البحث الثالث
الإسلام بين الناصرية والجماعات السلفية الأصولية
مقدمة
في بداية الحديث نتوقف عند مسألتين:
الأولى: أن الحديث موجه إلى قوميين عرب يؤمنون بالإسلام باعتباره دين السماء الواحد مهما اختلفت الشرائع والرسل، أي أنه حديث عن الإسلام الشامل لكل الشرائع من حيث المضمون انتماءً واقتناعاً.
الثانية: أن اتجاه الحديث لا يهدف إلى شحن العداء مع تيارات وقوى “إسلامية” نتباين معها في الاجتهاد، ونختلف معها بمفاهيمها وسلوكياتها، وإنما يهدف إلى تصويب المفاهيم ذاتها والإمساك بكامل الخلل، حتى يصبح الخلاف واللقاء على قاعدة واضحة ومحددة.
وبهذه المناسبة نحب أن نؤكد أننا دعاة لقاء وتضامن، وخصوصا أن المرحلة الحالية من المواجهة مع العدو الخارجي الصهيوني الغربي تتطلب أوسع قاعدة للتلاقي وللتضامن، ولكن التلاقي والتضامن لهما قواعدهما، وفي مقدمة تلك القواعد أن تتحدد “التخوم”، أي أن تتحدد رؤية كل طرف للمسائل المطروحة، وأن تتحدد أيضا قواعد اللقاء، وقواعد الخلاف.
وقواعد اللقاء مع أي فريق أو طرف هي بالنسبة للتيار القومي الناصري:
ا- موقف واضح لا لبس فيه من العدو الخارجي، بحيث يكون الموقف غير قابل للتأويل.
٢- استعداد للحوار عبر القبول بالاحتكام إلى الأمة على قاعدتي الشورى والديمقراطية.
٣- إعلاء مصالح الأمة فوق أي اعتبار حزبي أو فردي أو فئوي.
عنوان حديثنا هو:
“الإسلام بين رؤية عبد الناصر والجماعات الأصولية السلفية”
ونحن عندما نستخدم عبارة الجماعات السلفية والأصولية ندرك سلفا أن هذه الجماعات ليست تيارا موحدا، حيث توجد ضمنه عناصر وقوى جهادية متنورة، تقترب رؤيتها من رؤيتنا في الكثير من المسائل والقضايا. بينما توجد تيارات أخرى ارتضت أن يكون الارتهان للغرب هو عنوان حركتها.
كما أن قولنا بأنها “جماعات أصولية سلفية” ينطلق ليس من اعتبار دعوتها “دعوة لأصل الإسلام وفق ما كان عليه السلف الصالح”، وإنما بمعنى التوقف بالإسلام والمسلمين عند حدود اجتهادات تاريخية، وعدم الاستعداد لابتداع حلول جديدة للمسائل المستجدة التي تعترض سبيل المسلمين ومصالحهم.
عبد الناصر والإسلام
الجانب الأساسي في الإسلام الذي نظر إليه عبد الناصر هو جانب أخذه على عاتقه كـ “رجل تغيير”، أي الجانب الحركي، الدافع والمولد لطاقة التغيير في المجتمع، حيث يقول الميثاق الوطني: “إن رسالات السماء كلها في جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته، وإن واجب الأكبر للمفكرين الدينيين هو المحافظة على الدين من حيث جوهر رسالته”. (1)
لقد رسخ في تفكير عبد الناصر أن رسالات السماء تتطابق ومفاهيم العدل والتقدم والكرامة، بل هي منشئة لهذه المفاهيم (2) ـ فقد اعتبر الفقهاء أنه: “حيث العدل حيث شرع الله”، وفي رواية أخرى “أينما المصلحة ثمة شرع الله”، لذلك كان مجرد اصطدامه بالظلم والاستغلال والاضطهاد، أو التبعية والتخلف، يعني بالنسبة إليه اصطداما بما يتناقض مع جوهر الأديان (3)، فالإسلام هو دين توحيد، حيث التوحيد هو خلوص العبودية الله، بما يحمله من دعوة للتحرر والانعتاق من العبودية.
