محمد أمين الشامي
أعترف أنَّ العنوان الَّذي اخترته للمقال لا يغطّي من الجغرافيا الواسعة للمعاناة الَّتي تنهش النّاس بأنيابها الزَّرقاء إلّا جزءًا واحدًا منها، مع أنَّها متعدِّدة الوجوه، لكنَّني وجدته يناسب الحال من حيث البعد النَّفسي المقبض الَّذي يخلِّفه الرَّجع البعيد لصدى الأغنية الفيروزيّة تلك في نفوسنا، والبعد الواقعي الَّذي لا يخرج عن الجوِّ المحبط المحيط بالمقيمين هناك. وربَما كان الأجدى أن أستعير عنوان رواية فيكتور هوغو الشَّهيرة الَّذي ترجم خطأً بالبؤساء، والأحق أن يكون البائسون. وقد نكتشف بين ظهرانينا هوغو سوريًّا يكتب الجزء الثّاني من تلك الرِّواية الكئيبة إنَّما بعنوان السَّوريون هذه المرّة، ليصف أحوال المقيمين والنّازحين والمشرَّدين والمرحّلين إلى ذلك الشَّمال “البرمودي” الَّذي ابتلعت لياليه الحزينة ونهاراته الكئيبة ما بقي لدي قاطنيه من آمال وأشلاء أحلام بشتاء دون بلل وصيف دون اختناق، وماء يصلح للآدميين شربًا واستخدامًا.
ولكي أصف الواقع هناك بعيون رسميّة، أقتبس من الإحاطة الافتراضية الَتي قدَّمها نائب منسِّق الأمم المتَّحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية في بداية العام الحالي 2022، حيث قال: “إنَّنا قلقون للغاية بشأن الوضع هناك (يقصد الشَّمال السّوري)، وكما تعلمون فإنَّ واحدة من بين أكثر الفئات السُّكانيّة ضعفًا في العالم تعيش في تلك المنطقة”. وسأنتقل إلى تصويره للمشهد في الشّتاء المنصرم: “نرى الآن هؤلاء الأشخاص في بعض المخيَّمات – إنَّها منطقة كوارث حقيقية”. وبعد تأكيده انتشال العاملين الإنسانيين لأفراد من تحت الخيام المنهارة، أردف قائلًا: “ترون صورًا لأطفال يسيرون في الثلوج وعلى الجليد وهم ينتعلون صنادل (أحذية غير ملائمة) والوضع سيء على وجه الخصوص بالنسبة للكبار في السن وذوي الاحتياجات الخاصّة الذين يعيشون في خيام مهترئة ومتهالكة في ظل درجات حرارة تنخفض إلى ما دون صفر مئوية” (أخبار الأمم المتحدة، 24 كانون ثاني/يناير، 2022). فهل تغيَّر شيء؟
منذ أيام قليلة أرسلت الطبيعة أولى رسائلها: هطولات مطريّة أغرقت الخيام هناك وأحالت الأرض إلى بيداء زلقة من وحل وطين. والحل: المناشدات الأممية لفاعلي الخير. فماذا لو علمنا أنَّ ما وصل من مساعدات للعام المنصرم بالكاد غطّى 45% من المبالغ اللازمة لمواجهة الأزمة، بعد أن كان 58% في العام الَّذي قبله؟ هذا يعني انحدار سريع نحو المربَّع صفر في عمليّات الإغاثة مبرره الإنهاك الذي وصل إليه النظام الإنساني مع وجود أزمات كبيرة في دول مزّقتها الحروب والمجاعات والأوبئة. وأنا أضيف إلى هذا السَّبب السَّرقات المنظَّمة الَّتي تتم على أيدي القائمين على توزيع المساعدات من منظَّمات تدَّعي الإنسانيّة وموظَّفي أمم متَّحدة ناهيك عن تورط الأمم المتحدة في فضيحة تقديم ربع أموالها لدعم شركات مرتبطة بأزلام النظام حسب ما كشف تقرير صادر عن مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية السوري. وهذا يعني أنَّ الأزمة مؤهَّلة للتَّفاقم في هذه السَّنة أيضًا ما لم يتم اعتماد معالجة فعّالة لهذه المشاكل التي تم ذكرها.
ثمَّ، بدأت الكوليرا بدورها تقرع أجراس الإنذار بقوَّة مع انتشارها في 30 مخيَّمًا وإصابة عدد من المواطنين وتسجيل البعض الآخر حالات اشتباه. وقد لعبت هشاشة البنية التَّحتيّة وإجراءات الأمن والسَّلامة شبه المعدومة للحصول على الماء الصّالح للاستهلاك البشري، مع الصَّرف الصحي المكشوف الَّذي يستخدم لري الخضروات دورًا كبيرًا في عودة الكوليرا إلى الوجود في سوريّة (الأناضول، محمد مستو، 4/10م2022). كما يوجد تخوُّف حقيقي من توسُّع دائرة انتشار المرض وتحوُّل المخيَّمات إلى بؤر حقيقيّة للكوليرا نتيجة الكثافة السُّكّانيّة وانتشار سوء التَّغذيّة والظروف المعيشية الهشة والبنية التحية المنهارة تقريبًا.
وليزيد في الطَّنبور نغم، شهد الشَّمال الاقتتال الَّذي جرى بين الميليشيات المتواجدة هناك ممّا دفع بعض النّازحين إلى نزوح جديد، وكأنَّ الطَّبيعة لوحدها لم تكف النّاس هناك، فكان لا بدَّ للمتناحرين على الغنائم والمناصب أن يزيدوا الطين المغرق في البلل بلّة. وهكذا، بات النّاس بين حجري الرَّحى الَّتي تداوم على طحنهم منذ سنين عديدة حتّى شارفوا على الفناء الَّذي هربوا منه في فصل مزرٍ آخر من فصول التَّغريبة السّوريّة.
لا داعي للحديث عن إجراءات الائتلاف أو الحكومة المؤقتة كونهما مجرَّد مكونات هلامية ورقية لا تملك من أمرها شيئًا حتّى تملك حلولًا لمشاكل من هذا النَّوع. لكنَّ الملفت هو الحل النّاجع الَّذي أتى من النِّظام نفسه حين أقدم على استهداف المخيَّمات بصواريخه وقنابله العنقوديّة لينهي حياة عدد من هؤلاء البائسين كعادته في اتِّباع خيار البتر كحل أوَّل أخير لأيِّ وضع لا يستطيع معالجته.
المعاناة في الشَّمال بحاجة إلى تدخُّل سريع وحلٍّ جذري، كي لا يظن النّاس أنَّهم تركوا في مواجهتها بلا أدوات مؤثِّرة قصدًا للضَّغط باتِّجاه القبول بالأمر الواقع البشع أو بحلٍّ سياسي أبشع يبقي الحال كما كان عليه قبل مارس 2011، مع تبعات أسوأ من تبعات أحداث عام 1982. لكنَّ الخوف أن يتحوَّل هذا الخنق نارًا تحرق الجميع بلهيبها أو بصهدها أو بدخانها وتعجز كل شتاءات العالم وأمطارها وثلوجها وفيضاناتها عن إخمادها، فليس بعد الموت موت.
المصدر: إشراق