محمد الجمل
تستهدف مؤسسات دولة الاحتلال منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والناشطين العاملين على فضح انتهاكاته، إذ تحرمهم من التنقل وتعتقلهم وتغلق مؤسساتهم وتشهر بهم على وسائل التواصل، كما تجفف مصادر تمويلهم وتخترق هواتفهم.
– عجز الناشط الفلسطيني يحيى محارب المستشار القانوني لمركز الميزان لحقوق الإنسان، عن مغادرة قطاع غزة عبر حاجز بيت حانون “إيريز”، خلال العامين الماضيين، بعدما رفض الاحتلال ثلاثة طلبات بالسفر من أجل عمله، وهو ما تكرر مع أربعة من زملائه في ذات المركز، بالإضافة إلى 30 حقوقياً ينشطون في القطاع المحاصر، كما يرصد محارب.
وبلغ إجمالي حالات منع الناشطين الحقوقيين والعاملين في مؤسسات المجتمع المدني من السفر، 8000 في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 2014 (يتم منع ذات الشخص أكثر من مرة)، وفق توثيق مركز الدفاع عن الحريات والحقوق المدنية “حريات – مؤسسة حقوقية أهلية”.
مستويات الاستهداف
لم يتلق محارب وثلاثة من زملائه، أي سبب لمنعهم من حقهم في التنقل لكنهم يعيدون الأمر إلى عملهم في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن الشعب الفلسطيني.
ويصنف الباحث الحقوقي بالمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان محمد أبو هاشم، ورئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني “حشد” صلاح عبد العاطي، وأشرف أبو حية المستشار القانوني بمؤسسة “الحق”، مستويات استهداف الاحتلال لمؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية إلى عدة درجات منها المنع من السفر وتقييد الحركة، أو الاعتقال كما حدث مع مدير مكتب منظمة “الرؤية العالمية” (مؤسسة إنجيلية دولية تعمل في مجال المساعدات الإنسانية) في غزة محمد الحلبي، والمعتقل منذ خمس سنوات، بتهم تتعلق بتمويل أشخاص يتبعون “جهات إرهابية”، وعُقدت له 170 جلسة محاكمة، وهو ما ترفضه مؤسسته التي تؤكد براءته.
ومن بين آليات استهداف العمل الحقوقي الفلسطيني تجفيف التمويل، عبر الضغط على مؤسسات دولية لوقف منحها المقدمة إلى منظمات فلسطينية، وهو ما جرى لمؤسسة اتحاد لجان العمل الزراعي “تعنى بحقوق المزارعين”، والتي كانت تُموّل من الحكومة الهولندية منذ عام 2010، بمبلغ يصل إلى 10 ملايين دولار سنويا، ما يوازي نصف ميزانيتها، لكن بسبب ضغوط الاحتلال الذي وصم المؤسسة بـ”الإرهابية”، لدورها في دعم مزارعين في مناطق التماس (قريبة من المستوطنات والجدار) بالضفة، بحسب إفادة أمجد الشوا، رئيس شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، والذي يقول: “تمويل ودعم مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية بشكل عام ومؤسسات حقوق الإنسان على وجه الخصوص تراجع بنسبة تزيد على 45% منذ عام 2018، وثلث برامج المؤسسات الحقوقية تعطلت، لكن هناك إجماع وإصرار على بقاء برامج رصد الانتهاكات وتوثيقها، ومحاولة التقدم لمحكمة الجنايات الدولية ببلاغات فاعلة دون توقف”.
45% نسبة تراجع تمويل مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية منذ عام 2018
ومن بين طرق الاستهداف توقيف النشطاء والصحافيين إذ يوجد في سجون الاحتلال 32 معتقلا من بينهم 15 من المدافعين عن حقوق الإنسان، بينما زاد عدد حالات اعتقال الحقوقيين على 110 حالات منذ عام 2014 حتى نهاية العام 2021، بحسب ما رصده مركز “حريات”، فيما وثق التقرير السنوي للمرصد الفلسطيني لانتهاك الحقوق الرقمية “حر” الصادر في فبراير/شباط الماضي، إغلاق 141 صفحة لمدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء ومؤثرين معنيين برصد وتوثيق انتهاكات الاحتلال خلال عام 2021.
