رامي القليوبي
تبدو جولة المحادثات الروسية الأميركية التي تعقد غداً الإثنين في مدينة جنيف السويسرية، والتي يفترض أن تركز على الضمانات الأمنية التي تطلبها موسكو في ما يتعلق بتوسع واشنطن وحلف شمال الأطلسي، إلى جانب الملف الأوكراني، وقضايا الاستقرار الاستراتيجي، مفتوحة على جميع الاحتمالات.
وعكست التصريحات الاستباقية الصادرة عن مسؤولين أميركيين وروس محدودية الآمال المعلقة على المحادثات، وسط إصرار موسكو وواشنطن على رسم خطوط حمراء لحدود ما يمكن أن يقدمه كل طرف للآخر، وتشديدهما على رفض منح أي تنازلات.
لكن يدرك الطرفان، في الوقت نفسه، أن غياب حد أدنى من التفاهمات سيمهد لتوتر أوسع سياسي واقتصادي، وسيكون بمثابة إعلان مبكر لفشل اجتماع “مجلس روسيا – الأطلسي” المقرر في بروكسل الأربعاء المقبل، والذي يعقبه لقاء آخر بين ممثلي روسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في فيينا، الخميس.
ويشارك في المفاوضات من الجانب الأميركي نائبة وزير الخارجية ويندي شيرمان ومدير العمليات في هيئة الأركان المشتركة الجنرال جيمس مينغوس، ومن الجانب الروسي نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، ونائب وزير الدفاع ألكسندر فومين.
وعشية انعقاد المفاوضات، قدم ريابكوف نظرة متشائمة إلى إمكانية خروج الاجتماع بحلول سريعة للأزمة. ووصف ريابكوف، في مقابلة مع صحيفة “إزفيستيا” الروسية، المقاربة الروسية بأنها “حازمة إلى حد كبير”، محملاً الغرب المسؤولية عن التوجه السلبي لوضع الأمن الأوروأطلنطي.
موسكو ترفض تقديم تنازلات أحادية الجانب
وأكد ريابكوف، في تصريح لوكالة “نوفوستي” نشر اليوم الأحد، رفض موسكو لإصرار واشنطن على تقديم روسيا تنازلات أحادية الجانب، واختيارها المضاربات بدلاً من النهج البناء، معتبراً أن ذلك لا يمكن أن يكون قاعدة لنقاش مثمر حول الضمانات الأمنية.
وذكر ريابكوف أن الجانب الروسي سيطالب في المفاوضات بعدول حلف شمال الأطلسي (الناتو) عن التوسع شرقاً والعزوف عن نشر أسلحة ضاربة بالقرب من الحدود الروسية.
لكنه لم يستبعد أن تواجه موسكو انعدام رغبة الغرب في استيعاب المطالب الروسية المتعلقة بالضمانات الأمنية بعدم التوسع، و”إزالة كل ما أنشأه الحلف مدفوعاً بفوبيا معاداة روسيا ومختلف أنواع التصورات الخاطئة حول جوهر السياسة الروسية منذ عام 1997″.
وقال: “لكننا، بالطبع، لن نقدم أي تنازلات تحت الضغط”. ولم يستبعد ريابكوف أن يقتصر الحوار مع الولايات المتحدة في جنيف حول الضمانات الأمنية على اجتماع واحد، ما لم تظهر واشنطن رغبة في مناقشة مخاوف موسكو.
بلينكن يحذر من المواجهة
وحذّر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في تصريح لشبكة “سي أن أن” الأميركي اليوم الأحد، روسيا من خطر حدوث “مواجهة” بشأن أوكرانيا. وأعلن أنه لا يتوقع تحقيق انفراجة في المحادثات الأمنية بين الولايات المتحدة وروسيا، لكنه يأمل في إمكانية وجود مجالات يستطيع فيها البلدان التوصل لاتفاق. وقال: “لا أعتقد أننا سنرى أي انفراجة كبيرة في الأسبوع الحالي”.
وأشار بلينكن إلى أن “هناك مساراً للحوار والدبلوماسية لمحاولة حلّ بعض هذه الخلافات وتجنّب مواجهة”. وأضاف أن “المسار الآخر هو مسار المواجهة، والتداعيات الهائلة على روسيا في حال جددت اعتداءها على أوكرانيا. نحن بصدد تقييم أي مسار يستعدّ الرئيس (فلاديمير) بوتين لاتخاذه”.
واعتبر بلينكن أن أي نتيجة إيجابية للمحادثات ستعتمد جزئياً على استعداد روسيا للتراجع عن موقفها العدواني الذي شبهه “بجو التصعيد بمسدس إلى رأس أوكرانيا”. وأضاف: “لذلك إذا كنا سنتمكن بالفعل من إحراز تقدم، فعلينا أن نرى خفضاً للتصعيد، وتراجع روسيا عن التهديد الذي تشكله حالياً على أوكرانيا”.
