تفتّحت مداركي في هذه الدنيا، على أن يوم (15 أيار) من كل عام، تقليداً فلسطينياً في عوالم لجوئنا، لأحياء ذكرى النكبة بأقل ما يمكن من التآسي، وأكثر ما يكون من تجديد العهد على التمسك بالبلاد التي ننتمي إليها، والتصميم على حقنا بالعودة إليها مهما طال الزمن. هكذا شهدتُ في مخيمات سورية التي عشت فيها، ولبنان التي عرفتها عن كثب، أشكال مختلفة من التفاعل الجمعي مع واقعة النكبة، من خلال مهرجانات خطابية، ومظاهرات حاشدة، وندوات سياسية وأدبية، وحفلات ومعارض فنية وغيرها، جميعها استقى من وحي المناسبة، حدثاً تاريخياً ووطنياً، لا خلاف حوله وعليه، في متن سردية صلبة ومتوارثة، حافظت على تفاصيلها الحيّة رغم غبار النسيان. لم يكن ما تناسل عن تلك النكبة التأسيسية من نكبات متنقلة على مدار محطات اللجوء، موضوعاً ذات أهمية أو دافعاً لمراجعات لا غنى عنها، تربط بين أسباب النكبة الأولى وما تلاها من نكبات متنقلة، وتجيب عن السؤال الحارق حول الصلة بين الإجرام الصهيوني، وأشكال العسف والظلم التي اختبرها اللاجئون الفلسطينيون في دول لجوئهم ..؟
كانت مثل تلك المراجعات تفرض جهداً فكرياً وتوعوياً، لفهم العلاقة الجدلية بين هوية الأطراف المسؤولة عن نكباتنا، والبحث فيها بكثير من التأمل واستخلاص الدروس والعبر، بل أن تجاهلها أو المواربة عليها، كان يفضي إلى إزاحة كل نكبة جديدة للنكبة التي سبقتها، وبقاء كل منها في مطاوي الذاكرة النازفة بلا توقف. ثمة تجارب مريرة في هذا السياق، كانت حصيلة انفصام بين وحدة قضية اللاجئين، واختلاف رؤى وسياسات التعامل معها، قبل أن يتحول هذا الانفصام بعد الوقائع التي انتجها اتفاق أوسلو بداية التسعينات، إلى تناقض كبير بين حقوق اللاجئين الوطنية والإنسانية، وتنصل ممثلهم الشرعي من مسؤولياته حيال أصحاب القضية، في مناخ عربي متمادي في إنكار تلك الحقوق. شكّل هذا الخلل الوطني والأخلاقي، تربة خصبة للفصل بين النكبة الأم، والنكبات التي تلتها، وصولاً إلى نزعها عن بعض البعض، وفق ما تمليه اعتبارات سياسية، تتساوق ومسارات بعثرة الكل الفلسطيني إلى أجزاء. ومن الأمثلة الصارخة على حصيلة تلك المسارات، ما حدث عشية احتلال العراق عام 2003، والضريبة الباهظة التي دفعها فلسطينيو العراق من قتل وتهجير جماعي، على يد الميليشيات الشيعية الحليفة لإيران في العراق، بذريعة اتهامهم بالولاء لحكم صدام حسين، ومع أن نسبة كبيرة منهم حاولت الهروب إلى سوريا، فمنعهم نظام الأسد من دخول” قلعة العروبة النابض”، ووضعهم في مخيمات على حدود البلدين، عانى ساكنوها من قيظ الصيف وبرد الشتاء في تلك المناطق الصحرواية. مع ذلك أذكر جيداً تجاهل الخطاب الفصائلي الفلسطيني في السنوات التي تلت، حول حقائق نكبة هذا الجزء الفلسطيني المنسي، والحديث الموارب عن مأساته الإنسانية، دون الخوض في هوية الجناة ومسؤوليتهم عن حدوثها. في الوقت الذي كانت مفوضية شؤون اللاجئين الدولية ( unhcer ) تعمل على إعادة توطينهم لبلد ثالث في المنافي البعيدة. مثل هذا الإنكار لنكبات أصحاب القضية والحامل الوطني والاجتماعي لها، لم يكن محض صدفة أو إهمال سياسي، بل هو من دلالات الانحطاط لدى القيادات والنخب الفصائلية، التي كانت تضع مصالحها بالتحالف مع الأنظمة العربية، أولوية على واجبها في كشف ومواجهة المسؤولين، عن نكبات اللاجئين في الدول العربية، وهي لا تقل فداحةً وضراوةً عن النكبة الأولى، التي عايشها أجدادهم وآباءهم على يد العصابات الصهيونية. مع ذلك بقيّ إحياء ذكرى النكبة عُرفاً سنوياً لإحالة الواقع المعاصر لأجيال النكبة، وتثبيته على خشبة جريمة الاقتلاع الأولى، وإذا كانت مثل هذه الإحالة ضرورية دائماً لأنها حقيقة تاريخية تأسيسية وفارقة، لكن استخدامها لطمس مسؤولية القيادات الفلسطينية والأنظمة العربية، عن تضييع حقوق اللاجئين والتنكر لها، هو بمثابة تستر على وقائع وحقائق كارثية، كان لها دوراً كبيراً في تحويل النكبة الأم إلى قدر لا فكاك منه. المدعو اليوم للغضب أكثر من مجرد استحضار رواية المنكوبين دون نقص أو تجزئة، هو في استمرار الصمت المشين عن دور النظام السوري وحلفائه، عن نكبة فلسطينيي سوريا، التي ومع أنها جزء اساسي من النكبة السورية الأكبر، فإن مشاركة فصائل فلسطينية موالية للنظام وإيران، وتواطئ بعضها الآخر في استكمال حلقاتها الجهنمية، يشكل في حقيقته الفصل الأخير من عملية الطرد والاقتلاع التي بدأتها “إسرائيل” قبل سبعين عاماً، والتي فرضت على ورثة النكبة الأولى في ذكراها اليوم، أن يلتحفوا خيام اللجوء في الشمال السوري، ضمن مخطط التهجير القسري، بعد تدمير مخيم اليرموك عن بكرة أبيه.
دون مراجعة نقدية عميقة لدور أنظمة التسلط العربية في تثبيت جريمة النكبة لأولى، وفي استنساخ نموذجها الصهيوني الفاشي في علاقة تلك الأنظمة مع الفلسطينيين ومع شعوبها – كما عليه المشهد السوري الدامي- سيبقى إحياء ذكرى النكبة تقليداً سنوياً، أكثر منه كفاحاً دؤوباً ومثمراً من أجل وعي شروط ومتطلبات الخلاص الحقيقي.
من هنا ندرك أن قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بالتزامن مع الذكرى السبعين للنكبة، هو محصلة لنكباتنا الفلسطينية والعربية، وتتويج لفشل تاريخي مزمن في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني، طالما يستمر تغييب الحرية والعدالة والديمقراطية عن حياة شعوبنا وأوطاننا. مع كل ذلك يأبى اللاجئون الفلسطينيون الاستسلام لهذه المعادلة المجحفة والظالمة، وما وقفات التحدي والعنفوان التي سطرها أهلنا الغزيين في مسيرات العودة، إلا تصميماً على إحياء رواية المنكوبين، ورفض تجاهلها وتغييبها، والإصرار المكين على حقهم بالعودة، وبقائه راسخاً ومشتعلاً بدمائهم الذكية..