التشهير بالحقوقيين
وثق معد التحقيق 15 حالة تشهير بحقوقيين، من بينهم المدافعة عن حقوق النساء سميرة عبد العليم، رئيس اتحاد لجان المرأة في مدينة رفح، والتي تعرضت لحملة تشويه، بعد نشر مؤسسة “إسرائيلية” تسمى NGO monitor صورتها على صفحات “فيسبوك”، وأرفقتها بتعليق يتهمها بالإرهاب، وتدعو الاتحاد الأوروبي لوقف تمويل مؤسستها.
وتؤكد عبد العليم لـ”العربي الجديد”، أنها ومنذ عام 2015، تعرضت للتشهير والتشويه أربع مرات، عبر صحف ومطبوعات في إسرائيل وبريطانيا، ومُنعت من السفر منذ عام 2014 عبر حاجز بيت حانون بسبب حملة التشويه التي أدت إلى أن دولاً مثل بريطانيا رفضت منحها تأشيرة.
15 حالة تشهير بحقوقيين فلسطينيين تمت عبر مؤسسات دولة الاحتلال
وبدأت الحملة ضد عبد العليم عقب حراك قادته مؤسستها بالتعاون مع مدافعين عن حقوق الإنسان في بريطانيا، لتنظيم تظاهرة سنوية ضد مصنع الأسلحة “إلبيت سيستيمز” الإسرائيليّ في بريطانيا، والذي يزود دولة الاحتلال بأسلحة وقطع غيار طائرات، تُستخدم في قتل المدنيين، قائلة: “يتم حصار المصنع وطلاء جدرانه باللون الأحمر، في إشارة للدماء التي تراق بسبب إنتاجه”، وأكدت عبد العليم أن مؤسستها تعاني شح تمويل وصل إلى 70% بعدما صنفتها إسرائيل بـ”الإرهابية مع خمس منظمات فلسطينية أخرى”.
إغلاق المؤسسات
بلغ عدد المؤسسات الحقوقية التي تعرضت للإغلاق في الضفة الغربية والقدس 105 مؤسسات، منذ عام 2015 حتى نهاية العام الماضي، 90% منها في القدس، و10% في الضفة، وفق إفادة مدير مركز “حريات” حلمي الأعرج، والذي يوضح أنه جرى التركيز على المؤسسات التي تعنى بحقوق الإنسان وخاصة مجال توثيق الانتهاكات، ومنها مؤسسة “الحركة الدولية للدفاع عن الطفل الفلسطيني” بالضفة الغربية، التي دهمها جنود الاحتلال وصادروا أجهزة كمبيوتر وملفات موكلين تتعلق بالأطفال المعتقلين الذين يمثلونهم في المحاكم العسكرية الإسرائيلية.
ووثقت مؤسسة فرونت لاين ديفندرز (دولية تعمل في مجال حماية المدافعين عن حقوق الإنسان) 16 انتهاكاً جسيماً تعرض لها مدافعون عن حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية عام 2021، منها ستة انتهاكات اعتقال كما حدث مع المدافع عن حقوق الإنسان محمود نواجعة، الذي اعتقله الاحتلال من منزله في رام الله بتاريخ 30 يوليو/تموز 2021، إضافة لأربعة انتهاكات تتعلق بالتهديد، وخمسة أخرى لمنع نشطاء من تلقي الحق في العلاج، منهم الحقوقية الستينية شذى عودة، مديرة اتحاد لجان العمل الصحي، التي حرمت من الحصول على العلاج لدى اعتقالها العام الماضي.