أما عن نظرته إلى العبادات فقد كانت متأثرة أيضا بالجانب السلوكي أي تأثير هذه العبادات على السلوكيات، ولنأخذ مثالا كيف كان ينظر الى قضية الحج.
تحدث في فلسفة الثورة عن خواطره خلال أدائه لفريضة الحج فقال: “يجب أن تتغير نظرتنا إلى الحج، لا يجب أن يصبح الذهاب إلى الكعبة تذكرة لدخول الجنة بعد عمر مديد أو محاولة ساذجة لشراء الغفران بعد حياة حافلة، يجب أن تكون للحج قوة سياسية ضخمة يجتمع كل قادة الدول الإسلامية، ورجال الرأي فيها وعلماؤها في كافة أنحاء المعرفة وكتابها، وملوك الصناعة فيها، وتجارها، وشبابها، ليضعوا لهذا البرلمان الإسلامي العالمي خطوطا عريضة لسياسة بلادهم وتعاونهم معا، حتى يحين موعد اجتماعهم القادم، يجتمعون خاشعين، ولكن أقوياء، متجردين من المطامع عاملين مستضعفين لله، ولكن أشداء على مشاكلهم وأعدائهم، حالمين بحياة أخرى. ولكن مؤمنين أن لهم مكانا تحت الشمس يتعين عليهم احتلاله في هذه الحياة”. (4)
وكما نرى أن الأساس لديه كان: الترجمة الحركية لانعكاسات العبادات والعقيدة على سلوك الناس وعلى أداة تغير المجتمع.
في فلسفة الثورة يتحدث أيضا عن الدوائر الثلاث العربية والإسلامية والإفريقية، المهم بالنسبة لبحثنا أن الدائرة الإسلامية مشتركة تجتمع حول “العقيدة والتاريخ والجغرافيا وترتبط بمصالح”.
المسألة الدينية عند عبد الناصر، إذن هي قضية فطرية، حيث الإسلام هو دين الفطرة، وإننا نرى ذلك من خلال دراستنا لشخصيته ولسلوكياته وألفاظه، حيث نرى قضية التسليم لله، والإيمان به تظهر في الكثير من خطبه بشكل طبيعي ومبسط، فـ “باسم الله” و”الحمد الله” كانت من الألفاظ المتكررة في خطبه وأحاديثه وأقواله.
سأله صحفي أجنبي مرة: ماذا يعني الله بالنسبة إليك، أجابه ببساطة: إني أعمل هذا العمل، لأن الله يرضى عنه، ولا آتيه لأنه لا يقبل به. (5)
وعندما يتحدث عن سيدنا محمد (ﷺ)، فإننا نجد أنه يبرز جوانب محددة تعتبر أساسية جدا بالنسبة له، فهو يقول: “كان محمد عليه السلام، نقي السر والعلن، طهور الظاهر والباطن، لا يوجد بين جنباته الخاصة والعامة حجاب، فسيرته في نفسه، وفي بيته، كسيرته بين الناس، ودعوته التي يعرض على الناس أصولها، كان أول الناس احتكاما إليها، وأخذا بها”. (6)
إذاً من أبرز ما في شخصية سيدنا محمد في رأي عبد الناصر هو الصدق مع الذات، وفي حديث آخر يقول: “أيها العرب أيها المسلمون أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، بأن تكونوا يدا على من عاداكم، مسالمين لمن سالمكم، لا تفرقوا ولا تهنوا فأنتم الأعلون، وليست هذه العبارة ألفظها من الشفاه، أو يرددها اللسان، ولكنها نابعة من قلبي المؤمن إيمانا عميقا بدعوة الإسلام التي هي دعوة القوة والسلام”. ويختم كلمته “ليس يكفيني أني بلغت وأشهدت الله على أني بلغت، ولكني سأسعى ما حييت بكل ما فيً من جهد وعزم وإيمان، لتصبح هذه الدعوة حقيقة لا ريب فيها والله على ما أقول شهيد”.(7)
ذلك هو الإسلام الفطري، اسلام عبد الناصر الفطري:
** في التطبيق السلوكي على المستوى الشخصي كان عبد الناصر – كما هو معروف عنه – متمسكا بشعائر الدين سواء في العبادات أو في الامتناع عن المحرمات من جنس وخمره وغيرهما.
