محمد أمين الشامي
اتِّخاذ القرار هو عمليّة (process) في طبيعته، عمليّة اختيار بين أمرين أو حلَّين أو وضعين قائمين، أو هو مقدرة (ability) في جوهره، مقدرة على انتقاء الأنسب أو الأهون أو الأقل ضررًا. وتقوم عملية اتِّخاذ القرار على أسس لا يمكن تجاوزها للوصول إلى تحديد الأصلح من المتاحات المطروحة أمام صانع القرار، أو المسؤول. ومن هذه الأسس:
- تحديد ماهيّة المشكلة الَّتي تعترضه، أو التَحدي الَّذي يواجهه، أو الفرصة الَّتي يفترض به اقتناصها.
- وضع قائمة بالخيارات المتاحة.
- تقييم سلبيّات وإيجابيّات كل اختيار/قرار لانتقاء الأنسب، أي حساب التَّبعات والتَّكلفة المترتِّبة على كلِّ اختيار على حدة، والعائد المتوقَّع أيضًا.
- حساب حجم المرونة المطلوبة في الصّيغة النِّهائية للقرار لمداورة أي مفاجآت قد تطرأ خارج دائرة التَّوقُّعات.
- وضع تقييم تصوُّري لما سينتج عن القرار بعد نشره على الملأ وتنفيذه، مع رسم خطَّة طوارئ لتلافي القصور النَّاجم عن عوامل تدخل في صناعة القرار مثل العاطفة أو الاستعجال أو التَّقصير في جمع المعلومات والبيانات اللَّازمة لتدعيمه.
بهذا تصبح عمليّة صنع القرار، أو الخطوات التَّفاعليّة الّتي تسبق مرحلة اتِّخاذه، إحدى مدخلات هذا القرار.
وعادة ما يبنى اتِّخاذ القرار على أحد العاملين التّاليين: الحدس أو المنطق. فالحدس، أو الحاسّة السّادسة، أو الفراسة، تأتي من خلال الخبرة الطَّويلة النّاجمة عن سلسلة من التَّجارب والمعتركات الَّتي تبلور شخصيّة المرء وتشكِّل بنيته الفكريّة والإيديولوجيّة وتعزِّز قناعاته ونفسيّته. بينما يقوم المنطق على حساب الحقائق والمعطيات المتوافرة المتَّصلة بالقضيّة الَّتي تستلزم اتِّخاذ القرار بعد رسم ملامحه وتصوُّر تبعاته وانعكاساته، مع تخمين رد الفعل عليه للعمل على قياس هذا الرَّد وتقييمه والالتفات إلى ضبط حركته. وإنَّ تضافر هذين العاملين، الحدس والمنطق، معًا هو الأسلم لاتِّخاذ أيِّ قرار أو تبنّي اختيار ما.
إذن، وبناء على ما تقدَّم، يقوم صنع القرار على الحدس، وهو بالتَّعريف “نوع من المعرفة الّتي لا تستخدم المنطق والاختصاص”، أو هو نوع من الشعور والإحساس؛ والمنطق، الَّذي هو “دراسة مناهج الفكر وطرق الاستدلال السَّليم”، أو هو المعالجة العقلية والتَّركيز على الحقائق المادّيّة، أو هو شكل من أشكال العقلانيّة البحتة في التّعاطي وحسب. ومن خلال تلك المعرفة وهذه الدّراسة يجترح المسؤول ذلك “الانتقال المعرفي” الَّذي هو القرار. وبالتّالي من يتلقّف منعكسات هذا القرار يصنَّف على أنَّه منفعل/متأثِّر نتيجة تلاقي/صدام العاطفة (الحدس) مع العقل (المنطق)، أي لقاء المتنافسين. فكيف السَّبيل، والحال هذه، إلى الوصول إلى القرار السَّليم بعيدًا عن هذه المؤثِّرات؟ هنا يبرز دور الضَّمير ليشكِّل البعد الثّالث، أو العامل الموازن، في عمليّة صنع القرار.
