عبد الرحيم خليفة
تعتبر قضية المعتقلين والمختطفين والمغيبين قسراً، في السنوات الماضية من عمر الثورة، من أكثر الملفات حساسية وأهمية، ليس لجهة عذابات هؤلاء ومعاناة ذويهم وارتباط حالاتهم بقضايا قانونية واجتماعية وانسانية، وحسب، بل باعتبارها قضية وطنية بامتياز، عجزت كل الجهات المعنية عن طيها، أو تحقيق تقدم فيها يعطي الأمل بنهاية قريبة تظهر معها وتنجلي حال عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من مايمكن اعتبارهم مجهولي المصير.
استخدم النظام الاعتقال كوسيلة وسلاح لترويع البيئات الحاضنة للثورة، والتنكيل بمعارضيه، بقدر ما استخدمها وسيلة لضرب الثورة وهزيمتها، خصوصًا في بداياتها السلمية، بالنظر الى أن معظم من اعتقلهم يمثلون قادة ميدانيين، أو رموزاً وطنية وسياسية لها القدرة على العمل والتنظيم وتمتلك رؤية، ولو جزئية أو محدودة، للواقع والمستقبل، وهو مانجح فيه الى حد كبير، والأمر نفسه ينسحب على القادة، الشباب والشابات، الذين برزوا في الحراك كقيادات محلية، أو مناطقية، وترافق ذلك مع ماكان يسربه النظام من معلومات عن بطشه ووحشيته تجاه هؤلاء، وتسليم جثث البعض، أو الإعلان، بطريقة ما، عن وفاتهم جراء التعذيب، لخلخة صفوف الثورة وبث الذعر في قلوب الثوار في محاولة لاخمادها ووأدها.
ذلك قبل أن يحول الاعتقال الى سياسة هوجاء كضربات “استباقية” وسياسة ابتزاز، ومحاولة لتفريغ بعض المناطق وتهجير سكانها بالترهيب والترويع .
الفشل، حتى الآن، عن التقدم في هذا الملف رغم ماعرف باسم صور قيصر، وسماع شهادات العشرات وإفاداتهم حتى داخل الأمم المتحدة، ومئات التقارير الحقوقية من منظمات بعضها أممي ورصين ويحظى بالمصداقية الدولية، لا يشكل فقط عجزاً وفشلًا للمعارضة والمنظمات الحقوقية، بقدر ماهو فضيحة قيمية كونية تتعلق بازدواجية المعايير والانتقائية والاستخدام السياسي لقضية يفترض أن تكون من بديهيات هذه المرحلة من تاريخ البشرية، وعمرها، الذي علت فيه قيم الحرية والتعبير عن الرأي، وكفالة واحترام الرأي المغاير والمخالف الى مستويات غير مسبوقة، في ظل تحول العالم الى قرية صغيرة، تشاركية.
اليوم، بعد انقضاء 11 عامًا من عمر الثورة السورية، مع مارافقها من خيبات وإخفاقات، يعتبر تسليط الضوء على هذا الملف، وتنشيطه، أقوى “الأسلحة” التي يملكها السوريون لمواجهة العالم، وحثه على تحمل واجباته القانونية والسياسية والإنسانية، قبل أي حديث آخر عن القرارات الدولية وتفسيراتها، وإيجاد آليات عمل لتطبيقها، وهذا لن يتحقق دون تحرك السوريين بشكل منظم ومضبوط الايقاع، من خلال فعالياتهم ونشاطاتهم التي يمكن أن تتخذ أشكالاً وأساليباُ متعددة، باعتبارها قضية مجردة لا يجوز ربطها بأي ملف آخر، وهذا ممكن ومتاح، بل لعله أقوى الممكن في هذه المرحلة التي لا تخلو من تعقيدات إقليمية ودولية.
في هذا السياق لايمكن التقليل من جهود بعض الأفراد والمؤسسات الوطنية السورية، التي حققت نجاحات بسيطة ومهمة، ولكنها للأسف ظلت قاصرة على أن تأخذ شكلًا منظمًا حقوقيًا وسياسيًا وشعبيًا، في آن معًا، وبقيت أسيرة الفرقة وتبعثر الجهود وتعدد الأفكار والأولويات، بل ربطها بشخوصها وذواتهم، ولعل دعوتنا اليوم، من هذا المنبر الإعلامي والوطني(ملتقى العروبيين) تلقى قبولاً وصدىً واسعًا لتكون عنواناً لنشاطات المرحلة القادمة، والتي استجابت له حتى الآن عدة اطر ومكونات وطنية، ضمن الرؤية التي نراها ممكنة وقابلة للتنفيذ، التي تبدأ من أبسط المطالبات، وهذا أضعف الإيمان، لتصل إلى التشبيك مع المنظمات الحقوقية الدولية، ومجلس حقوق الانسان العالمي، في ظل متغيرات فرضها الوضع الدولي الناشىء والتي يمكن استثمارها لصالح قضيتنا السورية بكل جوانبها.
لعلنا لا نقول جديداً إن قلنا أن قضية المعتقلين هي قضية كل السوريين بمختلف مكوناتهم واتجاهاتهم، توحدهم ولا تفرقهم، تجمعهم ولا تبعثرهم، تحت أي سلطة جائرة يرزحون، من سلطة دمشق الى سلطة الجماعات المغتصبة للثورة وصولًا الى جماعة “قسد”، وهو ما يمكن أن يشكل مدخلًا لقضايا أخرى تتعلق بقضيتنا الوطنية برمتها، أو خطوة يمكن البناء عليها لاصلاح حالنا ومؤسساتنا.
إن احتفالنا بذكرى الثورة لا يجب أن يتحول إلى طقس سنوي نكرر فيه كلماتنا وشعاراتنا بقدر ما يجب أن يتحول إلى مبادرات خلاقة وفاعلة، وهذه المبادرة الخاصة بالمعتقلين واحدة منها، ولعل هذه المبادرات الإيجابية، وهذا مانؤمن به، وحدها التي تحفظ جمر الثورة متقداً وتجعل من الممكن أن يتحول ليكون لهبًا لا ينطفئ.