د- عبدالله تركماني
يدفعني إلى إعادة نشر هذه المحاضرة التي أعددتها منذ 23 عاماً، مع إجراء بعض التعديلات لربط الماضي المنظور للثقافة العربية بحاضرها العربي البائس، الذي تمزقه الهويات والخصوصيات الثقافية، وتهدده ” الهويات القاتلة “.
لا شك بأنّ الخطاب الثقافي، في ظل ما تشهده المجتمعات المعاصرة من تحديات وتحوّلات، هو خطاب الأزمة: فمن جهة، هناك الانهيارات السياسية والأيديولوجية التي أصابت العديد من الأفكار والنظم والمشاريع. ومن جهة ثانية، هناك الطفرات المعرفية التي شهدتها الفلسفة وعلوم الإنسان، والتي أسفرت عن انبثاق قراءات جديدة للحداثة وشعاراتها حول العقل والحرية والتقـدم. ومن جهة ثالثة، هناك الثورات العلمية والتقنية والمعلوماتية التي ندخل معها في طور حضاري جديد ” الذكاء الصناعي “. ولعلَّ أحد أهم ملامح أزمة الخطاب الثقافي المعاصر تكمن في محاولة التعرّف على عناصر ومكوّنات ثقافة العولمة وأدواتها الوظيفية، وكذلك ما تنطوي عليه من قضايا: الثقافة الوطنية، والهوية الحضارية، والخصوصية القومية. وإزاء كل ذلك، يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره، بما يمكّنه من فهم وتشخيص هذه التحوّلات العميقة بداية، ومن ثم الانخراط في تحويل وتغيير الواقع الثقافي في اتجاه التكيّف الإيجابي مع معطيات وتحوّلات العالم المعاصر.
وبالنسبة للعالم العربي، تنطوي الثورات المعرفية والتكنولوجية والمعلوماتية المعاصرة على تحديات وأخطار وفرص تمسُّ الكيان العميق للعروبة، وتعرّضها لما يسمى بـ ” صدمة المستقبل “. وتزداد الأخطار تأثيراً بسبب ما يعانيه الكيان العربي نفسه من عوامل الضعف المتمثلة في: انتشار الأمية، وتخلّف برامج التربية والتعليم عن حاجات المجتمعات العربية ومتطلبات العصر، ونقص الحريات، وعدم شمولية السياسات الثقافية، وضعف الصناعات الثقافية، وسيادة الإعلام السطحي.
وإذا كنا قد خسرنا العديد من لحظات الانتماء والفعل في التاريخ الثقافي- المعرفي الكوني، خاصة في العصر الحديث، فإننا في الوقت الراهن نقف مكتوفي الأيدي أمام ثقافة العولمة. فبالرغم من المحاولات الجسورة لنخبة رائدة من المفكرين العرب في عصر النهضة العربية، بمرحلتيها الأولى والثانية، فإنّ العالم العربي ما زال يرسف في أغلال التقليد، ويضع قيوداً متعددة على حرية التفكير والتعبير.
ومع العصر الرقمي والانفجار المعلوماتي ومجتمع واقتصاد المعرفة يبدو أنّ إشكاليات اليوم تتجاوز النهضة إلى ما بعدها، ولذا لا غنى عن تجديد المصطلحات وإعادة صياغة الإشكاليات. فليست المسألة الآن كيف ننهض من السبات أو كيف نجدد النهضة، أو كيف نندرج في الحداثة، بالرغم من أهمية كل ذلك، بل التكيّف الإيجابي مع عالم اليوم الذي يكاد يتحول إلى عالم جديد من فرط انكشافه وفيض معلوماته وفائق أدواته.
