ديفيد روزن
ترجمة علاء الدين أبوزينة
مر الآن أكثر من ثلاثة أشهر على الهجوم الشرس الذي شنته حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وللأسف، لا يبدو أن هناك نهاية في الأفق. كان ذلك هجومًا مخططًا له جيدًا وتسبب فعليًا في الهجوم الإسرائيلي المروع والمستمر على غزة. وكما ذُكر كثيرًا، كان حوالي 1.200 إسرائيلي، الكثير منهم من الشباب، يتواجدون في حفل موسيقي. كما احتجزت حماس 240 آخرين كرهائن.
بعد وقت قصير من الهجوم، تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بحسرة قائلًا: “هذه الحرب فرضها علينا عدو حقير -فرضها متوحشون يحتفلون بقتل النساء والأطفال وكبار السن”. ثم أعلن: “هذه لحظة نضال حقيقي ضد أولئك الذين نهضوا ضدنا لتدميرنا. هدفنا هو الانتصار -انتصار ساحق على حماس، وإسقاط نظامها وإزالة تهديدها لدولة إسرائيل مرة واحدة وإلى الأبد”.
وفي 26 كانون الأول (ديسمبر) في اجتماع لحزب الليكود، قال نتنياهو إنه يعمل بنشاط على الترحيل العرقي للفلسطينيين من غزة. وقال: “العالم يناقش بالفعل إمكانيات الهجرة الطوعية”. مضيفًا: “لهذا أهمية استراتيجية لليوم التالي للحرب”. وذكرت صحيفة إسرائيلية أن مسؤولين حكوميين إسرائيليين يعكفون على إجراء مفاوضات مع رواندا وتشاد والكونغو بشأن احتمال استقبال “مهاجرين” فلسطينيين.
من المؤسف أن رد إسرائيل على هجوم حماس كان متوقعًا. وعلى نحو لا يفترق عما فعله الرئيس جورج دبليو بوش بعد الحادي عشر من أيول (سبتمبر)، ذهب الإسرائيليون إلى الحرب. وحتى كتابة هذه السطور، قُتل أكثر من 22.000 فلسطيني -نصفهم تقريبًا من النساء والأطفال- مما فاقم التشريد الكبير لأكثر من مليون فلسطيني. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 7.000 فلسطيني -معظمهم من النساء والأطفال- ما يزالون في عداد المفقودين. وبالإضافة إلى ذلك، لقي 506 من الأفراد العسكريين الإسرائيليين حتفهم.
واليوم لا يبدو “النصر” أقرب بأي حال مما كان عليه عندما بدأت إسرائيل هجومها المضاد. وكما كتبت لورا إي. آدكنز مؤخرًا في مجلة “ذا فوروارد”، فإن “إسرائيل، التي ما تزال تترنح منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، تركز بعقل واحد على هزيمة حماس. لكنها لن تفعل ذلك أبدًا ما لم تتمكن جميع الأطراف المعنية من تقديم رؤية مفعمة بالأمل لما سيأتي بعد ذلك”. وهي تحدد، مع آخرين، نتيجتين محتملتين للحرب الأكثر إثارة للنقاش على الإطلاق -حل الدولة الواحدة أو حل الدولتين. ولكن، ماذا لو كانت هذه النتائج المتصورة مجرد وهم، وأفضل تمثيل للأمنيات التي يستحيل تحقيقها؟ ماذا لو كان “النصر” ينطوي على شيء مختلف تماما؟
***
تتميز الحملة العسكرية الإسرائيلية الحالية بأنها محاولة لتحويل الأرض الفلسطينية المحتلة -التي تشمل قطاع غزة والضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية)- إلى ما يمكن تصوره على أفضل وجه على أنه “منطقة تركيز”.(1)
منذ تأسيسها قبل 75 عامًا، تحركت الحكومة الإسرائيلية بشكل منهجي نحو تحويل الأرض الفلسطينية المحتلة إلى منطقة تجميع تتقلص باستمرار. وقد انطوى ذلك على استراتيجية متكاملة ذات شقين (أ) الحد من عدد السكان الفلسطينيين من خلال حملة “تطهير عرقي”؛ و، (ب) تقليص الأراضي الفلسطينية إلى منطقة تصبح أصغر باطراد. ويبدو أن هذه الاستراتيجية ذات الشقين هي الدافع غير المعلن للمجهود الحربي الإسرائيلي الحالي في غزة -وتحديد ما يعنيه “النصر” حقًا.
