حسن فحص
بالتزامن مع وصول الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي الى العاصمة الروسية موسكو مستهلا زيارة تهدف الى تعزيز التعاون الاقتصادي والامني والاستراتيجي بين البلدين، دخلت البوارج والقطع البحرية للاسطولين الحربيين الروسي والصيني مياه المحيط الهندي وبحر عمان لتنضم الى القطع الحربية الايرانية وتطلق المناورة البحرية الثالثة على ابواب الخليج تحت عنوان “حزام الامن البحري”. والتزامن انسحب ايضا على انتهاء الزيارة والمناورة، في محاولة لايصال رسالة الى الاطراف الاخرى بتضافر التعاون الامني والعسكري مع الجهود السياسية والاقتصادية بين الدول الثلاث في المرحلة المقبلة لفرض معادلات جديدة في منطقة غرب آسيا وعلى الساحة الدولية.
لا شك ان زيارة رئيسي الى موسكو والقمة التي عقدها مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، شكلت محور اهتمام جميع الاوساط الدولية والاقليمية، لما توحي به من امكانية تشكيل محور جديد على الساحة الدولية في مواجهة الادارة الامريكية وحلف الناتو. يمتد من اوكرانيا مرورا بدول اسيا الوسطى والقوقاز، ومنطقة الشرق الاوسط وصولا الى تايوان اذا ما اضيف له الصين والاتفاقية الاقتصادية الاستراتيجية التي وضعت حيز التنفيذ مع ايران.
النظرة الاولى لهذا المحور المتشكل او الاخذ بالتبلور، يوحي بان المشترك الابرز بين اقطابه، او عامل القوة فيه، تقاسمهم النفوذ في منطقة تعتبر في المنطق الجيوسياسي والجيواقتصادي “قلب العالم” بما تختزنه من ثروات طبيعية وقوة بشرية وعسكرية واقتصادية ناهضة، واحتضانها للممرات البرية والبحرية التي تربط العمق الاوروبي بالمياه الدافئة في الخليج والبحر الابيض الاوسط بكل ما فيها من ازمات وصراعات وتقاسم نفوذ.
الزيارة الايرانية الى روسيا، تشكل في توقيتها حاجة لطهران، لانها جاءت في لحظة مفصلية في تاريخ ازمة ملفها النووي والمفاوضات التي تخوضها مع السداسية الدولية وتحديدا الولايات المتحدة الامريكية. وهي مفاوضات تعتبر مصيرية في حال فشلها او نجاحها، لجهة تحديد مصير المعركة الاقتصادية التي يخوضها النظام الايراني في مواجهة سياسة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الادارة الامريكية، والتي تحولت الى تهديد وجودي بعد عام 2018 والاجراءات التي لجأ اليها الرئيس السابق دونالد ترمب، وخطر تفكيك وتفتيت النظام والدولة من الداخل والاطاحة بهما.
طهران، من خلال الحراك الذي قامت به مؤخرا باتجاه الصين وتفعيل التفاهم الاقتصادي الاستراتيجي لمدة 25 سنة وحجمه البالغ نحو 450 مليار دولار. وباتجاه موسكو لتمديد الاتفاق الامني الاقتصادي لمدة 20 سنة مع طموح برفع مستوى صادراتها لروسيا الى 10 مليار دولار.. انما هي خطوة تأتي بالتزامن مع وصول مفاوضات فيينا لاعادة احياء الاتفاق النووي الى مرحلة دقيقة، استطاعت واشنطن ان ترمي الكرة في الملعب الايراني من بوابة الضغط بالسقوف الزمنية مع دخول المفاوضات ونتائجها مرحلة “تدوين النصوص النهائية” لما تصفه باتفاق جديد مغاير لاتفاق عام 2015.