المسألة أننا لم نحسن الخروج من عجزنا وقصورنا لكي نتحول إلى مشاركين في صناعة العالم بصورة غنية وخلاقة. ولعلَّ ما أعاقنا عن ذلك هو الحمولات الأيديولوجية والمسبقات الدوغمائية التي منعتنا من استثمار طاقاتنا على الخلق والتحوّل، بقدر ما حملتنا على أن لا نعترف بإنجازات الغرب والتعلّم منه، أو التي جعلتنا نتعامل مع هذه الإنجازات بعقلية تقليدية شعاراتية عقيمة وغير منتجة. وفي هذا السياق، يظل من واجبنا الحذر والتحذير من إسقاط التشرذم السياسي العربي على البعد الثقافي. فإذا كان من الخديعة أن نتنكّر للخصوصيات القطرية العربية بدعوى وحدة الأمة، فإنه من الواجب أن لا ننخرط في تضخيم هذه الخصوصيات بحيث تمنعنا من رؤية المشترك الثقافي الذي يعتبر الحصن الأخير لوحدة العرب. إنها ثقافة عربية واحدة تضمُّ تيارات وخصوصيات تصبُّ في مجرى واحد، من دون هيمنة أو إقصاء. فقد تعددت المراكز الثقافية العربية، وتعددت قوى الإنتاج الثقافي في توزيعها الجغرافي الذي لم يعد محصوراً في دولة واحدة بعينها. وكانت النتيجة أننا أصبحنا نتحدث عن مستقبل الثقافة العربية في كل الدول العربية التي تتبادل الفاعلية والتأثير. وأصبحت المشكلات الثقافية عروبية بقدر ما هي قطرية، وإقليمية بقدر ما هي عالمية.
ومن المؤكد أنّ الثقافة هي المدخل إلى معالجة مختلف إشكاليات العالم العربي، على أن تُفهم بمعناها الأوسع والأغنى والأكثر فاعلية، أي بوصفها تجسد حيوية التفكير بقدر ما تمثل منبع المعنى ومصدر القوة لكل العرب، وبقدر ما تجسد سيرورة التحول والازدهار في العالم العربي. ومن أجل تجسيد حيوية التفكير بات من التبسيط والتضليل مقاربة إشكاليات الثقافة العربية من خلال فكر أحادي الجانب والمستوى، فالعالم هو في بناه ونظامه وصيرورته من التعقيد والتشابك والتحوّل، بحيث لا تفي بفهمه نظرية واحدة ولا ينجح في تغييره نموذج أوحد. الأجدى أن تتضافر المقاربات والمعالجات، عبر استثمار نتائج الدراسات العلمية والإبداعات المعرفية في مختلف الاختصاصات، وبما يؤول إلى ابتكار الاستراتيجيات والآليات والوسائل التي تسهم في بلورة رؤى ثقافية مستقبلية.
وهكذا، يطرح واقع الثقافة العربية المعاصرة مجموعة تساؤلات: ماهي مشكلات الثقافة العربية؟ وأين يقف العالم العربي من التغيّرات العميقة التي يشهدها العالم؟ وهل فهم منطق المرحلة الجديدة بمقوّماتها ومعالمها ومنطقها النوعي الجديد؟ وما مدى الاستجابة للمرحلة على أصعدة الرؤية والتخطيط والتنظيم والممارسة؟ وما هي التحديات والفرص الجديدة التي تطرحها ثقافة العولمة على الثقافة العربية؟ وهل نستطيع أن نبلور أسئلة تحدد أجوبتها استراتيجية ثقافية للمستقبل؟
I – أهم إشكاليات الثقافة العربية المعاصرة
لا شكَّ أنّ أزمة الثقافة العربية المعاصرة هي جزء لا يتجزأ من أزمة الدولة الوطنية العربية من جهة. وهي، من جهة ثانية، أزمة بنية ثقافية عربية تندرج في إطار بنية اقتصادية – اجتماعية متوارثة منذ عقود طويلة من الركود والتأخر والتبعية. مما يسمح لنا بأن نطرح السؤال المقلق الذي أثاره الأمير شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين: لماذا تراجع العرب وتقدم غيرهم؟ وتفسير عبدالله العروي لأزمة الثقافة العربية المعاصرة بأنها اختلال العلاقة بين الوعي والفعل، بين الوعي المنقوص والفعل العاجز، بين التوفيقية الملتبسة وافتقاد القدرة على الحسم؟!
وفي الواقع، تعود أزمة الثقافة العربية، في جانب أساسي منها، إلى أزمة الحامل الاجتماعي لهذه الثقافة. فمنذ بداية سبعينيات القرن العشرين بدأ المجتمع العربي يعيش أزمة جديدة تمثلت في تصدّع الفئات الوسطى، أي الفئات التي كانت الحامل الاجتماعي للثقافة العربية منذ الإخفاق العربي النهضوي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. كما أنّ النظام الثقافي العربي ساهم، إلى حدٍّ بعيد، في إبعاد العرب عن دائرة المشاركة الفعلية في النظام الثقافي الكوني، وجعلهم أسرى الثقافة الاستهلاكية. وفي المقابل، حوّل الثقافة التراثية إلى قلاع مُغلقة تحاول تسوير نفسها خوفاً من رياح التغيير، وتحتمي وراء التقليد وترديد مقولات السلف الصالح. إنه نظام متناقض مع نفسه، خالٍ من الاتساق والمصداقية، يسعى إلى إشاعة ثقافة الغفلة والامتثال والخضوع والعاطفية الجوفاء، بينما يهمل أو يغفل ثقافة الوعي الموضوعي بحقائق الأشياء وواقع المجتمع وواقع العصر الذي نعيش فيه.
وقد أدّى كلُّ ذلك إلى تصاعد نزعات التعصّب والتطرّف، وتزايد عمليات الإرهاب التي تتمسح بالدين الحنيف، وارتفاع درجة العنف الذي صاحب الدعوة إلى الدولة الدينية، أو صاحب الاتجاهات التقليدية الجامدة التي تصف التحديث ببدعة الضلالة المفضية إلى النار. هكذا، رأينا الاعتداء على المواطنين الأبرياء، ورموز السلطة المدنية، وتهديد المثقفين المستنيرين بكل وسيلة ممكنة. وأضيف إلى ذلك تحوّل هذا الإرهاب من إرهاب محلي إلى إرهاب دولي، وذلك في سياق متصاعد وصل إلى ذروته في غزوة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، وهي الأحداث التي فرضت أوضاعاً جديدة تماماً، وجعلت العالم كلَّه يرى أبشع وجه للإرهاب.
ومن المؤكد أنّ أصحاب نزعة التعصّب والعنف لم يدركوا التراث العربي – الإسلامي في صراعاته واختلافاته وتعدده في تنوعه، ولم يدركوا لماذا كان هناك المعتزلة والأشاعرة، ولكنهم أخذوه كما هو في مظهره السطحي وتضاريسه الخارجية. بسبب غلبة الوعي الأصولي النقلي على تفكيرهم، وذلك على نحو يغدو معه سؤال المستقبل سؤالاً غائباً عن حياتهم وليس عنصراً تكوينياً من عناصرها الحيوية. ودليل ذلك يسير جداً، نلمسه في ندرة كتاباتهم ورؤاهم التي تشغل نفسها بسؤال المستقبل، وذلك في مقابل الوفرة الوافرة من الكتابات والخطابات والممارسات المهمومة بسؤال الماضي وحضوره الذي يتحول إلى ما يشبه حضور العلة الأولى أو المركز المطلق للحضور. والنتيجة هي قياس كل شيء على الماضي، والعودة بكل جديد إلى أصل يبرره من القديم، والنظر إلى التغيير في ريبة، وإلى التجدد بعين الاتهام.
في حين أنّ الثقافة التراثية ثقافة متنوعة لا ينبغي أن نأخذها في مظهرها السطحي، وعلينا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين ألا نتبنى هذا التراث بطريقة مطلقة، وإنما نتعقّله في سياقه التاريخي، وكيف ظهر وانتهى في زمنه، ثم بعد ذلك نضيف إليه بحسب عصرنا وظروفه، وبرؤية عقلانية نقدية، وبذلك يصبح التراث قيمة متحركة، ويخرج عن إطار الجمود أو أن يكون مجرد مـاضٍ.
ومن الشواهد البارزة على وجود الأزمة على المستوى الثقافي أنّ المجتمعات العربية لم تصبح بعد مجالاً لإنتاج العلوم النظرية والمعارف العملية، كما كان الحال ماضياً في عصور الازدهار التي شهدتها الحضارة العربية – الإسلامية، وكما هي الحال في المجتمعات الغربية الحديثة التي تحولت إلى مصدر للإنتاج الفكري في مختلف فروع المعرفة والثقافة، بقدر ما اشتغلت على نفسها بالدرس والتحليل العلمي وبالنقد والفحص العقلاني.
