هناك الكثير المتنوع المتعدد منها..لكنها تبقى منقوصة القدرة على الفعل بسبب غياب الاطار التنظيمي الذي يجمعها ويوحد طاقاتها وجهودها ويستثمرها في الاتجاه الصحيح..
ان تخلص الشعب السوري من عقدة الرعب الذي عاش فيه عقوده الخمسة الأخيرة يشكل أحد أهم الحوافز الثورية للتضحية والعطاء على أن تتوفر له القيادة المنظمة التي توجهه الوجهة السليمة فلا يتحول إلى مرتع للمزاجيات والأهواء والتنافس والمناكفات والحساسيات الفارغة المحبطة..
خلاصة القول أن نخبا سورية لا تزال تعيق العمل الوطني بترددها وعدم قدرتها على تجاوز ذاتيتها وفئويتها الحزبية أو الشخصانية فتبقى حائرة ضعيفة تنتظر مساعدة الغرب المخادع او تنصرف لأبحاث نظرية دون تنظيم ودون قيادة توجهها وتحميها وتعبر عنها..
إن طاقات شبابية ومجتمعية كبيرة واعدة في الداخل وكل مكان تنتظر مبادراتكم لتوحيد العمل الوطني وتنظيم صفوفكم حتى يتسنى إتخاذ المواقف الواضحة والأعمال المحددة ومجابهة التحديات والمخاطر على الوجود والحياة في كل أرجاء سورية دونما إستثناء..
أسقطوا من حساباتكم تلك النخب اللاهية أو اؤلئك النرجسيين والفئويين المتمسكين بذاتيتهم على حساب الثورة والقضية..
إن بقاء النخب والتشكيلات والفعاليات السورية مشتتة تائهة تنتظر المجهول ، لا يعني سوى تسليمها بالقدر المحتوم الذي ترسمه وتقرره وتنفذه قوى الإحتلال الأجنبي ومعها قوى النفوذ المحلية والخارجية وأدواتها المتنوعة والتي تؤدي عملا منسجما متكاملا يريد لسورية الإنهيار التام ..
واذا لم نستطع تغيير الوقائع الميدانية كما نريد فمن العار أن نبقى مشتتين كشهود زور على نحر بلادنا وإغتصابها .فليتوحد جميع الوطنيين فورا ودونما تردد او مماطلة أو مماحكات حتى يكون للشعب السوري من يعبر عنه ويرعى حقوقه وتطلعاته دفعا لكل تزوير وخداع ومتاجرة ..وهذا أضعف الإيمان..
فماذا انتم فاعلون حتى لا تكون النخبة السورية سببًا في إهدار القضية وتبديد التضحيات العظيمة التي قدمها الشعب السوري على مذابح الحرية والعدالة والكرامة.