عبد الباسط سيدا
كنا في بدايات عام 2020 في إجازة خاصة إلى الهند، بقصد الإطلاع على واقع المجتمع الهندي الكبير، المتنوع بأقوامه ودياناته ومذاهبه وثقافاته وأقاليمه المناخية. هذا المجتمع الذي يسحر المرء رغم مشكلاته الكثيرة المعقدة. كان علينا، في جميع الأحوال، أن نحدّد خيارتنا؛ فرحلة مدتها اسبوعان لا تكفي للاطلاع على واقع بلدٍ هو أشبه بقارّة من حيث المساحة والسكان والتركيبة المجتمعية. وقد استفدنا في هذا المجال من قراءاتنا الخاصة، ومن تجارب (ومعلومات) الأصدقاء السويديين ممن كانوا قد سافروا مراراً إلى الهند، أو عاشوا فيها فترات لا بأس بها. كما استفدنا من المعلومات التي زوّدنا بها أصدقاء هنود.
استقرّ برنامج زيارتنا على نيودلهي العاصمة، وحيدر آباد، ومدينة فاراناسي المقدسة، ومدينة أغرا حيث تاج محل، وجيبور عاصمة ولاية راجستان، ومن ثم العودة إلى استوكهولم عن طريق نيودلهي. حرصنا في جميع هذه المدن والمناطق على زيارة أهم المعالم السياحية والجامعات، مع تركيز خاص على الأماكن المقدّسة ودور العبادة الخاصة بجميع الأديان، فالجانب الروحي في الحضارة الهندية كانت له باستمرار مكانة خاصة بين المهتمين بالهند، كما يتميّز هذا الجانب بدور فاعل في الحياة اليومية لمعظم الهنود على اختلاف أديانهم ومذاهبهم.
ما لاحظناه على أرض الواقع تغلغل الدين في كل مناحي حياة المجتمع الهندي، خصوصا عند الهندوس، فالمعابد والمقامات المقدسة منتشرة في جميع الأماكن، حيث تقام الطقوس بمختلف الأشكال. ومع ذلك كله، أو لعله من أجل ذلك، أدرك آباء الاستقلال الهندي أن مبدأ العلمانية أو حيادية الدولة هو الذي في مقدوره حماية المجتمع الهندي من الخلافات والصراعات، وهو الأمر الذي كان لصالح الجميع. وقد جاء ذلك بالتوازي مع احترام الدولة العلاقة الوطيدة بين المجتمع والأديان بجميع أسمائها وآلهتها وتطلعاتها .
ما سمعناه من مسلمين عديدين في أثناء زيارتنا شكواهم المستمرّة من تصرّفات الحكومة الحالية وسياساتها، حكومة حزب بهاراتيا جاناتا بقيادة ناريندرا مودي، فهذه الحكومة تميل، وفق ما سمعناه، إلى التشدّد الهندوسي، وتتخذ منه أداة للتجييش والتعبئة بغية الحصول على نسبة كافية من الأصوات، تمكّنها من الاستمرار في الحكم. ومن دون أن تأخذ في حسابها أن هذا التشدّد سيكون على حساب وحدة المجتمع الهندي واستقراره، وهو الذي يضم طيفاً واسعاً من الأديان والمذاهب. وقد تنبّه آباء الاستقلال الهندي لهذا الخطر، واعتمدوا مبدأ علمانية الدولة.
ومشكلة توظيف الدين وسيلة تعبوية لا تخصّ الهند وحدها، بل باتت مشكلة عامة في أماكن عديدة راهناً، ففي منطقتنا، نعيش، منذ عقود، أجواء مناكفات مذهبية تزعزع استقرار المجتمعات، وتكرس الأحقاد. وقد بدأت هذه الأجواء مع الإعلان عن قيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979، وكان ذلك في ظل هزيمة المشروع القومي العربي الذي التحفت به على مدى عقود الأنظمة الجمهورية العسكرية، التي رفعت راية علمانية زائفة في وجه معارضاتها من الإسلاميين، لا سيما جماعات الإخوان المسلمين، فالتجارب والوثائق أثبتت تباعاً أن التوجّه القومي العلماني لتلك الأنظمة لم يكن سوى شعار للتغطية على نزعات التحكّم والسيطرة، وصفقات الفساد والإفساد التي باتت من معالم الأنظمة المعنية، وسمة عضوية رئيسة من سماتها.
وما نشهده في سورية راهناً يقدّم نموذجاً مجسّماً فاقعاً رباعي الأبعاد في هذا المجال؛ فالنظام البعثي “العلماني” تحوّل بقدرة قادر إلى حليف استراتيجي لنظام ولي الفقيه، الذي اعتمد أتباعه في العراق سياسة اجتثاث “البعث”، وشكلوا الفصائل المسلحة مذهبية التوجه قبل ظهور “داعش” وبعده، وهي الفصائل التي قاتلت إلى جانب السلطة في سورية تحت شعارات مذهبية، استُخدمت لتكون أيديدولوجية تعبوية تمهّد الطرق أمام التوسّع الإيراني في دول المنطقة ومجتمعاتها.