وهنا يجدر بنا أن نقلع عن تحميل مسؤولية عجزنا وتأخّرنا على الآخر الغربي، فإذا نسبنا مسؤولية كل ما نتعرض له من إجحاف وظلم إلى الآخرين، فلن يكون من الممكن أن نحدد لأنفسنا مهاماً ثقافية خاصة بنا، وسنظلُّ أسرى منطق دائري يجعلنا نعكف على انتظار الخلاص بالصدفة. بينما المطلوب أن نتحرر من هذه النزعة، وأن نجري تغيّرات ثقافية جوهرية، تتضمن – قبل كل شيء – الاعتراف بمسؤوليتنا المباشرة عن أوضاعنا الراهنة وعن مصائرنا، ومن ثم عن المعطيات الأساسية لمستقبلنا في الإطار العالمي.
وفي الواقع هناك ما هو مشترك إنساني في ثقافة العصر، لا سبيل إلى تجاهلـه، وإلا كنا كمن يتجاهل التراث الإنساني الذي أسهم تراثنا العربي – الإسلامي في تخليقه، وكان معنى ذلك أيضاً تكريس تخلّفنا، وبالتالي تبعيتنا. ومن أجل تدارك ذلك يجدر بثقافتنا أن تُبنى وتنمو وتتطور بالاستيعاب النقدي لتراثنا القديم، والتراث الغربي الراهن، ليس هذا فحسب وإنما بتجديد حياتنا وتحديثها ودمقرطتها وتحريرها، وتوحيدها، والمشاركة الفاعلة في معارك الحضارة في عصرنا الراهن من غير تبعية أو تقليد أو استعلاء.
II – المخاطر المحدقة بالثقافة العربية في زمن العولمة والفرص المتاحة
في زمن العولمة، لعلَّ أهم ما يستدعي الانتباه والقلق هو منحى التفكير العربي الذي ينزع إلى تجريد ظاهرة العولمة من سياقها التاريخي والموضوعـي، وتصويرها على أنها امتداد للسياسة الإمبريالية، أو أنها نتاج مؤامرة خارجية على شعوب بلدان عالم الجنوب، بما فيها الشعوب العربية. إنّ العولمة هي نتاج التقدم العلمي والتكنولوجي الجاري منذ عقود، أي أنها ظاهرة موضوعية كونية شاملة لا يمكن ردّها وإبطالها برغبة ذاتية، إنما المطلوب هو إجراء التكيّف الإيجابي اللازم للتعاطي مع آلياتها، بما يكفل دفع عملية التقدم الإنساني إلى الأمام وتقليص الأخطار الناجمة عنها، ولا سيما إزاء التفاوت في التقدم بين المناطق المتأخرة والمتقدمة في العالم، والبحث عن وسائل وإمكانات توسيع الفرص الطيبة التي تتيحها هذه الظاهرة لخير البشرية وازدهارها، بعيداً عن استغلال العالم المتقدم والشركات المتعدية الجنسية لعالم الجنوب والإضرار بمصالح شعوبه وثقافاتها ومكاسبها الوطنية.
إنّ الخطاب العربي مُبهَمٌ حول الظاهرة، تتحكم فيه معطيات ظرفية، وعوامل ضاغطة ” صدمة المستقبل “. وبالتالي، فهو يشكو من التناقض، معلناً في أحسن الأحوال أنّ العولمة الاقتصادية قضاء وقدر لا مفرَّ منها، ولكن بشرط المحافظة على هويتنا وخصوصياتنا الحضارية. وحين تسأل عن سمات هذه الهوية ومَنْ يحددها وكيف يمكن المحافظة على الخصوصية ضمن حضارة الصورة التي تكتسح عقر بيوتنا دون استئذان؟ فإنك لا تحظى بجواب عقلاني واضح.