وفي مقابلة مع قناة “أي بي سي” الأميركية، كرر بلينكن اعترافه بأنه لا يتوقع تحقيق اختراقات كبيرة في المحادثات مع روسيا، لكنه حذر من فرض عقوبات على موسكو إذا لم تنخرط في الدبلوماسية.
وأعلن أن روسيا قد تواجه عواقب اقتصادية ومالية وخيمة “فضلاً عن اضطرار حلف شمال الأطلسي بشكل شبه مؤكد لتعزيز مواقعه قرب روسيا، وكذلك الاستمرار في تقديم المساعدة إلى أوكرانيا”. وأضاف: “لست أنا فقط من أقول ذلك. لقد أوضحت مجموعة السبع أنه ستكون هناك عواقب وخيمة. كما أن الاتحاد الأوروبي وشركاء حلف الناتو وحلفاءه أيضاً” أوضحوا هذا الأمر.
وكان مسؤول كبير في البيت الأبيض أعلن، أمس السبت، استعداد الولايات المتحدة للتباحث مع روسيا بشأن ترتيبات تخص الصواريخ والتدريبات العسكرية للبلدين.
وقال إن “هناك بعض المجالات التي نعتقد أنه يمكن إحراز تقدم فيها”، شرط أن تكون التعهدات “متبادلة”. وأضاف: “قالت روسيا إنها تشعر بالتهديد من احتمال نشر أنظمة صواريخ هجومية في أوكرانيا. ليست لدى الولايات المتحدة أي نية للقيام بذلك. هذا مجال يمكن أن نتوصل إلى اتفاق بشأنه إذا وافقت روسيا على تقديم التزام متبادل”.
وأشار إلى أن موسكو “أعربت أيضاً عن اهتمامها بمناقشة مستقبل أنظمة صواريخ معينة في أوروبا، وفق مبادئ معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، ونحن منفتحون على النقاش” في هذا الشأن.
وأعلن المسؤول نفسه أن واشنطن مستعدة لمناقشة “إمكان فرض قيود متبادلة على حجم ونطاق” التدريبات العسكرية التي تجريها روسيا والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
لكنه أكد أن واشنطن ليست مستعدة لمناقشة فرض قيود على نشر القوات الأميركية أو على وضع هذه القوات في دول حلف شمال الأطلسي بالمنطقة. وتابع: “ننظر إلى هذه المناقشات بواقعية وليس بتفاؤل”، مشيراً إلى أنها ستكون “استطلاعية” ولن تؤدي إلى تعهدات نهائية.
تشكيك في تحقيق المفاوضات اختراقاً
وفي الوقت الذي تراهن فيه موسكو على الحصول على ضمانات أمنية بعدم استمرار توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقاً، ومنع انضمام الجمهوريات السوفييتية السابقة إلى الحلف، ووضع حد للنشاط العسكري الغربي في أوكرانيا، يشكك خبراء في أن تحقق المفاوضات الحالية اختراقاً في العلاقات المتأزمة أصلاً بين روسيا والغرب.
وفي موسكو، رأى المحلل السياسي في صندوق “الدبلوماسية الشعبية” المعني بتطوير مؤسسات المجتمع المدني، يفغيني فاليايف، أن انعقاد المفاوضات الحالية هو نجاح في حد ذاته، قد يساعد في تخفيف التوتر في أوروبا. لكنه شكك، في الوقت ذاته، في جدوى نتائجها على المدى البعيد.
وقال فاليايف، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن “عدم تأجيل المفاوضات ميزة في حد ذاته، على عكس ما بدا عليه الأمر عندما تقدمت روسيا بمقترحاتها لخفض التوتر ورفض الجانب الأميركي والناتو مناقشتها. لكن الآن من الواضح أن المناقشة ستجري، والأطراف مستعدة لحلول وسط في بعض القضايا، مثل الملف الأوكراني، وهناك استعداد من قبل روسيا والناتو لسحب القوات لخفض التوتر في أوروبا فوراً”.
وحول رؤيته لما قد تتمخض عنه المفاوضات على المدى البعيد، أوضح أن “هناك مشكلات متعلقة بالاتفاقات طويلة الأجل، إذ يطالب الجانب الروسي الغرب بالتزامات مثبتة قانونياً بعدم توسع الناتو شرقاً، وتثبيت فضاء الاتحاد السوفييتي السابق كمنطقتها الحصرية للنفوذ. إلا أن الناتو لا يريد تثبيت هذا الوضع قانونياً، كونه سيخفض من مكانة الحلف. وسيحاول تقديم تعهدات شفهية لن يقبل بها الجانب الروسي”.
إمكانية توقيع نسخة جديدة من اتفاقية الصواريخ
ومع ذلك، لا يستبعد فاليايف احتمال التقدم في المحادثات الروسية الأميركية حول منع نشر الأسلحة النووية. وقال إنه “قد يتم التوصل إلى اتفاق بشأن عدم نشر صواريخ نووية خارج الأراضي الوطنية لكل طرف”.
