عبد الباسط حمودة
في سياق انكفاء “عالم قديم” وانبلاج “عالم جديد” بتصورات ونظم معرفية جديدة، للإحاطة بآليات نظام عالمي وإقليمي متحوّل عقب مرحلة طويلة من التفكك عصفت بنظامٍ عربيّ فَقَدَ خلالها سماته الأساسية والتحكم بأجندته المركزيّة، تبرز أهمية المفاهيم الجديدة لتناول مقاربة السياسة والاقتصاد والبيئة والعلاقات الدولية في هذا السياق من الانبلاج والتحول، ويمكن اعتبار العاصفة الإقليمية التي لازمت ثورات “الربيع الديمقراطي العربي” بمثابة المنعطف لانطلاق مسارات صد هذا الربيع، وترتيب إقليمي جديد يتموضع فيه بقوة الاتجاه العربي الرسمي للتطبيع مع الكيان الصهيوني الذي تقاطع مع الاستدارة التركية البرغماتية، ويتفاعل فيه ومعه الدوران والذبذبة الإيرانية واللعب بمصائر شعوبها وشعوب المنطقة ككل، من خلال ميليشياتها الطائفية التي كانت إسفيناً للقتل بحق شعبنا السوري ونصرة للنظام القاتل وظفراً قذراً ضد الشعب العراقي وعوناً للغزاة الأميركان وحلفهم الإجرامي قبل 20 عاماً خلت ودورهم في لبنان واليمن، فضلاً عن عودة النفوذ الروسي عبر التدخل العسكري المباشر في سورية لقمع ثورتها لصالح الاستبداد وارتباطاته، وكل ذلك على خلفية غياب القوة العربية المركزية الفاعلة والقادرة على احتواء الاختراقات الخارجية ورفع التحدي الاستراتيجي بوجه “إسرائيل وربيبتها إيران”.
ثمة الآن عالم يتفاعل مع إيقاعات الغزو الروسي لأوكرانيا والمواجهات على مسرحها، وسط تحوّلات كبرى في السياسة والاقتصاد والأمن والاتصالات والعلاقات الدولية، إذ دخل النظام العالمي بمرحلة انتقالية تسودها ظواهر عنف وفوضى تجعله أشبه باللاّنظام، إذ تختل التوازنات والموازين وتتبدّل التحالفات والاستقطابات في سياق تراجع دول عظمى وبروز قوى جديدة، تندفع للإمساك بمواقع أو استعادة مواقع لها على المسرح العالمي، مثل روسيا والصين وألمانيا والهند وتركيا، وإن العلاقة التفاعلية بين النظام الدولي والنظم الإقليمية، تجعل للأوّل تأثيرات مباشرة وغير مباشرة في النظام الإقليمي العربي المتشظي أصلاً، وتُطورُ مشاكله وقضاياه ونقاط القوة أو الضعف فيه، مثلما أن لمجتمعات العالم العربي ودوله ديناميات تساهم في تطور النظام الإقليمي أو لجم تقدّمه وتفكّكه، وإن مسألة أطوار التاريخ الانتقالية تُحيل لمسألة التحقيب التاريخي وتقود إلى حقبة تسمى الطور أو الزمن الانتقالي، وهي أزمنة تطول أو تقصر وتندرج في سياقات تاريخية تتسم بملامح خاصة كالتي عايشناها عقب انفجار الثورات العربية عام 2011، بحيث يصبح الطور الانتقالي العربي مرادفاً لزمن المراجعات والتحولات الكبرى.
إن تخبط سلطات الأمر الواقع العربية بخصوص الثورة السورية وقضيتها العادلة بعد عام 2011، والتعاطي معها بهدف شيطنتها خدمة للردة والثورة المضادة وخدمة لذيلهم المجرم في دمشق والتطبيع معه، وإبعاد جذوة الثورة عن بلدانهم وسلطاتهم المستبدة المعادية للحرية وحقوق الإنسان، فضلاً عن خدمة الكيان الصهيوني والتطبيع “العربي” معه أيضاً بشكلٍ مضاد لإرادة الشعوب وبإشرافٍ وضغطٍ أميركي وغربي لا تخطئه الأعين، كل ذلك يشي ويريد الترويج بأن ثورات الحرية والتحرر العربية قد فشلت!! علماً أن الثورة السورية لمّا تنتهي بعد، ولن تنتهي إلا حين تحقق أهدافها العادلة بالحرية والكرامة وإقامة دولة الحق والقانون، وسواءٌ نجحت أم لم تنجح، وسواءٌ استمرت أم أنها أخذت مساراً آخر يختلف عن بداياتها، فإنه من المؤكد أنها حركت الراكد، وأنّطقت الصمت، وكابدت الخوف، وكسرت رعب المحرمات والممنوعات، وتجرأت على المستحيل، ونستحضر مناسبة انطلاقتها الـ12، لا لنحاكمها أو نعلن نهايتها، فهذا نتركه للسياسة والتاريخ وضمائر المؤرخين الموثِقين، وإنما لنُنعش الذاكرة بصرخاتِ الحرية المنبعثة من جرح الكرامات المُهانة، ونداءات الـ“سلمية” الصاعدة من جحيم الإذلال والترهيب اليومي، وإرادة التحدي التي قَمَعت فزعها المزمن ورُعبها الدفين، والإصرار العنيد على أن الحياة تستحق شروطاً أفضل لكي تُعاش، فيكفي أن أكثر السوريين نزلوا إلى الشارع ليعبروا عن وجعهم وأنين ظلاماتهم، ويحتفوا بحريتهم الموعودة ومستقبلهم المُتخيل رغم رصاص جلاديهم الذي مزق أجسادهم بلا شفقة، ويُعلنوا عن آمالهم المتواضعة وأحلامهم البسيطة التي هي بمقاييس واقعهم الخانق وظرفهم المهين مستحيلة.
