دلال البزري
في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي قبل خمسة أيام من عملية طوفان الأقصى، وخوضه “معركة مشاغلة إسرائيل”، كان الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، يخطب في ذكرى المولد النبوي. وكان موضوعه اللاجئين السوريين في لبنان. سمّاهم “نازحين”، اعتبرهم “تهديداً وجودياً وأمنيا للبنان”، ودعا إلى “خطّة استراتيجية” لمعالجة “ملفّهم”، فكانت إشارة انطلاق لتجديد الحملة العنصرية على اللاجئين السوريين في لبنان، ذات الأرضية الجماهيرية الواسعة، والسوابق المعهودة، من أن الكهرباء والماء والرواتب التعليم البناء والأمن… إلى ما هنالك مما يشهدُه لبنان من آفات، كله وراءه السوريون في لبنان.
وكانت قد تكاثرت في هذا الوقت القريب جمعيات ومنظمات مختلفة التوجهات والطوائف، يكفي عنوانها لإخبارك عن مدى اندماجها بتعليمات الأمين العام والجو الجماهيري. منها مثلا: “الحملة الوطنية لمواجهة التوطين السوري”، أو “الحملة الوطنية لإعادة النازحين”، أو “الحملة الوطنية لتحرير لبنان من الاحتلال الديمغرافي السوري”…
هكذا، مدّ رئيس الوزراء، نجيب ميقاتي، يده يشحذ الأموال من الدول المقتدرة، دعما للبنان، لأنه “يتحمّل أعباء استضافة السوريين”. وهكذا أيضا، وفي خضم الحرب على غزّة، أعلن المدير العام للأمن العام عن تنظيم قافلة من النازحين عائدين إلى سورية. سوف يقدّم لها “التسهيلات والإعفاءات اللازمة” على المعابر الحدودية. والجميع يعلم، من القاصي إلى الداني، أن هذه “التسهيلات والإعفاءات” ليست سوى غطاء واه لقصرية هذه “العودات”، ومخاطرها على أصحابها.
وترافق هذا كله مع حوادث مألوفة، زائدة عن حدّها في معانيها، مثل مراكب الموت البحرية المحمّلة بسوريين، مع لبنانيين وفلسطينيين، التي لم تعُد تحصى؛ أو شريط أذاعته بفخر واحدة من المنظمات النشطة ضد “التوطين السوري”: شاب سوري، متَّهم بسرقة مكيّفات في جامع الخاشقجي: يُضرب بقبضات المارّة والفضوليين، يسْحله واحد منهم، ثم يدخل بالقوة في سيارة تابعة للشرطة…. والأشد عنفا: شريط آخر لأربعة نزلاء في سجن رومية، يلفّون حول رقابهم مشنقة، يهدّدون بالانتحار الجماعي في حال اتخذ قرار ترحيلهم إلى سورية… ذلك أن “العودة” إلى وطنهم ليست آمنة. الحاجز السوري الواقف على الحدود اللبنانية يبتلعهم، يختفون. نسمع نداءات كثيرين منهم، هربوا من جحيم وطنهم، لا يريدون العودة إلى سجونه وعتمته… إلى نزوح “داخلي” أكثر مرارة من النزوح اللبناني. فالذي حصل للسوريين، إثر ثورتهم على بشّار الأسد، يتجاوز بالأرقام ما يلاقيه الآن الفلسطينيون على يد إسرائيل: قُتِل نصف مليون منهم، بينهم اثنان وعشرون ألف طفل، ناهيك عن المدنيين والنساء. عشرات الآلاف قُتلوا تحت التعذيب. هُجِّر اثنا عشر مليون سوري من ديارهم: ستة ملايين منهم داخل سورية، وستة ملايين آخرون خارجها، موزّعون على الأراضي القريبة والبعيدة. السلاح الكيماوي، رغم “التسوية” بين أوباما وبوتين منذ عقد، استخدمه بشار اثنتين وثمانين مرّة إلخ.
بشّار الأسد بأجهزته، وشركائه الذين أصبحوا مضاربين، إيران ومليشياتها، والجيش الروسي… تفوّقوا في قتل السوريين وتدمير حيواتهم وعمرانهم واقتصادهم… إجراميا، بقوا فوق مستوى المعارضين لهم، من “داعش”، إلى قوات سورية الديمقراطية وهيئة تحرير الشام، وتركيا في عملياتها المتفرّقة، أو معركتها في عفرين… إذا جمعنا القتلى على أيدي هؤلاء، فلا يتجاوزون العشرة آلاف. نقطة في بحر الإجرام الأسدي، الروسي الإيراني، ولكن أيضا طاقة أخرى تضيف إلى اللائحة نوعاً آخر من جحيمية حياة السوريين.
يمرّ هذا كله بصمت. ورغم أن السوريين وطنيون عروبيون بجغرافيتهم وتاريخهم، فهم الآن يشعرون بحسرة. كيف يُسْكت عن جرائم نظامهم وحلفائه؟ وتكون كل هذه “الضجّة” لفلسطين؟ كيف يشعر العالم بفلسطين ولا يشعر بسورية؟ مع أن المظلومية في حالتهم تقارَن الآن بمظلومية الفلسطينيين؟
انظر إلى الصور الخارجة عن الموقعين، غزّة وسورية: الخراب العمراني نفسه، الأكفان والمقابر الجماعية، المقابر العشوائية، أطفال ونساء والرجال تحت الأنقاض، حصار ومجاعة، مجازر جماعية، أسلحة محظورة، جرائم فردية مروّعة يصوّرها مرتكبوها بفرحة المنتصرين، معتقلين عراة، في الشاحنات أو مختفين، أو عائدين جثثا مجهولة الاسم.