ففيما تتعولم الأسواق والمعلومات والأفكار والعلاقات والهويات، تنفجر أمام البشر إمكانات لا سابق لها للمعرفة والعمل، أو للتداول والتبادل، أو للاختلاط والتهجين، أو للانتقال والتغيير، وهي إمكانات يمكن العمل عليها باستثمارها ومضاعفتها، من أجل ترجمتها إلى إنجازات وابتكارات في مختلف المجـالات، وعلى النحو الذي يتيح لنا ممارسة علاقتنا بوجودنا وبالعالم المعاصر.
إنّ الخيار ليس متاحاً، في واقع الأمر، أمام مجتمعاتنا وشعوبنا، نتعولم أو لا نتعولم، إنما السؤال هو: هل نحن قادرون على مواجهة تحديات واقع بشري معولم لا محالة؟ وكما أنّ الخيار لم يعد متاحاً أمامنا، كذلك لا مجال أمامنا إلا أن نبدأ في استخلاص الدروس النقدية الواعية، بعقل منفتح ودون عقد أو خوف، والسعي بجدية كاملة إلى الاستيعاب الفاعل لما حدث من تحوّلات وإلى امتلاك القدرة على التعامل مع ما هو قادم.
هل يمكن إصدار حكم قاطع فيما يتعلق بقبول أو رفض العولمة وتداعياتها؟ إنّ إصدار حكم نهائي برفض العولمة يكشف عن تعجّلٍ في إصدار الأحكام بغير تأمّل في منطق التطور التاريخي، إذ إنّ ثقافة العولمة أدخلت إلى المجتمعات البشرية سمات الحداثة والمعاصرة والتواصل والوحدة الكونية. فالمهم بالنسبة لنا أن نتدارس ونتفهم طبيعة آليات العولمة، كي نحدد ما تستطيع عمله للحدِّ من تأثيراتها السلبية واقتناص فرصها وتعظيم فوائدها. فمن الضروري السعي إلى تأسيس كتلة اقتصادية عربية موحدة، تولي اهتماماً خاصاً بالبعد الثقافي والتربوي للتنمية، إذ يمكن تسهيل انفتاح الجامعات العربية على بعضها البعض، وتبادل المناهج الدراسية، وعقد ندوات ثقافية مشتركة. شريطة أن يتمَّ ذلك في إطار التفتّح وليس التزمّت والانغلاق، لأنّ كل شيء منغلق لا ينفتح على الآخر سيضرُّ بمستقبلنا.
وبعيداً عن المبالغات والتوصيفات والتهويمات الأيديولوجية، فإنّ العولمة ترتبط أشد الارتباط بالثورة العلمية والمعلوماتية الجديدة، التي تمثل أحد أهم معالم اللحظة الحضارية الراهنة، بحيث يمكن القول: إنّ العولمة والثورة العلمية والتكنولوجية هما وجهان لا ينفصلان لسياق تاريخي وحضاري واحد. إنّ العلم الذي نقل البشرية من طور إلى آخر هو الذي يقوم حالياً بخلق عالم جديد ولحظة تاريخية مختلفة كل الاختلاف عن كل ما هو قائم حتى الآن. لقد تحوّل العلم والثورات العلمية إلى قوة من القوى الكاسحة التي تصنع الأحداث وتشكل المستقبل وتعيد ترتيب أولويات الدول والمجتمعات والأفراد. فمن يمتلك هذه القوة، ويحسن توظيف نتائجها يمتلك مصيره، ويعرف كيف يتدبر شؤونه، ويتمكن من التأثير في الآخرين.
وفي زمن العولمة، فإنّ طبيعة المخاطر المهدّدة للثقافة العربية لا تتعلق بعمليات العولمة وتداعياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، بقدر ما تتعلق بمدى قدرة هذه الهوية الثقافية العربية على تجاوز أزمتها، خاصة ما يتعلق منها بالتنمية الشاملة وتوسيع إطار الديمقراطية، وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل قيم الحوار والتعددية، وقبول الرأي والرأي الآخر، وتوفير حرية البحث العلمي، وإنشاء منظومة تربوية تقوم على تأهيل وإعداد كوادر تعليم عالية المهارات، واحترام عقل المتلقي، وتوفير وسائل تمكينه من الاستيعاب الناقد للمعلومات والآراء وإبداع الأفكار، واختصار الزمن في مناهجنا التعليميـة، وإطلاق العنان للطاقات الشابة في كل المجالات لكي تفكر وتبدع وتعزز ثقتها بإمكاناتها.
