تحل الذكرى السبعين لنكبة فلسطين ، ولكن معنى النكبة اليوم يحمل ابعادا اكثر مأساوية وعمقا في الواقعين الفلسطيني والعربي ،فالجدير بمن يعتقدون انهم معنيون في هذا الصراع ،ان يتشاركوا في اعادة تشكيل وعيهم او لنقل تدعيم وعيهم وتجديده، على ضوء التحولات الجذرية التي يمر بها الصراع العربي الصهيوني والتحولات الكبيرة في بنية النظام السياسي العربي وكذلك في الوعي العام العربي ، وخصوصا بعد انكشاف زيف مشاريع التسوية السياسية والاثار التي تركتها على مجرى الصراع، وكذلك ا اليات الصراع وحتى في وعي ابعاد هذا الصراع. وكذلك بعد انكشاف دور النظام العربي في ادامة نكبة فلسطين لا بل حتى في خلق نكبات عربية جديدة تؤكد على استمرار نكبة فلسطين وشمولها لواقع العرب جميعا.
وكمحاولة بسبطة في مشاركتي افكاري لأصدقائي لأؤكد على ما اعتبره دروسا واستنتاجات هامة في سياق الهم الوطني العام والقومي العام في اطار التصدي لما اعتبره مهاما مركزية تنتصب امام احرار وشرفاء الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وبشكل خاص في السياق التاريخي لما تبنته ثورات الربيع العربي وترابطه مع قضية فلسطين ؛كما ارجو ان يكون الحوار والتفاعل البناء في هذا السياق سببا في اغناء الافكار وتعميقها وتطويرها.
هذا القول لا يرقى الى كونه نقدا مؤصلا للتجربة الوطنية الفلسطينية، بقدر ماهو ملاحظات اساسية لما اراه تعمق وشمول النكبة الفلسطينية واستمرارها بصورة اشد مضاضة وقسوة وبالأخص مع فقدانها الكثير من عوامل قوتها .
ففيما كانت الظروف الموضوعية المحيطة بالقضية الفلسطينية تزداد صعوبة وتعقيدا ، وعملية تحلل النظام العربي وانفكاكه من العلاقة مع القضية الفلسطينية، تجري على قدم وساق، وكذلك استنفاذ الزخم الشعبي العربي الداعم والمشارك للنضال الفلسطيني الذي كان آخذًا بالاضمحلال ،وانسداد كافة ابوابه وآفاقه. هذه الظروف الموضوعية، اضافة الى ظروف اخرى لا مجال للتوسع بها هنا ، ترافقت مع ضعف ذاتي فلسطيني عام كانت ابرز معالمه هو مسايرة الاطار المؤسسي الفلسطيني لتجليات الانحدار والانفكاك العربي العام ،ما اسفر عن سلسلة مرافقة من الانهيارات الفكرية والسياسية والتنظيمية الخطيرة، فبعد الانهيار الفلسطيني الاول من خلال تبني البرنامج المرحلي الفلسطيني عام 1974تتالت الانهيارات سياسيا وعسكريا تنظيميا وفكريا فمن هزيمة الاجتياح الاسرائيلي للبنان عم 1982 الى انقسام حركة فتح عام 1983 وتكريس صيغة الانقسام الفلسطيني عبر اطر اخذت اشكالا من التبعية للمحاور العربية مرورا بالاشتباك المفتوح بين الاطراف الفلسطينية المتصارعة في لبنان والذي كان له آثارا مدمرة على التطور السياسي الفلسطيني اللاحق ، ومن تعقد الاشتباك الفلسطيني اللبناني معبرا عنه بحرب المخيمات ،وما تلاه من انقلاب فكري سياسي عبر عنه في اجتماع ما يسمى بالمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر وما صدر عنه مواقف ووثائق”وثيقة الاستقلال”حيث اعتبره المؤسسة الرسمية الفلسطينية، بانه بيان الاستقلال الفلسطيني ؛ والذي مهد في غضون السنوات الخمس التالية الى ولادة سلسلة من الاتفاقات مع العدو الصهيوني ، انطلاقا من اتفاق اوسلو ومانتج عنه من تطبيقات هذا الاتفاق من نتائج كارثية على القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وارتباط قضية الشعب الفلسطيني ونضاله بعمقه العربي وابعاده الدولية.
وحتى هذه المرحلة و قبل الدخول في الكثير من الاحداث التاريخية اللاحقة لا بد من التوقف هنا لتحديد معنى النكبة مجددًا من خلال قراءة ما آلت اليه الاوضاع الوطنية الفلسطينية بعد كل تلك التطورات .