وأشار إلى أنه “يمكن لروسيا والولايات المتحدة أن توقعا، في الواقع، على نسخة جديدة من اتفاقية الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى التي انسحب منها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب”.
وأوضح أنه “في وقت سابق، كانت واشنطن قلقة من عدم سريان مثل هذه الاتفاقية على الصين، ولكنها أسست تحالفين معاديين لبكين، وهما “أوكوس” الذي يضم بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة، و”كواد” للحوار الأمني الرباعي بين الولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند، ما ينذر بتراجع أهمية الناتو بالنسبة إلى الجانب الأميركي”.
إلا أن فاليايف اعتبر أن الولايات المتحدة لن تقبل بحلول وسطى مع الكرملين في قضايا جوهرية، إلا مقابل تنازلات كبيرة في الملفات، مثل شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في عام 2014، والسياسة الداخلية الروسية.
في المقابل، رأى فاليايف أن موسكو غير مستعدة لمناقشة قضية القرم مع كييف، وقضية المعارض المعتقل، مؤسس “صندوق مكافحة الفساد”، أليكسي نافالني، وغيره من المعارضين مع واشنطن أو أي طرف آخر.
وخلص إلى أن المحادثات المرتقبة “مهمة بالدرجة الأولى من وجهة نظر العملية الدبلوماسية، وهي أفضل في جميع الأحوال من التوتر العسكري. ولكنها قد تنتهي بلا نتيجة، في حال تمسّك الأطراف بمواقفها ومواصلتها استعراض إمكانياتها الهجومية والدفاعية وسط استمرار سباق التسلح”.
لقاءات روسية مع “الأطلسي” وأوروبا
ومن اللافت أنه بعد يومين فقط على مفاوضات الإثنين، سيعقد اجتماع لـ”مجلس روسيا – الأطلسي” في بروكسل الأربعاء المقبل، على أن يليه لقاء بين ممثلي روسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في فيينا الخميس. واعتبر الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية، قسطنطين بلوخين، أن مثل هذا التسلسل الزمني للمفاوضات لم يتم وضعه صدفة، وإنما نظراً للدور الرائد الأميركي في حلف شمال الأطلسي.
وقال بلوخين، لـ”العربي الجديد”: “ستحدد نتائج المفاوضات مع الولايات المتحدة موقف الناتو، الذي تلعب واشنطن فيه دوراً رئيسياً، مستخدمة الحلف كأداة لسياستها الخارجية”.
لكن بلوخين استبعد احتمال حدوث اختراقات نتيجة للمحادثات الروسية الغربية. وأوضح أن “الولايات المتحدة ودول الناتو تنظر إلى المطالب الروسية على أنها إنذار، كما أنها لم تنفق مئات مليارات الدولارات على البنية التحية العسكرية، ولم تزرع أنظمة معادية لروسيا في محيطها، ولم تفرض عقوبات اقتصادية على موسكو، حتى تعدل عن هذه السياسات”.
وحول تأثير انتخاب الرئيس الأميركي، جو بايدن، على قضايا الاستقرار الاستراتيجي، أشار بلوخين إلى أنه “لا ينبغي التوهم بأن بايدن “حمامة سلام” تواجه الإستبلشمنت الأميركي. ولكن الديمقراطيين يتوخون درجة عالية من المسؤولية في قضايا الاستقرار الاستراتيجي. والدليل على ذلك تمديد معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية (ستارت-3)، الذي ما كان له أن يتم في حال إعادة انتخاب ترامب. والآن حان الوقت لمناقشة كيفية إجراءات الشفافية وعمليات التفتيش والرقابة المتبادلة”.
ضمانات بعدم انضمام أوكرانيا إلى “الأطلسي”
كما لا يستبعد بلوخين احتمال حصول روسيا على ضمانات بعدم انضمام أوكرانيا إلى “الناتو”. وقال: “لا يريد الغرب منح عضوية الناتو لأوكرانيا، حيث إن ذلك سيكلف مبالغ طائلة ستتكبدها جيوب دافعي الضرائب الأميركيين، وسيزيد من خطر الصدام المباشر مع روسيا. فتفضل الولايات المتحدة التعاون مع كييف وفق معادلة “الشراكة بلا التزامات”، ومنحها بعض “الصدقات” بين الحين والآخر”.
والجدير بالذكر أن روسيا سلمت واشنطن وحلف شمال الأطلسي، منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، مسودتي اتفاقين أمنيين نصتا على تحديد مبادئ الأمن المتبادل، بما فيها استبعاد استمرار توسع “الناتو” شرقاً، وعدم قبول الجمهوريات السوفييتية السابقة في عضوية الحلف، والتزام الولايات المتحدة بالامتناع عن نشر قواعد عسكرية على أراضيها والدفع بالتعاون العسكري معها، وغيرها من الضمانات.
كما تضمنت المقترحات إشارة إلى الأسلحة النووية والصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، بما في ذلك منع الأطراف من نشر مثل هذه الأسلحة خارج الأراضي الوطنية لكل بلد.
المصدر: العربي الجديد