عبد الباسط حمودة
كانت الجغرافية السياسية لمنطقتنا العربية تاريخياً هي ساحةُ صراعٍ ونزاعٍ وتفاعل بالإقليم ككل، أقله في آخر 500 سنة، مع ولادة الصفوية في بلاد فارس وتحولها للمذهب الشيعي على يد إسماعيل الأول وبتحريض مباشر من بريطانيا فضلاً عن البرتغال وإسبانيا، وذلك لإذكاء الصراع الفارسي- العثماني، سعياً لاجتذاب المنطقة والسيطرة على مقدراتها، حتى استتب الأمر للعثمانيين ببسط السيطرة على مجمل المنطقة، واستمرت الأمور على هذه الحال حتى سيطرة الاستعمار البريطاني- الفرنسي على بلاد الرافدين وبلاد الشام تنفيذاً لمؤامرة {سايكس- بيكو- (سازونوف)}، ذلك في اللحظة نفسها التي جسّدت نجاح خطط الغرب الإمبريالي إنهيار السلطنة العثمانية وبتواطؤ كامل من البهلوية الفارسية في إيران.
إنه الجيوبوليتيك، لعنة ونعمة؛ وما زاد الطين بلة إدارة الظهر للدولة كمفهوم وإنجاز من قبل حكام المنطقة العربية، لأسباب اختلط فيها الديني بالسياسي، مما جعلها على مدى عقود من الزمن أسيرة لمنْهبة لا مثيل لها في التاريخ الحديث، حجم السرقات والاختلاسات ووظائف وهمية، وحجم تردي الخدمات بشكل هائل، كلها شاهد على حجم الكارثة التي سبّبها هؤلاء الحكام العربجيّة بحكم ارتباطاتهم وولاءاتهم ومرجعيّاتهم، كما أن الشعوب أدارت الظهر لهذا الشكل من الدول الذي زاد انكشافاً، أمناً وسياسةً واقتصاداً واجتماعاً.
وتكفي نظرة لدول المشرق العربي لنشاهد مفاعيل الاستبداد والنهب المنظم والتجزئة وإدارة الظهر لحقوق ورغبات الشعوب في سورية والعراق ولبنان على وجه الخصوص والدور المميت الذي قام ويقوم به أدعياء الممانعة والمقاومة المرتبطين بالمحور الإيراني واحتلالاته، وليتحول كلٌ منها إلى مصنع للتفاهة والرذيلة، الأمر الذي أدى بمجتمعاتنا لمرحلة خلاعة اجتماعية وثقافية لا سابق لها، إنها مرحلة ليست مقترنة بنهوض سياسي، ولا حتى أخلاقي، ولا اجتماعي ولا قضائي؛ هي انحلالٌ للمجتمع والذي يتجلى في انحلال قيمه لا بمعنى زوال المعايير بل تضاربها، وتناقضها، وتشوّش الرؤية فيها، وانعدام البصيرة، واختفاء الدافع الذاتي، أو ما يسمى الضمير، واعتماد نظريات في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والدين تتناقض داخل كل منها، لا تناقض الحيوية الديالكتيكية بل الاختلاف مع التجاور لأشلاء من كل نظرية في أي مجال مما ذُكر آنفاً.
إنها ليست حيوية التعددية الإفرادية في كل منّا، وفي كل جماعة ومجتمع، بل ما يشبه موات الأعضاء في الجسم دون وظيفة لكل منها، فكأن الأعضاء متجاورة في قبر، فتبقى في النفس ترسبات دينية وثورية وأخلاقية، ورغبات مكبوتة، وتوقعات فاشلة، وانتصارات وهمية، وهزائم غير مرئية، ووقائع غير معترف بها، وكلها تخضع لتلاعب تكنولوجي وديني، بحيث غابت الأيديولوجيا، ولم يعد لليوتوبيـا مكان؛ عقلٌ مستريح وأفلام أميركية، صارت الامبريالية لدى أصحاب الخلاعة الفكرية دون رأسمالية، لا يستند تحليل النظام العالمي لديهم إلى ما نسميه التشكيلة الاجتماعية السياسية التي تحكم المركز وتتحكّم بالأطراف، إنهم لا يعون الفرق بين المركز والأطراف، ولا يميّزون في الحديث عن التبعية بين التابع والمتبوع.
التابع يعاني من مرض الجهل وفجاجة العداء للفكر والعقل، والمتبوع تنين الرأسمالية والدين، أخطبوط مركز الرأسمال المالي وأذرعه، وحركات، بالأحرى جماعات دينية وأصولية، في الأطراف، وثروات هائلة غير مسبوقة عند الأخطبوط، وأيدي عاملة مؤمنة تسلم روحها مع نتاج عملها، ليس فقط فائض العمل، إذ لم يبقَ لدى معظمها عمل يضمن نتاجه لها البقاء، ومن يعمل لا تبقي له الرأسمالية من نتاج عمله سوى أقل مما يحتاجه للبقاء؛ وهي تسلّم روحها لأرباب الدين ذوي الابتسامة الساخرة، وتسلم نتاج عملها بل حياتها وإمكانية بقائها لأرباب الرأسمال المالي ذوي الأنياب الحادة المكشّرة.