كما أن علاقة الحكم البعثي “العلماني” في سورية مع حزب الله هي الأخرى تؤكد أن “علمانية” الحكم الأسدي هي، في واقع الأمر، مجرّد غطاء للتستر على طبيعته وتوجهاته، فهو يحاول الاستمرار في السلطة بأي شكل، حتى ولو أدّى ذلك إلى تدمير البلد، وتهجير أكثر من نصف سكانه، وقتل نحو مليون إنسان، وتغييب مئات الآلاف كما هو حاصل في يومنا هذا. وما حصل في سورية ليس استثناء بالنسبة إلى منطقتنا؛ فما جرى، ويجري، في كل من لبنان والعراق واليمن، وفي ليبيا والسودان وتونس، وإن بصيغ ومستويات متباينة، يؤكّد أن العلة تكمن في إخفاق المشاريع القومية التي طرحتها الأنظمة العسكرية التي وصلت إلى الحكم من خلال الانقلابات العسكرية في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وذلك في سعيٍ منها إلى إضفاء قسط من المشروعية على سلطاتها، فقد كانت الماكينة الإعلامية لتلك الأنظمة تركّز على مواجهة مفتوحة مع الاستعمار والصهيونية والرجعية، وتدعو إلى تحقيق الوحدة القومية والحرية والاشتراكية.
ولكن مع تراجع المشروع القومي، سواء الناصري في مصر بعد هزيمة 1967، أم البعثي في كل من سورية والعراق نتيجة الخلافات والصراعات والمؤامرات الكبرى بين مجموعتي الحكم في البلدين، والصراعات المدمّرة بين أجنحة الحكم في اليمن؛ ومع إعلان الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979 كما أسلفنا، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وتراجع الأيديولوجيتين القومية والاشتراكية – الشيوعية، انتقلنا إلى مرحلة جديدة من مراحل المشاريع العابرة للحدود، وباتت الأجواء مهيأة من جديد لفكرة الدولة الإسلامية الواسعة، أو حتى الخلافة الإسلامية.
وهكذا أصبحت منطقتنا في مواجهة مشروعين إقليميين، يتخذان من الإسلام أيديولوجية تعبوية تجييشية. تمثل الأول في المشروع الإيراني، وتمثل الثاني في الأحزاب الإسلامية المعارضة في دول المنطقة، والحركات الجهادية المتشدّدة التي طرحت نفسها بوصفها الحلّ في العالم السني، وغالبا ما كانت هذه الأحزاب تستلهم فكرة الخلافة الإسلامية في مراحلها الأولى، وحتى في مرحلها اللاحقة ومنها العثمانية. وقد خاضت أحزاب إسلامية تجربة الحكم في عدد من دول المنطقة، خصوصا في تركيا وتونس ومصر. وحدها التجربة التركية كانت ناضجة مستقرّة تلفت الأنظار، أما في مصر وتونس فقد كان الصراع القديم الجديد بين العسكر والإسلاميين. ففي تركيا تمكّن حزب العدالة والتنمية من تجاوز الحواجز الصعبة الخاصة بالنظام العلماني الذي وضع أسسه مصطفى كمال، وتمكّن بفضل ذلك من عقد التفاهمات مع الجيش. بينما أخفق الإخوان في مصر في الوصول إلى هذا التوافق مع الجيش المصري، وعجزوا عن بناء التحالفات السياسية مع القوى المخالفة لهم في التوجّه. أما حزب النهضة في تونس، فقد تمكّن إلى حدٍّ من امتصاص الصدمات؛ ولكن يبدو أن الجيش التونسي لن يسمح هو الآخر، كما فعل الجيش المصري، بخروج زمام الأمور من يديه، ليبقى هو المتحكّم خلف صورة الرئيس.
وفي ظل غياب المشاريع الوطنية التي تأخذ خصوصية كل بلد وإمكاناته وحاجاته بعين الاعتبار، وتستطيع استيعاب مختلف التيارات والاتجاهات السياسية، عبر التأكيد على القواسم المشتركة التي تجمع بين الناس، على اختلاف انتماءاتهم المجتمعية وتطلعاتهم الجهوية ضمن نطاق كل بلد؛ ستبقى مجتمعات منطقتنا معرّضة لتصادم الأيديولوجيات التي عجزت عن معالجة مشكلاتها، بل أسهمت في توليد المشكلات وتفجير الأوضاع. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى التهم التي كانت توجّه، سواء من أصحاب الأيديولوجية القومية أم الإسلامية، إلى كل من كان يفكّر في السير ضمن نطاق المنحى الوطني، وهي التهم التي كانت تتراوح بين التشكيك والتخوين، وحتى التكفير في بعض الأحيان.
لقد أكّدت تجارب نحو قرن أن القوى السياسية الرئيسة في دول المنطقة، لا سيما المحدثة منها، لم تعترف بعد بطبيعة واقعها، وحجم إمكاناتها، وماهية المعادلات الإقليمية والدولية التي جرى رسم الخرائط بموجبها، ولعل هذا ما يفسّر، إلى حد ما، أسباب التراجعات والانهيارات في الدول المعنية… منطقتنا بحاجةٍ إلى مشاريع وطنية تجمع بين مواطني كل دولة من دولها، وتفتح الطريق أمام تفاهمات إقليمية أساسها المصالح المشتركة واحترام قواعد تحسين العيش المشترك بين الأفراد والجماعات في كل دولة، وبين الدول نفسها، وهذا لن يكون من دون الدولة العادلة التي تكون على مسافة واحدة من سائر مواطنيها، دولة تعمل على تأمين احتياجات مواطنيها، وإدارة أمورهم، وتقديم الخدمات لهم، وتحافظ إلى جانب كل ما تقدّم على السلم الأهلي، وتكافح الفساد بكل أشكاله. دولة تفتح الآفاق أمام الطاقات والمبادرات التي تساهم في إصلاح التعليم، وتحقيق التنمية الفعلية، وهما الشرطان الضروريان للنهوض المطلوب.
المصدر: العربي الجديد