وبعضهم تصيبُه الدهشة: كيف أن الحزب الذي شارك بشّار بقتلهم على هذا النحو الصناعي، هو نفسُه الحزب الذي يقول إنه، بحربه في الجنوب، يساهم في تحرير فلسطين من إسرائيل؟ وكيف أن نظامهم الذي ربّاهم على المزيّة الفلسطينية و”صموده” أمام التطبيع ورعايته لمنظمات فلسطينية ولأصناف الأدبيات المؤيدة كلها لفلسطين… كيف له مثلاً أن يمنعهم من التظاهر من أجل غزّة، على الأقل مثل الحوثيين في اليمن، الممانعة الأخرى، أو يفتح الجبهة على الجولان، طالما دفع من دمهم ثمن “صموده” هذا بوجه إسرائيل؟ وطالما هذه الأخيرة تشنّ على أرضه غارات منتظمة؟
وتتحوّل الدهشة لدى أحدهم إلى حزّورة، عندما يستمع إلى حسن نصر الله في الخطاب نفسه (المذكور أعلاه)، يعلن أن المسؤول عن مأساة اللجوء السوري في لبنان هو أميركا، منْقِذة بشّار على أثر جريمته الكيماويه، وأنه إذا رفعت أميركا قانون قيصر عن سورية، عقابا على مذابح مخابراتها في سجونها، سوف يعود مئات الآلاف إلى بلدهم…
لماذا هذا التمييز بين القضيتين السورية والفلسطينية؟ ربما لأن قضية فلسطين قديمة: من حسنات هذا القِدَم، أن أصحابها باتوا على درجةٍ عاليةٍ من الخبرة في الصراع مع إسرائيل. أقصد بالخبرة هنا: العصب المشدود، والنضالية المتأصلة، اكتساب ثقافات عبرية وعالمية، وإرادة هوية وحياة. بتنظيمهم، في الشتات وفي الداخل، بفصائلهم المتصارعة، بشبكات الدعم بينهم، بفنونهم التأصيلية، برموزهم التي أصبحت ذائعة، بمجتمعهم، أفرادهم، شعائرهم، كتّابهم، مؤرّخيهم. شتات عمره ثلاثة أرباع القرن، بين القارّات الخمس. من بعضها، استطاعوا أن ينفذوا إلى العالم، يؤثروا في الرأي العام العالمي…. وكلها أنشطة صارت عريقة، جاء “طوفان الأقصى” ليعزّزها، يوثّقها، ويفتح مخيّلتها على أنواع مختلفة من التعبير والتأثير.
ربما لأن القتل السوري “شرعي”. أي أن “الحكومة” هي صاحبة المبادرة بالقتل وبطلب العون من الخارج ليكون قتلا ناجحا. وحجّة القتلى لا تسير هنا. إنهم سوريون ببعضهم. ماذا يخصّنا؟ كاد أوباما أن يقول وقت تبريره تراجعه عن “خطّه الأحمر” باستخدام بشّار السلاح الكيماوي. وأوباما هنا، يقود موقفا لم يبق زعيم عربي أو إسلامي أو غربي إلا وتبنّاه. فيما “العقوبات” الأميركية يتحجّج بها بشّار لاستمرار تفويض الروس والإيرانيين باحتلال بلاده ونهبها، مادّيا واستراتيجيا.
ربما: لأن قضية فلسطين مقدّسة. جامعة لعوالم شاسعة. عربية خصوصا. لا يتجرّأ حاكم عربي على الإفصاح عن عدائه لها، أو عن تلاعبه بها لنيْل حصّة من هنا أوهناك، فيما الحاكمان التركي والإيراني يتاجران بها على نحوٍ غير متساو. وكله يأتي مثل “تتويج” للمشاعر الفيّاضة المتجذّرة لدى العرب أفرادا، تجاه القضية الفلسطينية.
أما قضية السوريين، فما هي؟ إنها قضية طارئة على ذاكرة الجميع. إنها الديمقراطية. السوريون شاركوا في الربيع العربي. أرادوا أن يكون ثمّة انتخابات، حرّية رأي تعبير وكتابة، مشاركة في القرارات التي تعني يومياتهم ومستقبلهم، وما هنالك من أشكالٍ تعيد إليهم كرامتهم الإنسانية بعد عقود من العيش تحت رحمة التوريث والبوليس والسجون الخيالية وأشكال التعذيب والاختفاء والخطف.
أي بمعنى آخر: ليست الديمقراطية قضية لدى شعوبنا كما هي قضية فلسطين، والربيع العربي كان فاشلا. وثمّة التواءات نتجت من هذا الاختلال: أن كثيرين حرّضهم هذا الإهمال للقضية الديمقراطية، على إهمال القضية الفلسطينية بصفتها منافسة للديمقراطية. وبعض الأقلام اشتغلت على حبل هذا التحريض. والحال أن ما ينقص عالمنا اليوم هو هذا التوازن بين فلسطين والديمقراطية. أما لائحة فوائد هذا التوازن، فلا تنتهي…
المصدر: العربي الجديد