** وعلى مستوى التطبيق العام قائمة الإنجازات في هذا المضمار كبيرة جدا.
في عهده تضاعف عدد المساجد فأصبح /۲۱/ ألف مسجدا، بدلا من /١١/ ألف مسجد.
وفي عهده أصبح التعليم الديني “مادة الدين” إجباريا في كافة المدارس.
وفي عهده انتشرت البعوث الإسلامية إلى أسيا وإفريقيا وتطور الأزهر الشريف،
وفي عهده حرمت ألعاب القمار والميسر ونفذت عقوبات ضد عدم احترام شعائر الصيام في رمضان.
أما الجانب الأهم، فيتعلق بطبيعة النظام السياسي والاجتماعي الذي أقامته ثورة يوليو، وعلاقته بالإسلام.
جوهر النظام الاجتماعي الذي دعا إليه عبد الناصر، وعمل من أجله هو العدل الاجتماعي، والتقدم، والتحرر، أي عمران الأرض التي استخلف الله عليها الإنسان، وتحقيق العدل بين عباده، نقول هذا بعيدا عن بعض خلافات التطبيق التي تفرضها الممارسة، والقابلة للاجتهاد والتطوير والخلاف أيضا.
وإذا أدركنا أن مسألة الحكم في الإسلام، والحكم الذي نقصده هنا ينصب على مسألة السلطة السياسية، تحكمه قاعدتين:
الأولى: أن “السلطة” أي “الأمر” هي مستمدة من المسلمين، أي من الناس، ومصدرها الشرعي: قوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) صدق الله العظيم. وقول رسول الله (ما رأه المسلمون حسنا فهو حسن)، وقوله أيضا (انتم أعلم بشؤون دنياكم) .
الثانية: أن العدل هو جوهر المشروعية، يقول الفقهاء “حيث العدل ثمة شرع الله”، ويقول الفقيه ابن تيمية: “إن الحرام في الشرع ما هو ضار دائما أو غالبا، وإن الواجب هو ما كان نافعا دائما أو غالبا”. ويقول ابن الجوزي: الشريعة مبناها وأساسها على الحكم في مصالح العباد في المعاش والمعاد”.
إن إدراكنا هاتين القاعدتين يعني أن النظام الاجتماعي الذي يستند إلى موافقة المسلمين إجماعا أو أغلبية، ويحقق العدل بينهم، هو نظام شرعي إسلامي، ويحقق مقولة أن “الإسلام دين ودولة”، مالم يصطدم مع نص من القرآن أو السنة الثابتة، لا يقبل تأويلا، على أن يكون واضحا أن النص بحد ذاته يجب أن يكون قاطعا، حيث يقول الأستاذ الشيخ خالص الجابري وهو أحد أركان إحدى الجماعات الأصولية عن الفرق بين النص وتفسيراته: إن النص بذاته لا ينطق، بل ينطقه الناس، وهذا يعني بكلمة أخرى ليس النص بل فهم الشخص من هذا النص. وهذا الفهم بدوره خاضع لمتحولات أو عوامل مختلفة منها اللغوية البينية الثقافية. التاريخية .. الخ…
الشيء الهام أن النص بهذا الشكل يُبقي لكل فريق أو اتجاه مفهوما خاصا يتعلق بالتثقيف الخلفي الذي يحمله التيار أو الاتجاه… أي أن السلفي له قرآنه وسنته وفق فهمه الخاص ، والصوفي له قرآنه وسنته، والمنظم في حزب التحرير الإسلامي له قرآنه وسنته، والوهابي له قرآنه وسنته، والعضو في الإخوان المسلمين له قرآنه وسنته، وهكذا. (8)
قراءة ((سلفية)) خاطئة ومواقف منحرفة
رغم ذلك الوضوح في مواقف عبد الناصر من الإسلام، فقد وجدت قوى ناصبته العداء على قاعدة الإسلام ذاته، وكان من الممكن أن يبقى هذا العداء مجرد وقائع في السياق التاريخي للحركة السياسية “لمنظمات إسلامية”، لكنه بدل من ذلك أخذ يتكرس في تأويلات نظرية، واجتهادات فكرية، أدت في مآلها إلى تشويه الإسلام ذاته، وتحولت تلك الاجتهادات الى أداة للإرهاب الفكري حينا، والجسدي أحيانا أخرى.