يتجلى معنى النكبة راهنا بقراءة سريعة لهذه التطورات من خلال النقاط التالية:
1-اول معنى من معاني عمق النكبة وتجذرها في حياة الفلسطيني ،هو الانقلاب الحاصل في الحركة الوطنية الفلسطينية، فيما كانت حركة وطنية تعبر عن كفاح الشعب الفلسطيني وارادته في التحرر من الاحتلال الصهيوني الاستيطاني العنصري ؛وما يعنيه ذلك من انقلاب في الوعي التاريخي للصراع مع العدو والذي تشكل لدى الحالة المؤسسية الفلسطينية على خلفية العجز عن ادارة الصراع ومواكبته وعلى كافة الصعد، وتحولها – الحركة الوطنية- الى سلطة تسعى الى حكم شعبها تحت حراب الاحتلال، مع ترافق ذلك من تبدلات جذرية في بنية تلك القوى، والتي كان ملخصها التحول الحاصل -وعلى كل الصعد -لمواكبة وجود تلك السلطة التي تمخض عنها اتفاق اوسلو والاستفادة منها وتقاسم النفوذ داخلها ، والابقاء على اشكال هامشية للعمل الوطني الفلسطيني يلفها العجز والتكلس، حتى استخالة قيامها بنقد سواء تجربتها الخاصة او التجربة الوطنية الفلسطينيةبشكل عام، بالرغم من اهمية ذلك في ديمومة العمل الوطني ومن اجل استكمال مهام التحرر الوطني.
علاوة على هذا الانقلاب الخطير الذي حصل في وعي وسلوك المؤسسة الرسمية الفلسطينية والتي افضت الى تحولها من حركة وطنية تهدف الى تحرير الوطن، الى حركة سياسية تسلطية تحت حراب الاحتلال تستمد نفوذها وشريعتها و مقدراتها من ذلك الاحتلال ،فان فقدان المرجعية الوطنية وفقدان وحدة القضية وتشظيها الى الى عدة قضايا متناثرة لا يجمعها اي رابط سياسي او تنظيمي يعبر عن وحدتها ،ويجمع عناصرها، ضرب اسس الوحدة الوطنية الفلسطينية وجعل من منظمة التحرير كوعاء وطني تنظيمي، عبر عن وحدة القضية والشعب والارض الفلسطينية طيلة عقود من النضال ،قد تم تهميشه وجعله ملحقا تابعا لسلطة سياسية لا يربطها اي رابط جوهري باي هدف وطني فلسطيني، لا من حيث التوجهات السياسية ولا من حيث البنى التنظيمية ، المترافقة مع تزييف الوعي الوطني العام وخلق مصالح فئوية حلت محل المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني وأماله وطموحاته.
فتمزق وحدة القضية الوطنية وانصراف السلطة المتحكمة بالعمل الفلسطيني الى المساومة على مصالح الكل الفلسطيني لحساب وهم ،خلق مصالح لجزء فلسطيني على حساب ذلك الكل، وصولا الى ضرب وحدة الاراضي المحتلة عام 1967 المزمع اقامة الدولة الفلسطينية العتيدة عليها، ونشوء سلطتين كل منهما تعتبر نفسها المعبر عن الفلسطينيين، جعل ليس فقط القضية الفلسطينية في مهب الرياح، بل حتى اهداف تلك السلطة الواهية والواهمة نفسها ايضا امرا في مهب الرياح . ما جعل تكريس صورة الصراع الفلسطيني الداخلي والانقسام الفلسطيني هي ابرز صورة في عين المراقب الفلسطيني والعربي وحتى العالمي الصديق منه والمعادي.
ولعل هذا الانقسام كان التجلي الاكبر للانقسام الفلسطيني الذي بدأ مع بداية بروز نهج المساومة والتسوية في الساحة الفلسطينية، والذي كانت اثاره المدمرة تطال حتى الوعي الفلسطيني البسيط، مما جعل سمة الانكفاء عن الاسهام في النضال وروح التضحية التي ميزت الشعب الفلسطيني في نضاله خلال اكثر من مئة عام، و ما دفع قطاعات مهمة من الفلسطينيين لخيارات اخرى اجتماعية وسياسية بعيدا عن المشاركة الوطنية الفاعلة.
