بعيداً عن حفلة الشتائم والتخوين التي طالت نشطاء وناشطات مُحددين من “المجتمع المدني السوري”، بخصوص خطاب/بيان وضع مسودته فريق المبعوث الدولي الخاص بسوريا ستيفان ديمستورا، فإن إمكانية النقاش الهادئ حول الموضوع تحتاج وقتاً تهدأ فيه نفوس الغاضبين والغاضبات.
المبعوث الدولي دي ميستورا كان قد ألقى خطاباً، الأربعاء، في مؤتمر بروكسل الثاني، باسم منظمات المجتمع المدني، وقال إنه قد تمت صياغته بموافقة 20 منظمة مدنية سورية، عشرة منها فاعلة في مناطق النظام، والأخرى في مناطق المعارضة السورية.
لكن نظرة سريعة للخطاب، وهو ليس بياناً كما قال من دافع عنه، يجعلنا ندرك الخطأ الذين وقع فيه من صاغوه. فمن غير المعقول أن تُخرجَ 20 منظمة سورية نصفها على الأقل محسوب على المعارضة بياناً تحتكر فيه تمثيل المجتمع المدني السوري كله، وتُصدر خطابها باسم “رسالة المجتمع السوري في بروكسل”. في ذلك، مخالفة لأبسط قواعد المجتمع المدني التي تعمل من أجل حماية الحق وتغليب القانون. فان فعل هذا حماة المجتمع المدني أنفسهم، فحينها لا عتب على الفصائل العسكرية المعارضة ولا حرج.
ويضاف الى ذلك الغموض الحاصل حول قضية الحضور، فحتى تاريخ كتابة هذه السطور ورغم كل اللغط الحاصل، لم يتجرأ حماة المجتمع المدني، على إصدار توضيح أو بيان يشرح وجهة نظرهم في ما حصل ورأيهم في “الخطاب” الذي صاغه فريق ديمستورا. وتُرِكَ الأمر للتخمين والتقصي لمعرفة المنظمات العشرين التي حضرت في “غرفة ديمستورا” للمجتمع المدني.
الصمت المطبق لهؤلاء، خلق احراجاً كبيراً لعشرات المنظمات الأخرى التي دعيت عبر “مكتب العلاقات الخارجية للاتحاد الأوربي” إلى فعاليات متعلقة بالمرأة واللاجئين والتعليم والحماية على هامش المؤتمر. ولم يراعِ حضور “غرفة ديمستورا” حجم الأذى الذي لحق بزملائهم، مفضلين أن يتحمل الجميع المسؤولية والاتهامات، ليضيع دم “الخطاب” بين كل منظمات “المجتمع المدني السوري” التي حضرت إلى بروكسل، وعقدت اجتماعات على مدى أيام ثلاث. تصرفٌ أقل ما يوصف به بأنه لا يليق بالعاملين في حقل المجتمع المدني.
في صلب البيان، يبدو أن النشطاء إستُدرِجوا إلى رغبة ديمستورا، الذي تحدث مطولاً عن “عقدة الانتقال السياسي” وحض المعارضة السورية على تجاوزها، من خلال حديثه عن أعضاء “المجتمع المدني السوري”، ما يعرف “غرفة ديمستورا”. الأمر الذي انعكس على البيان/الخطاب، الذي لم يذكر “الانتقال السياسي” أو “بيان جنيف”، العبارتان اللتان تؤرقان المبعوث الدولي، فلا يطيق سماعهما. الخطاب أدرج عبارة “إلا أننا كمجتمع مدني سوري ما زلنا مؤمنين بالحل السياسي، وفقاً لمسار جنيف والقرار 2254”
وبرر الخطاب جريمة التهجير القسري والتي صنفت جريمة حرب حسب القانون الدولي، واعتبرها “هندسة ديموغرافية”، في عملية تضليل وكذب ممنهجة، تبرر قيام النظام السوري بعشرات جرائم التهجير القسري الجماعي ابتداء من حمص القديمة وصولاً إلى الغوطة الشرقية. الهندسة الديموغرافية مصطلح تنموي، يقوم على سياسات الحكومات في التطوير الاقتصادي والاجتماعي، في بلدان محددة، بهدف تكثيف الاستثمارات الاقتصادية وتشجيع المواطنين للانتقال إلى تلك المناطق. “الهندسة الديموغرافية” لا تنطبق على التهجير القسري عبر حصار الناس وتجويعهم، لسنوات، وقصفهم بالبراميل المتفجرة، واخراجهم بعدها بالباصات الخضراء.
وينسف خطاب المجتمع المدني، عملية الانتقال السياسي ويتجنبها، مع تأكيده على أن “عملية السلام المستدامة تمر عبر مساري الحوار الوطني السوري السوري، والعدالة الانتقالية الوطنية غير الانتقامية وغير المسيسة”. وهي العبارة التي كررها مندوب النظام السوري في الأمم المتحدة ورئيس وفده التفاوضي في جنيف بشار الجعفري، مئات المرات: “حوار سوري-سوري، لا حل ولا انتقال.”
وكذلك، حوّل خطاب أعضاء غرفة ديمستورا، عشرات آلاف المعتقلين والمغيبين قسرياً لدى أجهزة النظام إلى مجرد مختفين “قسرياً عند كافة الأطراف.”
وأشار أعضاء “غرفة ديمستورا” الى “معاناة الشعب السوري من الأثر السلبي للعقوبات المفروضة على الاقتصاد الوطني”، وطالبوا بإعادة النظر في “العقوبات التي تؤثر سلباً على التعليم والصحة وسبل العيش”. وهي العبارة المخففة والوسطية لطلب أعضاء الغرفة القادمين من دمشق، “عدم ربط الدول المانحة لملف اعادة الاعمار بقضية الانتقال السياسي”. وفد المجتمع المدني القادم من دمشق طالب بـ”رفع كامل العقوبات عن سوريا بما فيها العقوبات التي طالت القطاعين النفطي والعسكري.”
حجم مصائب الخطاب، تُشير الى ضعف مناعة، وهشاشة “المجتمع المدني السوري”، الذي حضر في غرفة ديمستورا المظلمة. تحسن مناعة هؤلاء النشطاء لن يستقيم إلا بالخروج من تلك الغرفة المظلمة العفنة.
ومن المثير للاهتمام أن النظام السوري أصبح راعي المجتمع المدني السوري، وفكرته، إذ فرّخت في مناطق سيطرة النظام عشرات المنظمات المرتبطة بفروع المخابرات والمليشيات المسلحة الرديفة له. وذلك بعدما كانت كلمة “ناشط في المجتمع المدني” تهمة وشبهة، لطالما زج بعشرات النشطاء والأصدقاء بسجون بشار الأسد، بذريعتها، منذ انطلاق ربيع دمشق وحتى بداية الثورة السورية.
ومن الصواب أيضاً، الاعتراف بأن انهيار المعارضة السياسية منذ تشكيل “هيئة الرياض-2″، ودخول “منصة موسكو” الى عضويتها، وما سبقه من هزائم عسكرية مستمرة مع بدء التدخل الروسي نهاية 2015 وتوقيع اتفاقات استانة، حتى آخر الهزائم في الغوطة والقلمون، ساهم في حالة الانحدار العام والشعور بالخيبة لدى “المجتمع المدني السوري”. لكن الهزيمة السياسية لا تبرر في حال من الأحوال الهزيمة الأخلاقية التي كُتب “بدموعها” ذلك الخطاب.
المصدر: المدن