فاختلط الجهاد بالإرهاب، وضاع التسامح والدعوة بالموعظة الحسنة، وتحول المسلمون في عرف هؤلاء إلى جهلة ومرتدين، وأصبحت ديار الإسلام أرض كفر بواح، وازداد الغلو والتعصب فشمل التكفير ليس فقط المجتمعات، بل الجماعات والتنظيمات “الإسلامية المتناحرة فيما بينها، على قاعدة أن كل فئة أو جماعة هي “الجماعة الناجية من النار”.
واليوم ورغم مرور زمن ليس بالقصير على غياب عبد الناصر ونظامه، فإن بعض القوى الإسلامية ما تزال رافضة أن تقرأ تاريخها، وتاريخ صدامها مع الحركة الناصرية، على نحو صحيح استنادا إلى الوقائع الثابتة، كذلك تغض الطرف عن الملابسات التي أدت بها -خلال مرحلة معينة- لتكون مطية للسلطات الديكتاتورية المتعاملة مع العدو الصهيوني والغرب الاستعماري. (9)
بل على العكس من ذلك، فإن أدبياتها لا تزال تحمل الكثير من آثار تلك المرحلة، وهي تؤسس لحركتها المستقبلية على تلك المفاهيم والممارسات الخاطئة.
هذه الحالة تستوجب منا الإمساك بأصول المفاهيم التي حولتها تلك القوى إلى ثوابت فقهية لديها، وهي تحاول تعميمها على المجتمع، ونحن نقوم بذلك من أجل إصلاح تلك المفاهيم وإيجاد القواسم التي يلتقي عليها المسلمون.
في مقدمة تلك المفاهيم:
1ـ مفهوم الحاكمية والحكم:
الحكم في الفقه الإسلامي، وهو ما عرف أوما أطلق عليه تسمية “الأمر”، حيث يقول الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [ النساء: 59].
وحيث أطلق الخليفة عمر بن الخطاب على نفسه لقب أمير المؤمنين… أما عن مصدر مشروعية هذه الإمارة، فهي عند أهل السنة والجماعة، وغيرهم من الفئات والمذاهب الإسلامية ما عدا الشيعة، تستمد من جماعة المسلمين، أي الأمة بالتعريف الحالي.
والإمارة أو الحكم حسب التعريف الحالي، شأن حياتي ليس له قواعد في القرآن أو السنة، ما عدا تلك القاعدة العامة “وأمرهم شورى بينهم”. فقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه، ولم يتطرق إلى مسألة خلافته، ولا إلى شكل السلطة من بعده، رغم أن الله أكمل رسالته، حيث أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أكمل الدين، وختم الرسالة في خطبة الوداع الشهيرة، وقد جاء في قول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿…. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة المائدة – الآية 3]
وإذا كانت المسألة غير ذلك، فكيف لنا أن نفسر الصراع الدامي على السلطة بين صحابة رسول الله وأتباعه وتابعيهم، وبعضهم مبشرون بالجنة.