ينبغي أن يكون تأثير الضّمير ملموسًا في كلِّ خطوات العمليّة، بدءًا من الحافز/الهدف وصولًا إلى العزم/التَّنفيذ. لكنَّ تأثيره أكثر ما يتجلّى عند دراسة النَّتائج المتوقَّعة وتحليل التَّبعات المترتِّبة على هذا القرار، وعند مرحلة اتِّخاذه. من نافل القول إنَّ عوامل عدَّة يمكن أن يكون لها تأثيرها الضّاغط في هذه المرحلة تحديدًا مثل العامل الاقتصادي أو الاجتماعي أو السِّياسي. وهنا يلعب التّوازن النفسي وبعد النَّظر عند الصّانع، أو المسؤول، الدَّور الأخطر في توظيف عامل الضَّمير، إلى جانب استيعاب نتائج تحليل المعلومات والبيانات والمعطيات المتاحة، ودراسة البدائل المطروحة، لتنفيذ عمليَّة الاختيار، ومن ثمَّ الوصول إلى مرحلة اتِّخاذ القرار. ولعلَّ أخطر القرارات هي تلك الَّتي تصطبغ بالصِّبغة السِّياسيّة.
إنَّ اتِّخاذ القرار بناء على ضغوطات معيَّنة من جماعات محدَّدة، مثل جماعات المعارضة أو الجماعات المناهضة لسياسات بعينها مثلّا، كتقنين المثلية أو زواج القاصرات أو استقبال اللّاجئين من جهة معيَّنة دون جهة أخرى، كما رأينا أوروبيًّا في الحالة الأوكرانية مقارنة مع الحالات الأفريقية او الشرق أوسطية، يمكن أن يؤدّي إلى نتائج لا تحمد عقباها مثل تدرُّج الطَّرف الآخر في رفع سقف ضغوطه اعتمادًا على سياسة اصطياد الصّانع في شبكة التَّناقض مع قرارات سابقة اتَّخذها لتصبح حجّة عليه بعد أن كانت حجّة له. كما أنَّ الأمر قد يدفع بالحلفاء أو المحسوبين عليه، أو حتّى من كانوا في كنفه وجواره، إلى الانتقال إلى الضِّفّة الأخرى، ضفَّة المناهضين أو المعارضين أو المعادين بالمعنى الحرفي للكلمة، ممّا يجعل الأمر يتحوَّل إلى سلاح في يد منافسيه للبرهنة على سوء تقديره وقراراته وسياساته.
عند هذه النُّقطة تحديدًا، يظهر الضَّمير عاملًا مرجِّحًا في معادلة الحدس/المنطق الَّتي ينطلق منها فعل القرار، صناعةً وتنفيذًا. فلو أنَّ أوروبا اعتمدت الضَّمير الإنساني كما تدَّعي في تعاملها مع اللّاجئين، بغض النَّظر عن بشرتهم أو أصلهم أو دينهم، لما قوبل سلوكها باستهجان من بعض أبنائها المنصفين، ناهيك عن غيرهم. ولو ساق أحدهم حجّة تغليب المصلحة في هذه الحالة لتحوَّل الأمر إلى التماس النَّفعيّة الشَّخصيّة أو الحزبيّة على حساب البلد ككل.
نختتم بالقول إنَّ اعتماد العاطفة/الحدس منفردًا في اتِّخاذ القرار قد يوصل إلى تشوُّش في التَّطبيق، كما أنَّ اعتماد العقل/المنطق البحت في اتِّخاذها قد يرفع عنها سمة الإنسانيّة. وللحيلولة دون الوقوع في هذا التٍّيه يأتي عامل الضَّمير ليجمع الخصمين معًا، كما أسلفنا، وهو ما قد يصل بالقرار إلى ضفّة السَّلامة، ويوصل صانعه إلى سدَّة الطُّمأنينة ويكسبه ثقة أتباعه واحترام خصومه مرغمين.
المصدر: اشراق