تحاول طهران استخدام انفتاحها نحو الشرق كورقة ضغط على الدول الغربية، خاصة واشنطن والترويكا الاوروبية، والتلويح بامكانية ان تذهب الاستثمارات التي من المفترض ان تنطلق عجلتها ما بعد الانتهاء من الاتفاق النووي لصالح كل من روسيا والصين، خاصة وان المفاوض الامريكي لوح بامكانية ان تكون استثمارات الشركات الامريكية بديلا عن الضمانات لعدم الانسحاب والعودة الى سياسة العقوبات من اي ادارة قد تأتي الى البيت الابيض، التي تطالب بها طهران .
في المقابل، وبالمستوى نفسه لحاجة ايران للعمق الاسيوي والشرقي، فان الحاجة الروسية لايران لا تقل اهمية، خاصة وان مساحات التداخل بينهما متعددة، سواء في الازمة الافغانية والتعامل مع تداعيات الانسحاب الامريكي، مرورا بالازمة الكزاخستانية ومدى التأثير السلبي على دور اسيا الوسطى والحديقة الخلفية لروسيا او كما تسميها طهران “دول الاقمار الروسية”، وصولا الى الازمة السورية وما قد تفرضه تسوية الانتقال الى الحل السياسي لها وكيفية معالجة الوجود العسكري والامني لايران وحلفائها.
ولعل الحاجة الروسية الابرز من التقارب واحتضان ايران، تتزايد مع ارتفاع حدة الصراع بين موسكو وواشنطن ومعها حلف الناتو والدول الاوروبية حول الازمة الاوكرانية، وقد تمظهر ذلك من خلال حدة الشكوك الايرانية الداخلية وتحذير الفريق المفاوض من الوقوع في فخ استغلال المندوب الروسي في السداسية الدولية لتوظيف دور الوسيط الذي يقوم به مع الفريق الامريكي المفاوض لفرض تنازلات على ايران لتحسين شروطه التفاوضية مع الجانب الامريكي حول الازمة الاوكرانية. خاصة وان الجانب الروسي لعب دورا في احراج النظام الايراني بوضعه امام خيار “الاتفاق المؤقت” ودفعه للقبول بالعودة الى تنفيذ التزاماته النووية مقابل تعليق بعض العقوبات، وهي صيغة تضرب الاستراتيحية التفاوضية لطهران التي تضغط من اجل الغاء جميع العقوبات التي جاءت في اتفاق 2015 وتلك التي اضافها الرئيسان السابق دونالد ترمب والحالي جو بايدن ما بعد عام 2018.
زيارة رئيسي، والتعامل الروسي الروتيني واعتماد الحد الادنى من البروتوكول في استقباله في الكرملين من قبل نظيره بوتين،، جاء على العكس من كل التوقعات والداعية التي سبقت هذه الزيارة في اوساط قوى النظام والتيار المحافظ الذي حاول وضعها في خانة “النجاح” السياسي والاستراتيجي للحكومة الجديدة وجهودها في مواجهة الضغوط الامريكية السياسية والاقتصادية. وقد ساهم ذلك في اعادة احياء الذاكرة الايرانية السلبية من الدور الروسي التاريخي مع ايران منذ الحكم القيصري مرورا بالنظام السوفياتي وصولا الى محاولات تجريد ايران من انجازاتها النووية من خلال الطرح الذي قدمه الدبلوماسي الروسي ميخائيل اوليانوف بنقل مخزون اليورانيوم واجهزة الطرد المتطورة الى روسيا. واعاد احياء مقولة الشاعر والسياسي الروسي من القرن التاسع عشر فيودور تبوتشيف الذي قال “لا يمكن فهم روسيا بالمنطق والاستدلال، ولا يمكن قياسها بالمعايير العامة، بل يجب الاحساس بها ولمسها”، ما جعل روسيا بالنسبة للاوساط السياسية الايرانية مشابهة للعبة “ماتريوشكا” او “الجدة” التي تصنع من الخشب والتي تبدأ بحجم كبير ثم تخرج منها نسخة اخرى بحجم اصغر ثم اصغر ثم اصغر، فهل ستكون الباطنية الايرانية الممزوجة ببراغماتية عالية قادرة على التعامل مع الاوجه المتداخلة للصديق الروسي؟.
المصدر: المدن