وإذا عدنا إلى اجتماع “سقيفة بني ساعدة” الذي تم فيه اختيار الخليفة الأول لرسول الله، فالذي نجده أن حوار الصحابة انطلق من العقل والمنطق، حيث يعرض الأنصار تقاسم السلطة، “منا أمير ومنكم أمير”، فيرد عليهم عمر بن الخطاب: {ما اجتمع سيفان في قرن (أي في غمد)}، وتبريرا لاختيار الخليفة من قريش يناقش عمر ومعه أبو عبيدة بن الجراح بمكانة قريش بين العرب، ويتم التوافق على هذه القاعدة، في كل هذا الحوار لم ينطلق عمر وباقي المجتمعين من القرآن والسنة، وإنما من المصلحة مصلحة المسلمين وحدهم. (10)
أما ما يطرح الآن من آيات قرآنية، وفي مقدمتها آية ﴿ … وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [سورة المائدة –الآية 44]، فقد استقر الاجتهاد على أن “الحكم هنا يعني القضاء”، وكذا في الآية: ﴿ … إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ … ﴾ [سورة الأنعام – الآية 57، ويوسف /40 ، 67]. (11)
العنف والتكـفير:
يقول سيد قطب، التي تستند إليه ثقافة معظم الجماعات الأصولية الحديثة، في كتابه الشهير “معالم في الطريق”: “نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم عاداتهم وتقاليدهم موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم شرائعهم قوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرا إسلاميا، هو كذلك من صنع هذه الجاهلية” . (12)
ويتابع سيد قطب مفهومه، ويدخل تحت عنوان المجتمع الجاهلي أيضا كل تلك المجتمعات الإسلامية أرضها وديارها وأسماءها، وأخيرا يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم أنها مسلمة (13)، ويقول أيضا وجود الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة (14).
إذا المجتمع “كافر وجاهلي” حسب اعتقاد هذه المجموعات، والجاهلية هنا هي ليست الجاهلية السابقة، وإنما هي ارتداد عن الإسلام، والارتداد في الشريعة يؤدي إلى هدر دم المرتد شرعا، ومع بعض الفتاوى التي تجيز للمسلم ـ أي مسلم ـ أن ينفذ بيده الحد، وخصوصا في حال عدم وجود إمام للمسلمين (15) ، تختلط الأمور وتضيع الفوارق بين الجهاد لنشر الدعوة، وبين الإرهاب
ومن المؤسف أن العنف أو الجهاد الذي تطرحه هذه الجماعات لم ينصب على العدو الخارجي إلا نادرا، وفي ظروف معينة قصد بها التدريب والتغطية دون أن يصبح سياسة عامة.
حيث يقول أحد قادتهم: “لا يمكن أن يقوم جهاد على أرض الحرب (ميدان القتال الخارجي) بدون تصفية الكافرين (أي الأعداء الداخليين)، وتوحيد المسلمين وإيجاد أمامهم، ثم لأن جهاد العدو القريب أولي من جهاد العدو البعيد” (16).
إن هذا يفسر عدم تنفيذ أي عملية ضد الصهاينة المتواجدين في مصر، وانصراف هذه العمليات ضد حرس المخافر، ورواد المقاهي، على عكس ما قامت به “منظمة ثورة مصر الناصرية”. ويفسر أيضا التحالفات التي تمت مع العدو الخارجي (الغرب)، ضد العدو الداخلي (نظام عبد الناصر).
ولكن ما مدى مشروعية هذا الاتجاه ..؟
يقول رسول الله: ” من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه ” / أخرجه مسلم….. ويقول أيضا “كل المسلم علي المسلم حرام دمه وماله وعرضه” / أخرجه مسلم.
وفي رواية عن أسامة بن زيد – من كتاب الإيمان باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله – قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فأدركت رجلا في المعركة فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أقال لا إله إلا الله وقتلته؟» قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟».
واختم هذه الفقرة بقول الإمام أبو حامد الغزالي: ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة، أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد (17).