عند الطرفين كوميديا سوداء، بجمهور إنساني فاقد حس الفكاهة، فالضحك لم يعد تعبيراً عن بهجة أو سرور، بل رغبة بلهاء لتمدد أو تمديد عضلات الوجه دون أن تتجاوب معها بقية أعضاء الجسد، خلاعة ثقافية وتخلّع جسدي وانخلاع ذهني غاب منه التسامح؛ النفس المخلعة لا تسمح بالتعدد، لديها سبب واحد لكل ما يجري على صعيد السياسة والمجتمع محلياً وعالمياً، لم يعد العقل المستريح وحده آفة الآفات، لقد هان أمر العقل المستريح أمام العقل المتخلّع، شيمة النيوليبرالية تخلّع العقل وتفكك الوعي وتذرر الذهن وتفتت الروح، خلف كل ادعاء لإنجاز، أو انتصار، أو تقدم، شعور عميق بالفشل والهزيمة والنكبة.
إنه زمن الحقيقة الافتراضية؛ وهي ليست علاقة بين الرائي والمرئي بل هي فيض من الرائي على المرئي، ليست الحقائق الجزئية جزءً من بناء كلي يسمى الحقيقة، هي معلومات مبعثرة لا تجتمع في شيء إلا في إطار نظري للمعلومات، ولا سياق لها، النظرية مفقودة وهي محتقرة، العلم الحديث يصعب بل يستحيل الوصول إليه ناهيك بفهمه، الحقيقة الوحيدة لدى الرائي والرائين جميعاً، هي مجاميع مفككة لحقائق جزئية، بالأحرى معلومات لا رابط بينها، تضعف القدرة النظرية لدى أصحاب التفكير وتحل الآلة الذكية مكانهم، المعلومات تزودهم بها الآلات الذكية التي هي بالأصل سلبٌ لذكائهم، والعقل النظري قائم لدى من يزوّدهم بالمعلومات؛ وهو صاحب أو مدير المنصة التي ترش وابل المعلومات على دماغ المتلقي، عملياً تُفشل الإرادة، إذ ليس ما يغذي الدماغ سوى من معلومات يزرعها دماغ آخر في دماغ المتلقي، الدماغ الآخر المركزي هو صوت الإمبريالية الجديدة، هي فعلاً سياسة إخضاع العقول والقلوب.
ليست المعلومات أداة للمعرفة، هي وسائل لتأكيد السلطة بعد أن يقضي المتلقي معظم ساعات النهار أسير معلومات يزوده بها المركز الالكتروني، أو ما يسمى المنصة أو الموقع، غوغل أو غيره، أو سلسلة لا متناهية من المواقع المحلية، لا بد له من الخضوع والغرق تحت تأثيرها، يتدرج الأمر من الحقائق الافتراضية إلى الحقائق البديلة، إلى الواقع البديل، هذه هي النفس المريضة، الناتج مرضها عن الهزيمة أصلاً، والخاضعة للاستبداد الاجتماعي والسياسي.
يرقص الجميع أمام طبولٍ فارغة وآلات ذات لحنٍ نشاز، لا قوام لمنطقهم ضجيج في ضجيج، منطق «تكلّم ما شئت فسوف يصدّق الناس»؛ البلد مستعمر من عدة بلدان وقواعد بحرية وجوية، ويزعمون فيه ويدعون الاستقلال والسيادة، تكثر عندهم القواعد العسكرية، فهي في نظامهم تدافع عن البلد لا عن نظامهم، نصف شعبهم مهجّر، فلا يعبؤون إلا بمن يروق لهم، الحوار ممنوع والنقاش محرّم والسياسة ملغاة، نظام استبدادي عسكري دموي متحالف مع نظام دعوي دموي ديني، بفكر مشلّع لا علاقات فيه بين الأسباب والنتائج.
في عصر النيوليبرالية، من الضروري أن تكون المسرحية هزلية دون ضحك، أو مع ضحك بابتسامة صفراء، وأن تكون المسرحية دامية، لا بأس فوسائل الإعلام على استعداد للتعليق بناء على ما يصلها من إعلانات مدفوعة وغير مدفوعة، إذا كانت الدوافع أيديولوجية أو عقائدية، وهي نادراً ما تكون كذلك، سلخ الطائفيون والوطنجيون وأهل الاستبداد جلودهم وأجّروها لأصحاب السلاح والنفط والمخدرات، فتحولت شعوبنا كلها لمتفرجين، وهم ماضون في المسرحية إلى آخرها، وعليهم التلذذ بما يشاهدون!
المصدر: اشراق