ففقدان المرجعية الوطنية وتفكك القضية الفلسطينية الى قضايا متناثرة لا يربطها رابط ،مع تجليات الانقسام العميق على الارض الفلسطينية من خلال نشوء ذينك السلطتين هو من ابرز معالم تعمق النكبة الفلسطينية وتجذرها
2-وفيما كانت ازمة النظام الرسمي العربي تتعمق وتبعيته للمراكز الامبريالية تتزايد بحيث يبدو واضحا للمراقب الحصيف ان الاستقلالات الشكلية التي نالتها الدول العربية بعد الحربين العالمتين الاولى والثانية لم تعد ذات قيمة، وانكشفت بنى وهياكل النظم العربية اقتصاديا وسياسيا وعلى كافة الصعد امام مزيد من التبعية للمراكز الامبريالية، وباطراد كبير ، بحيث نستطيع ان نستنتج : بعد ان كانت تلك الاستقلالات دافعا للشعوب لكسب معركة التحرر والتقدم الاجتماعي والاندفاع للدفاع عن قضايا الامة العامة والكبرى، بنفس الوقت كانت تلك الاستقلالات برعاية انظمة الحكم سببا في بلورة هوياتية قطرية متنافرة ومتصارعةعمقت التجزئة العربيةو ضربت الاسس التي كان يمكن ان يقوم عليها اي نوع من انواع التكامل الاقتصادي والتفاعل الثقافي والاجتماعي وحلت الصراعات البينية بين الاقطار العربية محل العمل الوحدوي والتي عمقت بدورها فقدان تلك الاستقلالات الشكلية . وفي اطراد مستمر راحت الدول العربية تفقد استقلالها وتتكشف عن دور لكيانات وظيفية لاتخدم مصالح شعوبها بقدر من تنفذ اجندات الدول الكبرى التي راحت تحمي بكل حماس انظمة الاستبداد والرجعية ولان الفساد والاستبداد لا يحقق مصالح الشعوب بل مصالح الرعاة الدوليين.
ففي هذا الوقت الذي كانت فيه الامة كاملة تفقد استقلالها ،راحت القيادة الرسمية الفلسطينية ترفع شعار الاستقلال الوطني مع كل ما يحمله من زيف وتضليل، متخلية من خلال هذا الشعار عن شعارات مرحلة التحرر الوطني، وذهبت مذهب الانظمة العربية وقلدتها في كل شيء، ففي واقع موازين القوى في هذا الصراع مختلة لصالح العدو وحلفائه والتي بطبيعة الحال ستكون اهم عامل في حسابات المفاوضات التي اختارتها القيادة الرسمية الفلسطينية كأسلوب رئيسي لتحقيق هدف الاستقلال المنشود، فكان هذا الاستقلال المنشود متسقا تماما مع موازين القوى التي حكمته والتي لم يكن من الممكن ضمن هذه المعادلة ان يفرز اتفاقا افضل من اتفاق اوسلو.
وبهذا الاتفاق لم تضع تلك القيادة حدا لحلمها في الاستقلال فحسب بل اختزلت ذلك الحلم الى حكم ذاتي تحت الاحتلال يرتهن بكافة مقومات وجوده الى الاحتلال نفسه ، فلم يكن اتفاق اوسلو الا اتفاقا يهدف الى جعل الاستقلال الفلسطيني امرا مستحيلا. بل وأكثر من ذلك يجعل من بقاء الفلسطيني على ارضه ضرب من الخيال،
ناهيك عن اعتراف هذا الاتفاق بحق العدو المحتل ب80%من ارض الوطن التاريخية، بينما جعل من البقية الباقية منه موضوعا للتفاوض. ولأول مرة في التاريخ يجري ان تعترف الضحية وهو الشعب الفلسطيني بحق العدو المحتل الاستيطاني بالأرض التي احتلها وذلك تم على يد تلك القيادة، وعلى مذبح اوهام الاستقلال، بعد التخلي عن مهام التحرر الوطني التي تضمنتها وثائق كافة القوى الفلسطينية بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية التي اضطرت مرارا لتعديل دستورها “الميثاق الوطني” الى ان وصلت الى ما وصلت اليه.
ولا غرو فيما يحدث الان على صعيد بعض الانظمة العربية من رغبتها بالاعتراف بإسرائيل فقد سقطت ورقة التوت منذ زمن بعيد وقد سبقهم الى ذلك التطبيع ممثلو السلطة الفلسطينية وحتى الى ما هو اكثر من التطبيع ،ما سماه رئيس السلطة الفلسطينية “بالتنسيق الامني المقدس” يعني ان تلك السلط ومن خلفها النظام العربي بمجمله ، قد اصبحا يلعبان دورا هاما في ضرب حركة الشعب الفلسطيني الوطنية ومنعها من النهوض بتقديم خدماتهم للعدو الصهيوني. وهذه المشهدية المأساوية تتكرر في حياتنا السياسية اليومية في امثلة حية تشهد عليها.
او هذا معلما بارزا آخر من معالم تعمق النكبة الفلسطينية وشمولها واتساعها وتكرسها في الحياة السياسية الفلسطينية والعربية.