أحمد مظهر سعدو
إبان العملية الفلسطينية النوعية التي جرت مؤخرًا، فيما أُطلق عليها بـ(طوفان الأقصى) فقد جاء الهجوم الإسرائيلي الأكثر عنفاً ودموية، واستفراداً بالشعب الفلسطيني المحاصر، لينتج كل ذلك عملاً عسكرياً همجياً لم يسبق أن تعرّض له أي شعب في التاريخ، إذ إن سياسة الأرض المحروقة المتّبعة كإستراتيجية عسكريتارية صهيونية منفلتة من كل عقال، وهي السياسة المتّبعة والمتحرّكة تباعاً وفصولاً منذ أيام، والتي خلّفت أعداداً كبيرة من الضحايا/الشهداء ودماراً كبيراً فاق كل التوقعات وسط صمت دولي وإقليمي مريب وغريب، مترافقة مع مواقف عربية رسمية غاية في الغرابة واللامبالاة، وهنا يتساوق الجميع وفق هذا المعطى وتلك المحددات، يتساوى الكل في حالة من الفرجة التي يمارسها الجميع أمام نهر غزير من الدم الفلسطيني مازال مسفوحاً، وبات فاقعاً وملفتاً وكاشفاً للعموم في نفس الآن .
صحيح أن حجم العملية الفلسطينية كان كبيراً ونوعياً وجديداً ويؤسس لمرحلة متجددة في التعاطي مع واقع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ولبعض الأراضي السورية في الجولان السوري المحتل، إلا أن الممارسة الإسرائيلية العنفية الإرهابية فاقت كل حد، وتخطت كل الحدود، بل وكل قواعد الاشتباك المتّبعة منذ فترة طويلة، من منطلق أن الإسرائيليين يدركون مدى واقع العجز العربي، وعدم قدرته عن القيام بأية عملية تحرّك جدّية تجاه الإسرائيليين، ولنجدة أهليهم في قطاع غزة وكذلك جملة تغيّرات إقليمية ودولية لم تعد تسمح للقضية الفلسطينية من أن تأخذ وضعها التحرّري والموقف المؤازر لها في العالم والإقليم، بعد اتفاقات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، وبعد حدوث الكثير من تفاهمات واتفاقات عربية إسرائيلية ساهمت في لجم السياسة العربية حتى عن مجرد التعاطف ورفض ما يجري للفلسطينيين من مقتلة مستمرة لأيام وأسابيع.. علاوة على حالات التطبيع التي ما برحت متحركة ببطء تحت الطاولة، وتحاول إنتاج اتفاقات كبيرة ومديدة، قد يكون المنتصر الوحيد فيها (فيما لو حصلت) إسرائيل، ومنح بعض الفتات للنظام الرسمي العربي المتهاوي والرخو، خاصة بعد حدث انزياحي وهو التفاهم السعودي مع الإيرانيين بتاريخ10 آذار/ مارس الفائت.
كل ذاك في أتون ومنحنيات القضية الفلسطينية ومتغيرات جيوسياسية في الواقع الفلسطيني، بعد وقبل أحداث التصعيد ضد قطاع غزة، إلا أن ما يشبهها ويتساوق معها كان حال محافظة إدلب التي باتت هي الأخرى شبيهة كل الشبه بما يجري في قطاع غزة من حجم القصف والقتل الممارس ضد أهلنا في محافظة إدلب والشمال السوري برمته، وكذلك حالة التخلي ثم الصمت المطبق الذي رافق هو الآخر حالة العدوان الأسدي على المدنيين في إدلب منذ حادثة الكلية الحربية في حمص والتي راح ضحيتها أكثر من 123 عنصراً، والتي كان قد نفذها النظام السوري مع داعميه الإيرانيين تمهيداً وتبريراً لما أقدموا عليه بعدها من قصف متواصل على المدنيين في جسر الشغور وأريحا وإدلب، ومعظم أنحاء ريف محافظة إدلب وريف حلب، خارج سيطرة النظام السوري ومليشياته وداعميه من فرس وروس.