الموقف من القومية
يقول سيد قطب: “إن القومية، والقومية العربية بخاصة، أحد الأصنام والطواغيت، مثلها مثل الاشتراكية، والوطنية، لا بد من تحطيمها حتى نخلص للتوحيد، والعبودية لله”(18).
ومن المؤسف أن هذه العبارات أضحت تتوارد على لسان الكثيرين من الذين يقولون إنهم علماء دين، ومشايخ، ومنظرون إسلاميون، فهل هي كذلك؟
سأذكر آية، وأحاديث نبوية، ومطالعات اجتهادية لفقهاء مسلمين، ثم فقرات من أقوال لمؤسسي كبرى التنظيمات الأصولية، لتكون هي الحكم بين أصحاب هذه الفكرة ومعارضيهم.
قال الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [سورة الحجرات – الآية 13].
ومن أحاديث الرسول (ﷺ) روى الإمام أحمد أن امرأة من بيت الرسول (ﷺ) أخبرته أنها سمعت من يقول:
“إن محمدا مثل الريحانة في وسط النتن”، فخرج صلوات الله عليه، يعرف الغضب في وجهه، ثم صعد المنبر فقال: من أنا، قالوا: أنت رسول الله، قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فاختار بني ادم، واختار من بني آدم العرب، فأنا خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضى أبغضهم. وقد وردت صيغ عديدة لهذا الحديث يمكن تتبعها في كتب الحديث، وكذلك في كتاب “ابن تيمية الفقيه المعذب” لعبد الرحمن الشرقاوي.
وقال رسول الله (ﷺ): “إذا ذلت العرب ذل الإسلام”. وروى أحمد وابن ماجه حديثاً في نصه ” يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه، قال: لا، ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم”.
ولا تتوقف أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن على هذه النصوص، وإنما ترى حضا مستمرا على التعاطف مع ذوي القربى والرحم، حيث “الأقربون أولى بالمعروف” الخ…
** قال الشيخ الفقيه عبد الحميد بن باديس (19): “لا يستطيع أن ينفع الناس من أهمل أمر نفسه فعناية المرء بنفسه عقلا وروحا وبدنا لازمة له ليكون ذا اثر نافع في الناس… ومثل هذا كل شعب من شعوب البشر.. وإنما ينفع المجتمع الإنساني، ويؤثر في سيرته، من كان من الشعوب قد شعر بنفسه، فنظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله… هذا هو رسول الإنسانية ورجل القومية العربية… هذا هو رسول الإنسانية ورجل الأمة العربية الذي نهتدي بهديه وتخدم القومية العربية”.
** وقال حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين: “وحدة العرب أمر لا بد منه لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية، وتأييدها ومناصرتها” .وقال أيضا: “ونحن وطنيون كلنا، لا نقف عند حدود. وادي النيل جزء من أمة تمتد من الخليج إلى المحيط، والعصر لم يعد عصر الكيانات الصغيرة…. ونحن مع الوحدة الإسلامية لا بمعنى الدولة الواحدة آنيا بل مع التضامن واللقاء في المؤتمرات والتفاعل الفكري، وعندما يصبح لنا برلمان إسلامي، ومنظمات إسلامية، تأتي الخلافة رمزا … فالعروبة والقومية العربية هي السبيل للإحياء الإسلام (20) .
** وقال د. مصطفى السباعي مؤسس حركة الإخوان المسلمين في سورية ولبنان: “نحن السوريون دعاة وحدة عربية، ونعتبر أنفسنا جزءا من الأمة العربية”، ويتابع “لكن العرب لم يجدوا في الإسلام ديناً غريبا عنهم بل هم يؤمنون بأن قوميتهم العربية لم تولد إلا في أحضان الإسلام” (21) .
إن الإشكالية التي وضع سيد قطب وتلامذته أنفسهم فيها، تأتي من اعتماد اختيار تفسير للقومية بمعنى العنصرية أو العصبية العنصرية بشكل أدق، وهو تفسير مغلوط لم يقل به إلا قلة في عصر سابق، ولم يقل به أي قومي عربي في موقع فكري أو سياسي مؤثر.
القوميون عموما، والقوميون العرب خصوصاً، أكدوا أن القومية تقوم على اللغة أساسا والتاريخ، والعادات والتقاليد، والآمال والمصالح المشتركة … الخ” (22).
واللغة كعامل أساسي للقومية اعتمدها الإسلام، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “من تكلم العربية فهو عربي”. والتاريخ العربي هو تاريخ إسلامي في قسم أساسي منه، وهناك تطابق في “التراث العربي / الإسلامي”.
أما الحديث بأن الإسلام يتحدث عن الأمة بمعنى أمة الإسلام، وأنه لا يعترف بغير ذلك من التقسيمات، فهذا أيضا تفسير مغلوط للمصطلحات الإسلامية، حيث تعبير “الأمة” في القرآن يأتي بمعنى الجماعة، مطلق الجماعة.
خاتمة
إذا كان حديث الإسلام ـ كما عرضناـ بينا واضحا لا لبس فيه، فلماذا هذا الجنوح لدى هذا التيار من الجماعات ..؟
اعتقد أن المسألة ليست جديدة في التاريخ الإسلامي، ففي صدر الإسلام ظهرت فرقة الخوارج الحرورية، وقامت هذه الفئة بالخروج على جماعة المسلمين، وأعملت السيف قتلا واغتيالا تحت ذات الشعارات التي ترفعها اليوم الكثير من “الجماعات السلفية”، ولم يكن أعضاء تلك الجماعة من المقصرين في العبادات، بل كان من بينهم الكثير من القراء، وكانوا يُعرفون بكثرة تعبدهم.
كَفًر الخوارجُ “علياً” كرم الله وجهه، ومعاوية بن سفيان، وكل من اتبعهما من المسلمين، وحتى أولئك الذين وقفوا خارج إطار الصراع الدائر بينهما، وكان شعارهم “الحكم لله” وأيضا قول الله تعالى ﴿ … وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [سورة المائدة – الآية 44، وأباحوا دماء المسلمين، واغتالوا قادتهم بمن فيهم سيدنا “علي”، واتجهت حروبهم نحو المسلمين، أما الكفار فهم أهل ذمة، روعيت بدقة الضمانات المعطاة لهم !!.
يقول الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف:
“الخوارج في فجر الإسلام كانوا من أشد الناس تمسكا بالشعائر التعبدية صياما وقياما وتلاوة القرآن، ولكن أُتُوا من فساد الفكر، وليس من فساد الضمير”. وينقل الكثير من فقهاء المسلمين قول رسول الله فيهم: “…يخرج قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون بخير قول البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، قال رسول الله (ﷺ): لئن أدركتهم لأقَتِّلنهم قتل عاد”.
إذن الأصل في المسألة هي جنوح في الفكر قاعدته المغالاة والتعصب رغم أن الإسلام دين يسر لا دين عسر، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا”.
المغالاة هي التزام التشدد دائما، مع قيام موجبات التيسير، وإلزام الآخرين به.
والتعصب قاعدته تفسير خاطئ للحديث النبوي “تفترق أمتي إلى بضع وسبعين شعبة كلهم في النار إلا واحدة”، حيث أن كل جماعة من تلك الجماعات اعتادت أن تعتبر نفسها الجماعة الناجية من النار، وأما غيرها فهي كلها في النار، مما يستوجب تكفيرها والتعامل معها على أساسه (23).
الجانب الآخر من المسألة أنه ما دار صراع في الإسلام، وجرت حوله الدماء، مثل الصراع على السلطة، واليوم تخرج المسألة في جوهرها وحقيقتها حول هذا الإطار، إطار الصراع على السلطة، وتأويل الشرع، ليكون سلاحا في هذا الصراع، بما يولده الشرع من عصبية في نفوس المؤمنين به، وما يفرضه هذا التعصب من جعل بعض بني البشر أوصياء على دين الله دون غيرهم من المؤمنين أو المسلمين، وهذا يخرج عن طبيعة الدعوة الإسلامية وعن حكم شريعة الله.
وأخيرا
في ظل عملية الصراع من أجل النهوض بالأمة، ومواجهة التحديات الكبيرة التي تحيط بنا اليوم، على القوميين العرب أن يعززوا نظرتهم إلى “قضية الإسلام” حتى يستطيعوا الثبات على الطريق الذي خطه عبد الناصر، وأن ينطلقوا منه في معركتهم لمواجهة المخاطر.
وهذا لا يتحقق إلا بتجسيد هذه القضية في سلوكهم، ومن المعروف انه لا معنى لإيمان لا يتجمد في السلوك، وفي المواقف اليومية، ولا يتحقق أيضا إلا باستخدامه كقيمة اجتماعية ومعيار لتقييم المواقف والقرارات، لتبرز فيه مقاصد الشرع في كل قضية وموقف.
إن هذا يدعونا للدفع من أجل تطوير الفكر الإسلامي، وعدم الوقوف عند أحكام تجاوزها الزمن بدعوى توقف الاجتهاد.
إن تحقيق هذا الفهم المتطور للإسلام، المتسلح بسلوك متفق معه، سوف يجعل من الناصريين “الأمة الوسطى” داخل كل مجتمع، والقوة التي تجد مع قوى المجتمع قواسم مشتركة، ما يمكنها من تجديد طاقات المجتمع، وتعميق قوة المقاومة فيه، بعيدا عن التعصب والتطرف والإرهاب الفردي.
يتبع: ملحق الحلقة العاشرة: -أسئلة وأجوبة عن الإسلام بين الناصرية والجماعات السلفية الأصولية
الهوامش
1 ـ جمال عبد الناصر ـ الميثاق الوطني
2 ـ المرجع السابق
3 ـ مخلص الصيادي ـ دعوة إلى المستقبل ـ ص45 ـ دار الجاحظ 1994
4 ـ جمال عبد الناصر ـ فلسفة الثورة
5 ـ جمال عبد الناصر ـ أحاديث وخطب
6 ـ المرجع السابق
7 ـ المرجع السابق
8 ـ خالص الجابري ـ في النقد الذاتي ـ ص234
9 ـ مخلص الصيادي ـ دعوة إلى المستقبلـ مرجع سابق ص 43
10 ـ راجع سيرة أبن هشام
11 ـ يراجع تفسير الطبري ، وغيره.
12 ـ سيد قطب ـ معالم في الطريق
13 ـ سيد قطب ـ في ظلال القرآن ـ ص8
14 ـ سيد قطب معالم في الطريق ـ ص 8
15 ـ محمد الغزالي ـ فتوى له نشرت في الصحف في شهادته خلال محاكمة قتلة فرج فودة
16 ـ سعيد حوى ـ جند الله ثقافة وأخلاقا
17 ـ الإمام أبو حامد الغزالي ـ التفرقة بين الإيمان والزندقة
18 ـ سيد قطب ـ معالم في الطريق
19 ـ فقرات من مقالة للشيخ بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر بعنوان “محمد صلى الله عليه وسلم رجل القومية العربية ” حزيران 1936
20 ـ حسن البنا ـ من مداخلة لمحمد عمارة في ندوة ” القومية العربية والإسلام” ص554
21 ـ مقاطع من بيان القاه الدكتور السباعي في مجلس النواب السوري
22 ـ عصمت سيف الدولة ـ العروبة والإسلام
23 ـ سيد قطب ـ معالم في الطريق ـ، وفيه يقول” إن هناك حزبا واحدا لله لا يتعدد، وأحزابا أخرى كلها للشيطان والطاغوت”.