كيف يواجه الاحتلال المؤسسات الفلسطينية؟
في عام 2006، بدأ عمل وزارة الشؤون الإستراتيجية برئاسة السياسي اليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان أول وزير لها، وكُلفت الوزارة بالعمل على وقف ملاحقة قادة الاحتلال وتشويه صورتهم في العالم، ومحاربة محاولات “سلب الشرعية من إسرائيل”، وفق دراسة أعدها “مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير (مستقل مقره بيروت) وصدرت في 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ويؤكد الحقوقيان أبو هاشم، وأبو حية أن الوزارة اعتمدت في أعمالها على منظمة يمينية متطرفة تسمى “NGO Monitor” ومقرها في القدس، ويرأسها المتطرف جيرالد إم شتاينبرغ أستاذ العلوم السياسية بجامعة بار إيلان، بينما يوثق تقرير صادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار”، (مختص بالشأن الإسرائيلي)، أن المؤسسة تأسست عام 2001، برعاية مركز القدس للشؤون العامة (JCPA)، “بحثي صهيوني مقره القدس”، والمختص بالدبلوماسية والشؤون الخارجية، وفي عام 2007، انفصلت NGO monitor وتحولت إلى منظمة مستقلة ماليا وإداريا، لتعمل على استهداف ومراقبة عمل المنظمات غير الحكومية التي لا تتوافق مع رؤية اليمين الصهيوني المتطرف، ضمن منظومة تجفيف الموارد ومصادر التمويل.
الوصم بالإرهاب
يؤكد الحقوقي الفلسطيني رامي عبدو، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (مقره جنيف وله مكاتب في عدة دول منها فلسطين)، أن وزارة الشؤون الاستراتيجية ومؤسسة NGO monitor أدرجتا على قوائمهما ألف مؤسسة فلسطينية وعربية تعمل في مجالات الدفاع عن حقوق الأطفال، والمزارعين، وعوائل شهداء وأسرى، إضافة إلى منظمات تعنى برصد وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، اتهمتها بتنفيذ ودعم أنشطة وبرامج “معادية للسامية”، وعممت على دول أوروبا أسماء 28 مؤسسة أهلية فلسطينية، أبرزها المؤسسات الستّ التي جرى لاحقاً وصمها “بالإرهابية وطالبت الأوروبيين بوقف دعمها، ومنها مؤسسة الحق، والمركزين الفلسطيني لحقوق الإنسان والميزان، واتحاد لجان المرأة.
وتعرض المرصد الأورومتوسطي لمضايقات بعد تقرير أثبت استخدام “إسرائيل” للمدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية في عدوان 2014، ورافق ذلك ملاحقة وتضييق ضد موظفي ونشطاء المركز في فلسطين من قبل الاحتلال، وتعرض ستة منهم للمنع من السفر، وأُغلقت حساباتهم البنكية، وفق عبدو.
منشورات تصدرها مؤسسات الاحتلال وتستهدف المدافعين عن حقوق الإنسان (فيسبوك)
في حين قال مصدر حقوقي مطّلع، رفض الإفصاح لحساسية الموضوع، إن مؤسسة NGO Monitor، تتابع حسابات المدافعين عن حقوق الإنسان وأصدقائهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وتأخذ صوراً لحقوقيين حضروا جلسات أو شاركوا في مناسبات اجتماعية، يظهر فيها نشطاء للمقاومة، أو قادة فصائل، وترسل الصور للدول الداعمة للمراكز “وتقول انظروا لمن تموّلونهم، إنهم أصدقاء للإرهابيين”، إضافة لشكاوى مستمرة تقدمها المنظمة اليمينية للدول الأوروبية التي تدعم المؤسسات الفلسطينية، ضد دفاعها القانوني عن معتقلين فلسطينيين تصفهم “إسرائيل” بـ”الإرهابيين”، ومنهم الأسير الفلسطيني عبد الله الدغمة، والذي رافق شقيقه المريض بالسرطان ليتبرع له بنخاع، وجرى اعتقاله على معبر بيت حانون عام 2020، ما تسبب بوفاة شقيقه، وهو ما يؤكده مركز الميزان لحقوق الإنسان، الذي رفض الانتقادات والاتهامات وواصل الدفاع عنه.
