معقل زهور عدي
في سياق نقده للمثقف العربي” النموذجي” يتحدث المفكر السوري الياس مرقص أن ذلك المثقف لم يفهم حتى الآن كيف ” يجب الانتقال من الليبرالية النخبوية ومن تنظير التلاعب بالبشر إلى الديمقراطية”.
“كأنه يريد الديمقراطية لنفسه , ديمقراطية بدون قاعدة جماهيرية , يضيف الياس : ” والليبرالي العربي يمكن أن يتحول إلى ما يشبه الفاشستي على قاعدةِ نخبويَّته ذاته”.
ويظهر مثل ذلك السياق في اتخاذ المثقف العربي لموقف ليبرالي متطرف من الفكر القومي العربي والفكر الاسلامي والفكر الاشتراكي بإحالة الجميع إلى ايديولوجيات أولا ثم بالتشديد على الطابع السلبي الرجعي للايديولوجيا , وبذلك يصل المثقف الليبرالي إلى حالة تشبه التكفير لكن من جهة الليبرالية وليس الاسلام.
فالغاية النهائية تصبح هنا وضع جميع عناصر الفكر الانساني العربي ضمن باقة واحدة ورميها في البحر , أي تفريغ العقل العربي من جميع مكوناته الفكرية التاريخية مرة واحدة بلعبة بهلوانية .
النظر بازدراء للفكر القومي العربي بوصفه ليس سوى ايديولوجيا بعد أن قمنا بتحميل مفهوم الايديولوجيا بكل الموبقات والرذائل , وكذا عن الفكر الاسلامي واليساري , وطالما أن مفهوم الهوية العربية يدخل ضمن الفكر القومي فينبغي التخلي عنه نهائيا , وطالما أن الفكر الاسلامي ايديولوجيا فالاسلام أيضا موضوع للاستبعاد والنفي , وكذا جميع أشكال الفكر الاشتراكي .
يطرح ذلك الموقف الليبرالي المتطرف الانفصال كليا عن غالبية الشعب , ولايعود يفكر بالديمقراطية التي تتطلب العودة للغالبية بل اتخاذ موقف الاستاذ المتعالي عليها , ليس ذلك مهما بالنسبة ل الليبرالي , المهم هو الانخلاع من كل الأفكار الايديلوجية الخبيثة , الانخلاع فقط , والانتظار بينما يتم انتاج أفكار بديلة متحررة .
لكن ماهي هذه الأفكار , ومن أين ستأتي أحجارها ؟ طالما لم يعد لدينا أي من المنتجات التاريخية للفكر الانساني ؟
هل هي في الليبرالية المتطرفة ذاتها في تحولها إلى ايديولوجيا عمياء لاترى الواقع ولا الشعب ولا الديمقراطية ولا التاريخ ؟
أم هي في الانعزال والاكتفاء بمسطرة الاستاذ والسبورة لتعليم الجيل الجديد أن العروبة ايديولوجيا ضارة وأن الاسلام ايديولوجيا سيئة وأن الفكر الاشتراكي ينبغي طرده بعيدا ؟
لنقل إننا صدقناكم ولم نعد نقيم للعروبة والاسلام والاشتراكية والديمقراطية أي وزن , لكن إلى أين نذهب أيها السادة ؟
لماذا أنتم عاجزون هكذا عن طرح أي بديل ايجابي ؟
ها قد انتهينا من جميع تشكيلات الفكر العربي وصنفناها كأيديولوجيا وصدقناكم أن الايديلوجيا مرض خبيث ثم ماذا ؟
كيف لنا أن نقبل الهويات القومية الأخرى ونعترف بها ونتعايش معها ونحن ننكر هويتنا العربية التاريخية ؟
كيف لنا أن نشطب الفا وأربعمئة عام من التاريخ والحضارة والفكر الانساني بكل مايحمله من إنجازات وهو يدخل في كل جزء من حياتنا وثقافتنا كشعب ؟
كيف لنا أن ننكر الفكر الاشتراكي بكل ماقدمه للانسانية مع نقد الجوانب السلبية فيه .
كيف لنا أن نكون طليعة شعبنا نحو الحرية والديمقراطية ونحن معزولون عنه في أبراجنا العالية ؟
الفكر القومي ليس ايديولوجيا , والعروبة حقيقة تاريخية لايمكن مصادرتها , والايديولوجيا ليست مرضا خبيثا , الايديولوجيا طالما لعبت في التاريخ أدوارا تقدمية حاسمة .
كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي والشعب السوري أيضا كان يجري بصورة رئيسية بدافع اسلامي ايديولوجي اذا أحببتم .
الحفاظ على هويات الشعوب المحتلة من قبل الاستعمار الغربي كان يتم بفضل الايديولوجيا الاسلامية من اندونيسيا الى المغرب العربي إلى افريقيا خلال الفترة الطويلة الماضية .
الايديولوجيا القومية العربية _ إن أحببتم تسميها بالايديولوجيا – هي التي صنعت أول دولة ديمقراطية عربية في سورية بين الأعوام 1918-1920 إلى أن تم تحطيمها على يد الاحتلال الفرنسي.
الفكر ليس الايديولوجيا , هو أوسع من ذلك , والنظر لكل فكر باعتباره ايديولوجيا ليس علميا وليس معرفيا , والايديولوجيا ليست مرضا خبيثا , وليس لها وجه واحد , والنظر اليها كذلك هو تلاعب مكشوف , ومثل تلك الاختراعات لاتفيد سوى في انعزال المثقف عن غالبية الشعب , والابتعاد عن الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية .