معقل زهور عدي
في 15 أيلول 1919 وقبله بقليل وجهت بريطانيا وفرنسا الدعوة لفيصل لحضور اجتماع ثلاثي في باريس , ورغم الاهتمام الكبير للأمير فيصل بحضور ذلك الاجتماع لكن فرنسا حرصت على تأخير وصول فيصل لما بعد انتهاء الاجتماع وإعلان نتائجه التي نصت على اتفاق فرنسا وبريطانيا على أن تسحب بريطانيا كافة قواتها العسكرية من سورية وأن تحل القوات العسكرية الفرنسية مكانها على أن لاتدخل تلك القوات المدن الرئيسية السورية الأربعة دمشق وحمص وحماة وحلب والتي تظل القوات العسكرية العربية مكلفة فيها بحفظ الأمن والنظام إلى أن يصدر مؤتمر السلام العالمي قراره النهائي بخصوص سورية .
اصطدم فيصل بصدور ذلك القرار فتوجه إلى لندن لمناقشته مع رئيس الوزراء لويد جورج , لكن الأخير نصحه بالتفاوض مع فرنسة في إشارة لتخلي بريطانيا عن دعم المملكة السورية العربية لصالح السياسة الفرنسية . ومعنى ذلك أن الحكومة البريطانية قد توصلت خلال متابعتها الوثيقة للأوضاع السياسية في سورية أن الحركات الوطنية قد تمكنت من تطويق الأمير فيصل وبدلا من أن يتمكن من تطويعها لصالح السياسة البريطانية فقد أصبح رهينة عندها مما يهدد مشاريع الامبراطورية البريطانية في الأردن وفلسطين والعراق وقد ظهر مؤشر لذلك عندما قامت القوات العسكرية البريطانية أثناء انسحابها من سورية في 22 تشرين ثاني 1919 باعتقال رئيس مجلس االشورى الحربي ياسين الهاشمي المكافىء لوزير الدفاع بتهمة دعم الثوار ضد الجيش الفرنسي والتخطيط للمقاومة ودعم الثوار العراقيين ضد الجيش البريطاني ونقلته إلى سجن الرملة بفلسطين حيث بقي هناك قرابة ستة أشهر قبل إطلاق سراحه .
وخلال تلك الفترة أيضا كانت فرنسا وبريطانيا قد حلت الخلاف بينهما حول الموصل فمنحت فرنسا لبريطانيا السيطرة على الموصل ضمن منطقة نفوذها في العراق , وفي المقابل أطلقت بريطانيا يد فرنسا في سورية وبدلا عن تقييد النفوذ الفرنسي في المنطقة/أ /حسب سايكس بيكو بكونه منطقة لدولة عربية مستقلة بنفوذ فرنسي تم ضم تلك المنطقة ( الداخل السوري ) لمنطقة الساحل التي منحت فرنسا فيها سابقا الحق في السيطرة المباشرة التامة حسب سايكس بيكو ( منطقة اللون الأزرق ) أي أن سورية كلها بعد اتفاق 15 ايلول اصطبغت باللون الأزرق وأصبحت محمية خالصة للفرنسيين .
بعد أن تأكد فيصل من حقيقة الموقف البريطاني المستجد لم يبق له سوى مساومة الحكومة الفرنسية لتقبل بمملكته وعرشه السوري مقابل قبوله بالانتداب الفرنسي , وخلال لقائه كليمنصو حاول بكل جهده إقناع الأخير بحسن نواياه تجاه فرنسا وأن الدولة الفرنسية بإمكانها الإعتماد عليه كما اعتمدت عليه الدولة البريطانية خلال الفترة الطويلة السابقة , وبعد تردد وافق رئيس الوزراء كليمنصو على منح فيصل فرصة أخيرة لاثبات قدرته على احتواء المعارضة الشعبية الواسعة لفكرة الانتداب الفرنسي والتي وجدت مرتكزاتها السياسية في جمعية العربية الفتاة وحزبها حزب الاستقلال والمؤتمر السوري ولجان الأحياء والأحزاب الوطنية الأخرى .
اتفق فيصل وكليمنصو على معاهدة يعترف فيها فيصل مداورة بالانتداب الفرنسي مقابل أن يعترف فيها كليمنصو بالدولة السورية ( المملكة السورية العربية ) كما يعترف فيصل باستقلال لبنان تحت الانتداب الفرنسي , ويتم تجاهل فلسطين بصورة تامة . كما يبقى موضوع الساحل السوري معلقا لمرحلة قادمة .
نص اتفاقية فيصل – كليمنصو :
1 – تؤكد حكومة الجمهورية الفرنسية اعترافها للأهلين القاطنين في أرض سورية الناطقين بالعربية من كافة المذاهب أن يتحدوا ليحكموا أنفسهم بأنفسهم باعتبارهم أمة مستقلة .
2 – يعترف الأمير فيصل بأن السوريين لايستطيعون في الوقت الحاضر- نظرا لاختلال النظام الاجتماعي الناشىء عن الاضطهاد التركي وخسائر الحرب – أن يحققوا وحدتهم وينظموا إدارة الأمة دون مشورة ومعاونة أمة على أن تسجل تلك المشاركة من قبل جمعية الأمم عند تكونها فعلا , وباسم الشعب السوري يطلب هذه المهمة من فرنسا .
3 – تتعهد الحكومة الفرنسية بأن تمنح معاونتها للأمة السورية بجميع أنواعها , وأن تضمن استقلالها ضد كل تجاوز ضمن الحدود التي سيعترف بها مؤتمر السلم , وفي تعيين هذه الحدود ستبذل الحكومة الفرنسية جهدها لنيل جميع التعديلات الحقة من الوجهة الجنسية واللغوية والجغرافية .
4 – تعهد الأمير فيصل بطلب كافة المستشارين والمدربين حصرا من فرنسا , لتنظيم الإدارات المدنية والعسكرية , وسيأخذون تفويضهم وصلاحياتهم من الحكومة السورية , ويشترك المستشار المالي بوضع الميزانية , وله أن يفتش حصة سورية من الديون العمومية العثمانية .
5 – لفرنسا حق الأولوية في كافة المشروعات والقروض المحلية المخصصة لغير الوطنيين .
6 – قناصل فرنسا في الخارج يمثلون السوريين والقضية السورية .
7 – الاعتراف باستقلال لبنان تحت الانتداب الفرنسي .
8 – حكم ذاتي لدروز حوران .
يبقى الاتفاق سرا حتى عودة فيصل لباريس وعرضه على مؤتمر السلام .
وقع فيصل الاتفاق بالأحرف الأولى واستمهل كليمنصو حتى عودته لدمشق للتمكن من إقناع الحكومة والأحزاب السياسية والمؤتمر السوري وتحضير الرأي العام .
ماذا يعني هذا الاتفاق ؟
الاتفاق بمجمله هو تسليم بانتداب فرنسا على سورية بالرغم من أنه لم يذكر كلمة الانتداب لكن الشروط الموضوعة فيه تطابق مفهوم الانتداب وفق ماطرحه مؤتمر السلم في باريس فهو انتداب مرفق بتفسير تفصيلي , لكنه أكثر من ذلك فهو يفرض على سورية الاعتراف باستقلال لبنان بالحدود التي رسمتها فرنسا ( لبنان الكبير ) وبانتداب فرنسا عليه ( وهنا جاء الانتداب صريحا باللفظ ) , ولا يتطرق الاتفاق لحدود سورية بل يبقي تلك المسألة عائمة برسم قرار مؤتمر باريس مما يضع تلك الحدود بيد الدولتين فرنسا وبريطانيا المقررتين فعليا لجميع مخرجات المؤتمر , وقد تسبب ذلك لاحقا في فصل جنوب سورية ( الأردن وفلسطين ) كما لبنان واسكندرون وكيليكية عن سورية الطبيعية .
وأغرب مافي الاتفاق السابق موضوع الحكم الذاتي لدروز حوران فما دخل فرنسا بدروز حوران ؟ وكيف رضي الأمير فيصل أن يقحم دروز حوران باتفاق دولي مع فرنسا ؟
أما تمثيل سورية والسوريين في الخارج عن طريق القنصليات الفرنسية فهو ينفي وجود دولة معترف بها دوليا اسمها سورية ويؤكد حقيقة أن مايحاول الاتفاق تقريره ليس سوى الانتداب لكن بطريق المداورة .
يعطي الاتفاق للمستشار المالي الفرنسي صلاحية الاشتراك بوضع الموازنة العامة , كما يعطي لفرنسا الحق الحصري في تدريب الجيش وتنظيمه وذلك يكفي للإمساك بالدولة السورية ( الجيش والاقتصاد ) والهيمنة على مقدراتها هيمنة تامة فما الداعي بعد ذلك لذكر كلمة الانتداب وهل يغير شيئا عدم ذكرها .
وأخطر مافي الأمر أنه ينتزع اعترافا من الأمير فيصل بصفته ممثلا عن الشعب السوري بطلب الانتداب من فرنسا , بالتالي يمنح الشرعية الكاملة للإنتداب حتى دون تحديد مدة زمنية كما طالب المؤتمر السوري .
بالنسبة للحكومة الفرنسية يقدم الإتفاق الإعتراف بطلب الانتداب من قبل من يمثل الشعب السوري بالتالي يصبح تطبيق الانتداب شرعيا وينفى عنه أي صفة احتلال أو استعمار بالقوة , وذلك مهم للسياسة الفرنسية الداخلية والخارجية , وهكذا يتم توظيف الأمير فيصل ومن حوله لاحتواء الحركة الوطنية المناوئة للانتداب التي تعاظم نفوذها في سورية خلال الفترة الماضية , وتلك فائدة أخرى للسياسة الفرنسية , أما بالنسبة للأمير فيصل فالاتفاق هوأقل البدائل الممكنة سوءا بعد أن تخلت الولايات المتحدة تماما عن أي دور سياسي لها في المشرق العربي , ثم تخلت الدولة البريطانية التي كانت الراعية للعهد الفيصلي عن ذلك العهد لصالح فرنسا وتم إبلاغ ذلك بوضوح للأمير فيصل عند لقائه برئيس الوزراء البريطاني لويد جورج ” عليك التفاهم مع فرنسا ” فماذا بقي لفيصل سوى مفاوضة كليمنصو والاتفاق معه على الحل السياسي كبديل لاجتياح الجيش الفرنسي دمشق وإنهاء الدولة ؟
وفي ظل التوازنات الدولية وتخلي بريطانيا عن فيصل هل يمكن لفيصل الخروج من تلك المفاوضات بأفضل من ذلك الاتفاق ؟
كان هم فيصل الإبقاء على كيان الدولة وعرش دمشق ولو تحت الإنتداب الفرنسي , وذلك ما حصل عليه لاحقا في العراق تحت الوصاية البريطانية , لكن فرنسا ليست بريطانيا في تعاملها مع المستعمرات , وخلال الفترة السابقة كلها منذ دخلت جيوش الحلفاء دمشق في 1/10/1918 كانت الحكومة الفرنسية تنظر للحكومة العربية في دمشق ولفيصل أيضا بكثير من عدم الرضى , وكانت تعتبر فيصل رجل الدولة البريطانية التي تنافسها في المنطقة , وفوق ذلك فقد لمست بوضوح مدى عداء الحركة الوطنية السورية للسياسة الفرنسية مما تجسد في قرارات المؤتمر السوري العام بالرفض القطعي للانتداب الفرنسي .
من أجل ذلك لابد أن كليمنصو كان محقا حينما عبر لفيصل عقب الاتفاق مباشرة أن مثل ذلك الاتفاق فرصة لن تتكرر للعهد الفيصلي وأن أي رئيس وزراء آخر لفرنسا قد لايقبل به .
لكن ذلك لايعني تبرير موقف فيصل في قبوله لمثل ذلك الاتفاق , فمسؤوليته باقية في وضع بيضه كله في سلة الدولة البريطانية , والعمل كمنفذ لتلك السياسة ووكيل لها أكثر من كونه ملكا انتخبه الشعب السوري وأمنه على حريته واستقلاله ووحدته .
وهو قد أضاع فرصة تكوين جيش وطني بعد تسريح جيش الشمال العربي وتجريده من السلاح أولا . ثم الاستفادة من مئات الضباط العرب الذين وفدوا لدمشق بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى واعلان الحكم العربي بدمشق ثانيا ” نقل عن ضابطة الاستخبارات البريطانية غيرترود بل أن دمشق في 1918 كانت تضم أكثر من 300 ضابط عراقي ” عدا الضباط السوريين والفلسطينيين الذين امتلكوا الخبرة والعلوم العسكرية في المؤسسة العسكرية العثمانية العريقة .