ومن المنظور العالمي، وبعد أن تداعى الاستقطاب التقليدي بين عالمي الرأسمالية والشيوعية، ظهرت النزعة العالمية أو الكونية، القائمة على الاعتماد المتبادل بين الشعوب والدول لمواجهة سطوة نظام عالمي جديد، واحد ووحيد. فالتعددية التي يشهدها العالم، بسبب تباين المراكز الاقتصادية العالمية التي تحولت إلى مراكز ثقافية متكافئة نسبيا، تستبدل الاستقطاب الثنائي القديم بالتعددية الواعدة التي يتجاور فيها الشرق والغرب، الشمال والجنوب، وتبرز فيها الأدوار الغربية إلى جانب الأدوار الأسيوية، ضمن سياق مختلف من توزيع الأدوار في ثقافات العالم التي أصبحت ساعية إلى تأكيد التنوّع الخلاق.
وتقوم النزعة الكونية على أسلوب جديد من التفكير الذي يتعقل الكون في شموله، ويردُّ أجزاءه إلى هذا الشمول، مؤسساً رؤية إنسانية مفتوحة على كل الأجناس والأفكار. ويترتب على هذه النزعة ما أصبح يطلق عليه اسم ” الاعتماد المتبادل “، وهو مفهوم يناقض التبعية، ويضيف معنى جديداً للاستقلال، ويؤسس ضرورة التعاون بين الدول لمواجهة المشكلات العالمية الكبرى التي لا تقدر عليها دولة بمفردها، انطلاقاً من تعقّد المشكلات العالمية واتصالها بمصائر الأمم كلِّها، فالإرهاب العالمي لم يعد يميّز بين دولة وأخرى، ومخاطره سرعان ما أصابت بأضرارها الدول التي حسبت نفسها بعيدة عنه، ومشكلات البيئة وصلت إلى درجة من التعقّد والتشابك الذي لم يعد في استطاعة دولة واحدة أو حتى قارة واحدة مواجهتها. وليس ذلك سوى مجرد مثال يؤكد أهمية التعاون العالمي، في ظل التسليم بمبدأ التنوّع الخلاق الذي لابدَّ أن تنهض عليه العلاقات بين الأمم والشعوب، وفي مواجهة الأخطار والتحديات المشتركة.
ولعلَّ التحدي الأكبر الذي يستوجب على المجتمعات العربية مواجهته هو التحكم في نقاط ضعفها نفسها وفي مقدمتها نظمها السياسية، ومنظوماتها الإدارية والاجتماعية والثقافية، واكتشاف هذه النقاط وإدراك النقائص والسعي إلى معالجتها دون عقد كبيرة. هذه هي الخطوة الأولى نحو تكوين الفاعل التاريخي القادر على تحديد أهداف وبلورة استراتيجيات، والدخول في تنافس أو صراع أو تفاهم مع الأطراف الدولية الأخرى، أي نحو الوجود العربي على الساحة العالميـة، كطرف من بين أطراف أخرى لديه قدرة على المبادرة والفعل، وبالتالي على انتزاع اعتراف الآخرين. فلا أمل اليوم لطرف في التأثير على مصيره الخاص، إلا إذا نجح في أن يكون شريكاً مع الآخرين في التعاطي الإيجابي مع التحديات العالمية. فالمشاكل التي يعاني منها، هي نفسها التي تعاني منها بقية المجتمعات، ولا مجال لبلورة حلول ناجعة لها إلا من خلال منظورات إقليمية وعالمية.
إنّ مجابهة أخطار وتحديات، وكذلك اقتناص فرص العولمة، لا يتأتى من التنديد بها واعتبارها خطراً خارجياً داهماً، بل بالبحث عن أسباب الضعف العربي الداخلي ومعالجته جدياً للنهوض بالقدرات العربية إلى مستوى التطورات الجديدة والتعامل معها على أساس من التكافؤ والاقتدار في الميادين المختلفة.
(*) – محاضرة في المنظمة العربية للثقافة والعلوم ” أليكسو ” – تونس في 14 كانون الثاني/يناير 2003.