يعيد معين رباني تاريخ بدء الجهود التي تبذلها إسرائيل لتقليص عدد السكان الفلسطينيين إلى ما قبل قيام دولة إسرائيل. وكما يلاحظ، فإنه:
“في وقت مبكر هو العام 1895، فسّر تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية المعاصرة، ضرورة إزالة سكان فلسطين بالعبارات التالية: ’سنحاول بث شعور لدى السكان بالإفلاس ودفعهم عبر الحدود من خلال توفير فرص عمل لهم في بلدان العبور، مع حرمانهم من أي عمل في بلدنا… يجب أن تتم مصادرة الأملاك وإزالة الفقراء وترحيلهم بتكتم وحذر‘”.
وفي أعقاب قيام دولة إسرائيل، حددت الأمم المتحدة المرحلة الأولى من “المصادرة والإزالة” الرسمية على أنها “نكبة”، وهو وصف يشير إلى التهجير الجماعي للفلسطينيين ونزع ملكيتهم خلال الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1948”.
ويَذكُر تقريرٌ لقناة الجزيرة: “بين العامين 1947 و1949، أصبح ما لا يقل عن 750.000 فلسطيني من أصل 1.9 مليون نسمة لاجئين خارج حدود الدولة”، ويضيف التقرير: “استولت القوات الصهيونية على أكثر من 78 في المائة من فلسطين التاريخية، وطهرت عرقيًا ودمرت حوالي 530 قرية ومدينة، وقتلت حوالي 15.000 فلسطيني في سلسلة من الفظائع الجماعية، بما في ذلك أكثر من 70 مجزرة”.
ووفقًا لإحدى الدراسات، فإن “النكبة جعلت قطاع غزة المكان الأكثر ازدحامًا في العالم”. وخلصت إلى ما يلي:
”في العام 1948، بلغت الكثافة السكانية في فلسطين التاريخية 73 فردًا لكل كيلومتر من العرب واليهود مقابل 389 فردًا لكل كيلومتر في العام 2007. وبلغت الكثافة السكانية في الأراضي الفلسطينية 625 فردًا لكل كيلومتر بواقع 415 فردًا لكل كيلومتر في الضفة الغربية، و3.881 فردًا لكل كيلومتر في قطاع غزة. وفي إسرائيل، من ناحية أخرى، بلغت الكثافة السكانية 317 فردًا لكل كيلومتر من العرب واليهود في العام 2007″.
وبعد عقدين، أعقب النكبة تركيزٌ ثان، هو “النكسة” التي أدت إلى المزيد من تقليص عدد سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة. وجاء ذلك نتيجة لحرب الأيام الستة التي خاضتها إسرائيل ضد مصر والأردن وسورية في العام 1967. وقد استولت إسرائيل فيها على الضفة الغربية وقطاع غزة، وفر على أثرها 300.000 فلسطيني آخرين، معظمهم إلى الأردن.
اعتبرت شخصيتان إسرائيليتان بارزتان ذلك خطوة حاسمة في عملية تحويل الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى منطقة تركيز. في العام 2003، وصف باروخ كيمرلينغ، عالم الاجتماع في الجامعة العبرية، غزة بأنها “أكبر معسكر اعتقال موجود على الإطلاق”. وفي العام 2004، قال مدير الأمن القومي الإسرائيلي، غيورا إيلاند، أن غزة هي “معسكر اعتقال ضخم”.
في العام 2018، وجد المجلس النرويجي للاجئين أن غزة هي “واحدة من أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان في العالم، حيث تبلغ كثافة سكانها أكثر من 5.000 نسمة لكل كيلومتر مربع. ومع أن قطاع غزة أصغر من مدينة أوسلو، فإنه يضم ثلاثة أضعاف عدد سكان الأخيرة”. ويقول تقرير المجلس: “يشير الكثيرون اليوم إلى قطاع غزة على أنه أكبر سجن في الهواء الطلق في العالم، حيث حارس السجن هو إسرائيل”.