كان لدى العهد الفيصلي فرصة تكوين جيش وطني قادر على الدفاع عن سورية وتكبيد الجيش الفرنسي خسائر لايستهان بها , يمكن أن تدفع الحكومة الفرنسية لمراجعة موقفها تجاه احتلال سورية.
فلماذا لم يهتم الأمير فيصل بتكوين الجيش الوطني ؟ لماذا جرد سورية من القوة العسكرية القادرة على صد هجوم الفرنسيين , والتي كان يمكن بواسطتها ردع الفرنسيين عن احتلال سورية ؟.
صحيح أن عقبات كثيرة كانت تقف بوجه مشروع كهذا منها التمويل وتأمين مصدر السلاح ..الخ لكن كل ذلك كان قابلا لايجاد الحل ولو بالحد ألأدنى . لكن التبعية للسياسة البريطانية كانت هي السبب الحاسم .
فبريطانيا لم تكن لتسمح بوجود قوة عسكرية تعيق تنفيذ مخطط تقاسم المشرق العربي بينها وبين فرنسا , لذلك وضعت خطا أحمر لفيصل بوجه تكوين مثل تلك القوة , وحين تجاوز رئيس مجلس الشورى الحربي والذي كان بمنزلة وزير الدفاع ياسين الهاشمي هذا الخط بمبادرة فردية منه وعمل على تجميع الأسلحة لمقاومة احتمال هجوم فرنسي قامت بريطانيا في 22 تشرين ثاني 1919 باعتقاله وسوقه لفلسطين حيث سجنته ستة أشهر .
يعترف فيصل في خطابه بقصره بتاريخ 28 أيار 1920 وبما يشبه زلة اللسان بالتقصير الكبير في إعداد الجيش السوري وتجهيزه حين يقول : ” بقينا سنة دون أن نتمكن من تنظيم وحدة للاستعراض ! بينما لم يمر شهران على قانون التجنيد حتى رأينا أن لنا جيشا ولو قليلا ” أما من هو المسؤول عن عدم الاهتمام ببناء الجيش منذ البداية ومن الذي أضاع كل هذا الوقت حتى بدأ بعملية بنائه تحت ضغط الحركة الوطنية فلم يكن سوى الأمير فيصل نفسه فهو الذي كان يمسك بالقرار السياسي .
ولماذا يتعب نفسه في إنشاء الجيش وهو الذي لم يفكر لحظة واحدة في مواجهة الفرنسيين , فبعد خروجه من دمشق وفي 11 أيلول 1920 كتب في رسالته إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا :
” لئن سافرت إلى باريس في شهر تشرين أول 1919 وعملت للمفاوضة مع الحكومة الفرنسية , وعدت إلى سورية لجعل الشعب هادئا , وأمنع مهاجمة الفرنسيين , عندما كانوا ضعفاء في سورية , ولم يكن لهم سوى حامية من ألف رجل ( ربما يقصد في المدن السورية الرئيسية الداخلية خاصة دمشق ) فما فعلت ذلك كله سوى كي أستطيع القول ذات يوم للدولة التي أعطتني كلمتها (يقصد وظفتني ) إني نفذت التعليمات التي تلقيتها منها بكل دقة وإخلاص .
فقد كانت الكتب الرسمية التي تصلني من اللورد اللنبي تصر علي ملحة أن لا أتخذ موقفا عدائيا من الفرنسيين , حتى إنني تلقيت برقية من اللورد كرزون قبل احتلال دمشق بثلاثة أيام يطلب إلي فيها بإلحاح أن لا أتخذ أي موقف عدائي , ولهذا كله لم أفكر قط في محاربة الفرنسيين ومقاومتهم الأمر الذي كان يجعل موقفهم في سورية صعبا للغاية لو أقدمت عليه …وكتبي التي أرسلتها الى الحكومة الانكليزية من باريس تبرهن على أنني كنت أرفض أن أخطو خطوة واحدة بدون استشارتها .” (من كتاب أمين سعيد الثورة العربية – الجزء الثاني) .
المصدر: صفحة معقل زهور عدي