NGO monitor تشنَ حملة تشويه على سميرة عبد العليم رئيس اتحاد لجان المرأة الفلسطينية بمدينة رفح (فيسبوك)
ووفق أبو هاشم وأبي العابودي مدير مركز بيسان للبحوث والإنماء (مؤسسة أهلية تعنى بشؤون الديمقراطية) فإن NGO Monitor أصدرت تقارير أبرزها “إرهابيون ببدلات” في فبراير 2019، وقبلها بشهر أصدرت تقريرا بعنوان “ممر الأموال”، وقدما للاتحاد الأوروبي لوقف تمويل المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، كما جرى إرسالهما إلى العديد من المؤسسات في أوروبا، ونُشرت على موقع المنظمة المتطرفة صورٌ لحقوقيين، منهم رئيس المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان راجي الصوراني، واتهمتهم بالإرهابيين، وأنهم يقودون نشاطاً معادياً ضد “إسرائيل”، في إشارة للقضايا التي تواصل المؤسسات التقدم بها لمحكمة الجنايات الدولية، ويعتبر الصوراني أن مثل هذه الخطوات محاولة لاجتثاث هذه المؤسسات بشكل كامل من خلال تجفيف مصادر دعمها بعلاقتها بالإرهاب، ولكنهم يعملون من دون توقف، رغم تراجع التمويل بنحو 30%.
الهروب من التحقيقات
رفضت إسرائيل التعامل مع كل لجان التحقيق الأممية، ومنعتها من دخول فلسطين، آخرها لجنة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة التي منعت من دخول الأراضي الفلسطينية في 18 فبراير/شباط الماضي، للتحقيق في الجرائم المرتكبة خلال العدوان على قطاع غزة في مايو/أيار 2021، وفق الحقوقي أبو هاشم.
كما واجهت مؤسسة “هيومن رايتس ووتش” مضايقات من قبل الحكومة الإسرائيلية، خلال عملها في فلسطين منذ عام 2008، ومن ذلك منع مديرها من زيارة غزة، ورفض جلب خبراء أسلحة للتحقيق في تجاوزات مفترضة، وعدم تعاون “حكومة إسرائيل” مع موظفيها، بحسب إفادة مدير مكتب المنظمة السابق في فلسطين عمر شاكر، والذي أضاف أنه جرى طرده من فلسطين عام 2019 بقرار من محكمة إسرائيلية، وهو أسلوب معتمد في الدول التي تضطهد المدافعين عن حقوق الإنسان.
حملة تضامن مع الأسير محمد الحلبي مدير مؤسسة “الرؤيا العالمية” (العربي الجديد)
وانتقل شاكر إلى العمل في مكتب المنظمة بالأردن، لكنه يشعر بالقلق على المدافعين عن حقوق الإنسان الذين يواجهون تهديداً وجوديا بسبب الهجمات الإسرائيلية ضدهم، معتقدا أن التجسس على هواتفهم أمر مطبق منذ مدة طويلة، قائلا: “ليس لدى معلومات إذا كان هاتفي قد تعرض للاختراق والتجسس”.
ويشعر تسعة حقوقيين حصل معد التحقيق على إفاداتهم بالقلق خشية تعرض هواتفهم للتجسس عبر تطبيق “بيغاسوس” ومنهم عبد العاطي وأبو هاشم، ولا يمانعون فحصها من قبل المتخصصين، كما حدث مع 75 هاتفاً وحاسوباً تعرضت للفحص عبر منظمة “فرونت لاين ديفندرز”، والتي كشفت تعرض ستة منها للاختراق بواسطة التطبيق، في حين تأكد الحقوقي صلاح الحموري أن هاتفه من بين الهواتف الستة المراقبة، ولا يعلم منذ متى ذلك، ولم يكتف الاحتلال بالتجسس عليه إذ جرى اعتقاله في السابع من شهر مارس/آذار الماضي، بعد اكتشاف اختراق هاتفه بأربعة أشهر.
ويؤكد أبي العابودي، أنه فوجئ بعدما علم أن هاتفه كان مراقباً، وحين سلمه من أجل الفحص اعتقد أن الأمر روتيني، ولم يشعر مطلقا بأنه كان مخترقاً، وهو ما أكده المتخصص في أمن المعلومات وتكنولوجيا الشبكات عبد الفتاح الفرا، المحاضر بكلية العلوم والتكنولوجيا بغزة، قائلا: “التطبيق يعمل دون واجهة، ولا يحتاج إذنا من النظام، ولا يترك أثرا يثير شك المستخدم، ويتحكم المخترق في الهاتف بالكامل، بما في ذلك إجراء مكالمات، وإرسال رسائل، وتشغيل تطبيقات، وحتى فتح الكاميرا وتسجيل الأصوات”.
المصدر: العربي الجديد