كما جرت عملية تركيز مماثلة في الضفة الغربية. وقالت مجلة “ذا نيويوركر” مؤخرًا:
”سيكون هناك عدد من البانتوستانات الفلسطينية، على غرار غزة، في جميع أنحاء الضفة الغربية. وكل واحد من هذه الجيوب الفلسطينية محاصر بالفعل، وسيكون محاطًا تدريجيًا بهذا المزيج من التدابير: البنية التحتية الإسرائيلية مثل الطرق، أو القواعد العسكرية، أو الجدران، أو الأسيجة، أو المستوطنات وما إلى ذلك”.
سواء كان ذلك يحدث في غزة أو الضفة الغربية، كان هدف إسرائيل غير المعلن هو “تركيز” الأراضي الفلسطينية والسكان الفلسطينيين.
ووصفت فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة الخاصة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، الإجراء الإسرائيلي بأنه شكل من أشكال “التطهير العرقي”. وقالت: “لقد نفذت إسرائيل بالفعل تطهيرًا عرقيًا جماعيًا للفلسطينيين تحت ضباب الحرب”. وأضافت: “مرة أخرى، باسم الدفاع عن النفس، تسعى إسرائيل إلى تبرير ما يمكن أن يرقى إلى تطهير عرقي”.
***
تاريخيًا، تم القيام باحتواء الفلسطينيين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بطرق متعددة. وشملت هذه الطرق القيود المفروضة على الحركة من وإلى غزة والضفة الغربية؛ وفرض قيود على التنقل؛ وتقييد الوصول إلى المناطق الواقعة على بعد 300 متر من جانب غزة من السياج الحدودي مع إسرائيل؛ وتقييد الوصول في البحر قبالة ساحل غزة (على سبيل المثال، لا يستطيع الصيادون الوصول إلى أكثر من 50 بالمائة من المياه المخصصة للفلسطينيين بموجب اتفاقات أوسلو)؛ وفرض حصار دوري على المعابر المؤدية إلى غزة، ومنع تدفق الأشخاص (بما في ذلك الحالات الطبية) والسلع الأساسية (بما في ذلك المواد الغذائية).
ولترسيخ وضع غزة كمنطقة “مركزة”، قامت إسرائيل في كانون الأول (ديسمبر) 2021 بتطويقها بالكامل بجدار يبلغ ارتفاعه 20 قدمًا ويمتد لمسافة 40 ميلاً.
لعل أفظع أشكال التركيز هو الاعتقال والسجن. وتختلف التقديرات بشكل كبير فيما يتعلق بعدد الفلسطينيين الذين اعتقلوا منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). وقدرت قناة “الجزيرة” أن “أكثر من 5.000” قد اعتقلوا؛ وتتحدث محطة (بي. بي. أس) عن “أكثر من 2.000”.
كما تم توثيق حملة الاحتواء الإسرائيلية من خلال عمليات القصف المنهجي التي دمرت جزءًا كبيرًا من غزة. ويبدو من هذه الحملة أن لدى جيش الدفاع الإسرائيلي اثنين من “الأعداء” أو الأهداف -(أ) أهداف “محددة” و، (ب) أهداف “عامة”. وتشمل الأهداف المحددة مواقع مزعومة لقادة حماس ومواقع “عسكرية” مهمة غامضة أخرى. وتشمل الأهداف العامة العدد الهائل من المنازل غير العسكرية والمستشفيات والمدارس والمراكز الدينية والمزارع والطرق السريعة، وكذلك حياة الشوارع العادية. وبذلك، يكون كل فلسطيني عدوًا لجيش الدفاع الإسرائيلي.
كما هو موضح بإسهاب في صور الأقمار الصناعية التي حللها غامون فان دن هوك (جامعة ولاية أوريغون) وكوري شير (مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك) من “مجموعة مراقبة الأضرار اللامركزية” (DDMG)، فقد تضرر ما بين 41.3 بالمائة (118.000) إلى 51.3 بالمائة (147.700) من المباني في قطاع غزة حتى 34 كانون الأول (ديسمبر) 2023. ووفق جميع الاحتمالات، لم تعد نسبة جيدة من هذه المباني صالحة للسكن.