الملفت حقاً في الحالتين الغزاوية والإدلبية هو حالة وجو الصمت وإشاحة الوجه عن كل ما يجري من سفك للدماء المهدورة، وتدمير للبنية التحتية بشكل كبير، وانفلات طغياني طاغوتي همجي كبير، حيث أضحى الكل منشغلاً في قضاياه الأخرى، إذ إن تركيا هي الآن منشغلة في شمال شرق سوريا ضمن حالة ضرب وقمع إرهاب الـ (ب ك ك) الذي سبق وقام بعمليتين إرهابيتين في العاصمة التركية أنقرة، دفعتا بآلة الحرب الجوية التركية إلى البدء بشن حرب استئصالية بالطيران المسيّر وسواه، من أجل تلقين الإرهاب وخاصة تنظيم الـ (ب ك ك) دروساً، أو الوصول بالتالي إلى تفاهمٍ ما معهم قد يبعدهم كلياً عن الحدود التركية، ويبدو أن الأميركان ليس من همومهم وقف الحرب ضد السوريين الواقعة يومياً من قبل نظام الأسد، وقد كانت سياستهم الدائمة تجاه نظام الأسد هي (تحسين سلوكه) كما قالوا، وليس كنسه أو انتزاعه من قصر المهاجرين بدمشق.
من هنا فإن حالة التشابه مثلاً بين الحالتين في غزة وكذلك في إدلب، من حيث استمرار أجواء الصمت والتخلي العربي والعالمي، وكذلك الاستفراد بالمدنيين بدون وجود سلاح قوي يحميهم وابتعاد كلي عن الوصول إلى حل سياسي مرضي للجميع، لا في سوريا ولا في غزة وفلسطين.
والإطلالة الموضوعية الاستشرافية التحليلية السياسية تشير وتستقرئ الواقع بالقول : إن الأيام القادمة قد تكون حبلى بالكثير من المتغيرات والانزياحات السياسية والإقليمية وكذلك العربية، وقد تكون هناك نتائج جديدة مغايرة للوقائع الظاهرة، وملفتة أيضاً، سيتركها ويعيد بناءها الوضع المتغير في قطاع غزة، وكذلك وضع محافظة إدلب الذي ما انفكّ يمارس بشعبه وقواه الموجودة الصمود الشعبي الممكن والمتاح، وهو يحاول بما امتلك رغم المطبّات والتشظي، التصدي ضمن وفي أتون هذه الإمكانات المتوفرة والمتواضعة رغم حالات التخلي العربي والمعولم ورغم استمرار وطول أمد سياسة إغلاق الأبواب، أو مجرد ترك بعضها موارباً بعض الشيء، أمام أي صيغة أو مخرج سياسي للقضية السورية بشكل عام، وفي ظل وجود معارضة متكلّسة وبائسة عسكرية وسياسية، حيث لاهمّ لها اليوم إلا المزيد من المناكفات والصراعات البينية والمحاصصة، وفصل من يودون فصله، من حيث إنه لم يعد يتوافق كلياً أو جزئياً مع سياساتهم ومحاصصاتهم، وصولاً إلى مهزلة اقتسام التركة، ولعل من آخر همومها أن يكون من مهامها البحث عن حلول ناجعة وممكنة، في سياق تحركات باتت ضرورية لها مع الدول التي كانت تسمى سابقاً محموعة دول أصدقاء الشعب السوري.
إذاً فإن النموذجين في غزة وإدلب يتشابهان في الألم، وفي المعالجة، وكذلك حالة الصمت والتخلي، وجملة الأمور والمعطيات التي تؤدي إلى هذا الفوات السياسي الكبير، الذي تقع طامته الكبرى على الناس الغلابة، وعلى المسحقوين والمقهورين، ضمن حالة هدر الإنسان العربي المستمرة في فلسطين وسورية.
المصدر: موقع تلفزيون أورينت