المشهد كان يتجاوز السياسة ويجعلها تفصيلاً ثانوياً، كان مشهداً إنسانياً بإمتياز، يستمد قيمته من ذاته لا من درجة نجاحه أو إخفاقه السياسي، هو تعبير عن أفق وجودي لحقيقة ومعنى أن تكون كائناً إنسانياً، تطلعٌ وَجِلٌ لتاريخٍ جديد وشرطٍ إنساني مختلف، وإظهار حقيقة واقع مُزيف وكشف باطنه المتناقض وتعرية ظاهره الملفق ونعيمه المُدلَّس، هذه الثورة، لا تتحمل مسؤولية الإخفاق في تحقيق غرضها السلمي والديمقراطي، فتأسيس واقع جديد لا تكفي فيه النوايا والرغبات وحتى إرادة الداخل الشعبية، بحكم كثافة العوامل الخارجية التي مرجعها حسابات المصالح والتوازنات لا القيم والحقوق، وعمق الرواسب الثقافية والذهنيات الدينية والبنى الاجتماعية، التي تُحذر جميعها من التغيير ويقلقها التجديد، وتنسجم من حيث منطقها وطبائعها مع الشخصنة والاستبداد، ما يعني أن الثورة كانت حائزة على إرادة التغيير الضرورية لكنها فاقدة للشروط الموضوعية الكافية التي كان أكثرها خارجاً عن السيطرة والتحكم، وعدم تحقيق الهدف لا يعني الفشل، فالثورة، كشفت عن المسافة البعيدة والهائلة بين المبتغى والمتحقق، بين ما يجب أن يكون وما يمكن أن يكون، بين الرغبة بالتغيير والقابلية الذاتية للتغيير، تعرفت الثورة إلى موانعها الموضوعية وموانعها الذاتية ومعوقاتها الظاهرة والخفية، عرفت ما ينقصها ليس فقط من عناصر قوة مادية، وإنما ما تحتاجه من منظومات فكرية وذهنيات ودرجة وعي ونمط علاقات اجتماعية مغايرة جميعها لما هو سائد وراسخ، فالثورة لم يحاصرها استبداد وقمع النظام فحسب، بل كان الفراغ الذي أحدثه تفكك النظام فرصة ثمينة لاستبدادات وأشكال طغيان كامنة داخل مؤسسات المجتمع عمدت بعد اقتناص فرصتها إلى الظهور والالتفاف على الثورة نفسها، ليكون لها الدور الأكبر بالانقضاض على الثورة باسم الثورة ذاتها، وكلها تكاملت في آنٍ معاً مع نكباتٍ طبيعية مثلَ “الزلزال الأخير” في 6 شباط/ فبراير الماضي.
هذا لا يعني أن الثورة أنتجت نقائضها الذاتية، أو أنها كانت تحمل بذور فنائها وموتها من داخلها، إنما كانت ثورة مكشوفة الظهر، بعدما تبين عمق المأزق وغور الهاوية وركاكة الأرضية التي تقف عليها، وأن الاستبداد السياسي ليس سوى بُعدٍ واحد من أبعاد الاستبداد ووجوه الأزمة، ما يعني أن طي صفحة الاستبداد عملية بنيوية وتكوينية ذات امتداد تاريخي طويل لا تقتصر على إزاحة نظام والإتيان بنظام سياسي آخر، وإنما بإزالة مفاعيل ومولدات الاستبداد المنتشرة في أكثر مؤسسات المجتمع، والمنغرسة في الذاكرة وموجهات السلوك ومرجحات التفكير، بهذا المعنى، كانت الثورة السورية بمثابة اختبار تاريخي ضروري ليس فقط لسورية وإنما للمنطقة العربية بأسرها، فلقد عرَّفتنا على ما لم يكن بالإمكان التعرف إليه أو الكشف عنه لولاها، أزاحت الكثير من النرجسيات التي ظل العقل العربي أسيراً لها، أظهرت حجم السقوط الأخلاقي لدى النظام الإيراني وأذرعه الإرهابية بالتالي حقيقة وأهداف حضوره في المنطقة جراء تورطه بدماء السوريين فضلاً عن تورطه بدماء العراقيين واللبنانيين واليمنيين، وبيّنت النسبية المُفرطة عند الغرب، كل الغرب، في التعامل الجدي مع القيم والحقوق الإنسانية، وأثبتت عدم إمكان العبور إلى الديمقراطية الفعلية بأدوات وعدّة وذاكرة وذهنية تُناقض جميعها في منطقها ومبانيها مبادئ الديمقراطية، إذ لا يمكن أن يكون هنالك ديمقراطية بدون ديمقراطيين، رغم زعم البعض أنه ديمقراطي عبر مراصد يسميها ومجاميع سياسية واجتماعية، تحتاج كلها للكثير من الانسجام مع الذات والمبادئ بعيداً عن الأوهام.
فنحن أمام مشهد من مسار طويل لم تنتهِ فصوله بعد، والثورة لم تحقق أغراضها السلمية والديمقراطية، فكلفتها كانت باهظة، إلا أن التداعيات الموضوعية للثورة، المقصودة منها وغير المقصودة، قد أحدثت اهتزازات وارتجاجات مزلزلة، وغيرت تاريخ سورية وراهنها بنحوٍ جذري لا رجعة فيه، وفتحت مستقبلها على المجهول وعلى عزيمة السوريين فقط.
المصدر: اشراق