لا أحد يعرف متى ستنتهي الحرب رسميًا. وقد اعترف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال هرتسي هاليفي، بأن “لهذه الحرب أهداف ضرورية وليست سهلة التحقيق، وهي تُخاض في منطقة معقدة. ولذلك ستستمر الحرب لعدة أشهر أخرى…”.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لبرنامج “واجه الصحافة” في 12 تشرين الثاني (نوفمبر): “إذا كنتم تريدون السلام، دمروا حماس. إذا كنتم تريدون الأمن، دمروا حماس. إذا كنتم تريدون مستقبلاً لإسرائيل، للفلسطينيين، للشرق الأوسط، دمروا حماس”.
وأصر نتنياهو على أنه بمجرد انتهاء الحرب، سيبقى الجيش الإسرائيلي مسيطرًا على غزة. وقال أن إسرائيل ستتحمل “المسؤولية الأمنية الشاملة” على قطاع غزة. “ستبقى قوات الجيش الإسرائيلي مسيطرة على القطاع، ولن نعطي السيطرة لقوات دولية”. وبالإضافة إلى ذلك، أوضح نتنياهو، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، أنه “لا ينوي الاستقالة بعد انتهاء الحرب في غزة”.
السيطرة تؤشر على النصر. وتنطوي هذه السيطرة على زيادة “تركيز” السكان الفلسطينيين المتقلصين ومساحة الأراضي الصالحة للسكن. ومن المرجح أن تضطر إسرائيل إلى تأسيس وجود عسكري شبه دائم لـ”قوة احتلال” غير رسمية للحفاظ على “الأمن”. وهذا يفترض أيضًا، على سبيل المثال، أن الولايات المتحدة لن تبرم صفقة مع مصر لاستيعاب التهجير القسري لمليون فلسطيني أو لتهجير أولئك في الضفة الغربية إلى الأردن.
يعرّف قاموس أكسفورد الإنجليزي معسكر التركيز (الاعتقال) بأنه “مكان يتم فيه سجن أعداد كبيرة من الناس، وخاصة السجناء السياسيين أو أفراد الأقليات المضطهدة، عمدًا في منطقة صغيرة نسبيًا وبمرافق غير كافية، أحيانا لتوفير العمل القسري أو لانتظار الإعدام الجماعي”.
بينما تتكشف الحرب في غزة، ثمة حملة إسرائيلية لمصادرة الأراضي الفلسطينية وتقليص عدد السكان في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وسوف يساعد ذلك على زيادة تحويل قطاعات كبيرة من الأرض الفلسطينية المحتلة إلى “منطقة تركيز”. وللأسف، يتحول معسكر الاعتقال القديم إلى منطقة تركيز ما بعد حداثية بنسخة القرن الحادي والعشرين.
*ديفيد روزن David Rosen: مؤلف كتاب “الجنس، الخطيئة والتخريب: تحول محظورات نيويورك الخمسينيات إلى طبيعي أميركا الجديد” Sex, Sin & Subversion: The Transformation of 1950s New York’s Forbidden into America’s New Normal ، (سكاي هورس، 2015).
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Gaza: What Is Victory?
(1) تقيس “منطقة التركيز” كيفية توزيع السكان بالتساوي أو بشكل غير متساو. وتعني زيادة التركيز أن الناس يتواجدون بكثافة في مكان واحد داخل منطقة ما بدلاً من الانتشار بالتساوي في أنحاء المنطقة. ولذلك علاقة بـ”معسكر التركيز”، (معسكر الاعتقال)، حيث يتم تجميع أعداد كبيرة من الناس، ولا سيما السجناء السياسيين أو أفراد الأقليات المضطهدة، في منطقة صغيرة نسبيا كما هو مذكور في التعريف المعجمي أعلاه. وعادة ما تتم إحالة المفهوم إلى “معسكرات التركيز” في ألمانيا النازية وأوروبا المحتلة في الفترة بين العامين 1933 و1945، ومن بين أشهر هذه المراكز، داخاو، وبيلسن وأوشفيتز.
المصدر: الغد الأردنية/(كاونتربنش)
Thank you for your sharing. I am worried that I lack creative ideas. It is your article that makes me full of hope. Thank you. But, I have a question, can you help me?