وقفت نخلةً أمام التنور ، يداها تدخلان فوهة التنور بمهارة ، وتخرجان بأرغفة الخبز ، بابتسامة لا تفارق وجهها المشتعل ، خاطبتها :
– ” العوافي ” .
– ماذا تريد بعد العوافي يا أستاذ ؟.
– لا شيء .
مدت يدها إلى رماد التنور ، وأخرجت بيضتين ، قشرتهما برشاقة ، وأمسكت بكمشة زبدة ، ووضعتها فوق رغيفين بدرين أمام بدر وجهها ، الذي يعكس ناراً تتراقص النار داخل التنور .
– تفضل هذه عروسك .
التف الطابور حول البرج الثاني أمام بقالية العقيد أبي ربيع ، ينتظر وصوله للبدء بتوزيع خبز المخبز الآلي : ربطة واحدةً للعامة وربطتين للخاصة .
تعبت من الوقوف ، لكن الحذر واجب ، فإذا انقطع الدور عندك ، فتمسي وتصبح بلا خبز .
نصف قرنٍ ونيفٍ قضيتها معارضاً ، ولم أخش يوماً الوقوف أمام المحققين ، أما اليوم وفي الحصار وبعيداً عن الحاجز ، أصبحت أداري معتمد الخبز ، وبائع الخضار الذي يسلمني كيساً لا أعرف ما فيه ، أغمض العينين عن تجاوزات ” رجال الثورة ” وصمتُ عن المجازر التي تعرضت لها الحدائق وتحولها إلى مقابر للشهداء .
تذكرت تلك النخلة أمام التنور برغيفي خبز التنوير والبيضتين وكمشة الزبدة .
– يا الله كيف سكنت هذه الحوادث ذاكرتي طيلة هذه السنين ، وأخذت تطل بوجهها اليوم سافرة …
أغلقت النخلة فوهة التنور ، خرجت من ” حوش ” الدار ، استلمت الدرب الترابي ، ومازالت العروس بيدها صرخت بي :
– امسكني وخذ عروسك .
– يا ابنة الحلال أريد العروس الصغيرة ، فهي تكفي للعشاء .
– اركض خلفي ، امسكني وخذ ما تشاء .
– لن أقبل العروس الصغيرة إن أمسكت بك .
– ماذا تريد ، ثم لوحت بجدائلها ، قرصة في الخاصرة أم في الخد..
– يا ابنة الحلال لقد أسقطتِ ما بينهما من فواكه أخرى …
صرخ العقيد أبو ربيع بوجهي :
– أنت لم تسجل اسمك عندي ؟.
– أنا جارك وعمري يفوق عمرك بعشرين عاماً .
– أنا أعترف على الدفتر ، فهمس من كان خلفي ، ثم علا صوت بعضهم : اخرج .
فوجئت قبل خروجي من الطابور بانتفاضة ربطة خبز ، طارت فوق الرؤوس ، فركضت خلفها ، وضعت ثمنها على الطاولة ، فربتت سيدة على كتفي :
– قدمت للثورة ثلاثة شهداء ، وها أنا أنتظر ثلاث ساعات لأحصل على ربطة خبز واحدة .
وصلت ربطة الخبز إلى الدرب الترابي ، فكانت النخلة تنتظرني ، والعروس بيدها تلوح بها :
– رغيفي تنور وبيضتين وكمشة زبدة .
اخترت الركض خلف ربطة خبز المخبز اللآلي ، بالرغم من معاشرتي لها بوجهها الأزرق والوجه الآخر المحروق …
– يا الله … ” مقتاية ” أفخاذ دجاج ، ” كرم بندورة ” ، نهر حليب يتصاعد بخاره ، ” بيادر ” من الكعك والحلويات ، ” حقل ” سمك ، فوقفت حائراً مما أشاهده .
أحب النظام والوقوف بالدور وبالطابور ، لكن أمام مبدع داخل مكتبة ، يوقع كتاباً جديداً في المكتبة ، أمام موسيقار يوقع اسطوانة جديدة ، أمام التبرع للدم لجرحى القذائف في مشفى الوليد وفي مشفى البر .
لن أقف بعد اليوم أمام معتمد خبز ، لن أمدُّ يدي إلى كيس خضار ومواد غذائية لا أعرف ما فيه ، لقد رفضت شاباً مشاريع خطبة لا أجالس الخطيبة فيها وأتحدث معها .
توقفت ربطة المخبز الآلي متعبة وخرجت منها أرغفتها ، فعافتها الطيور ، وبقي خيار الإمساك بتلك النخلة ، وأخذ العروس الصغيرة ، بلا قرص من الخاصرة ولا من الخد ، وعلى نسيان ما بينهما .
لم أجد صباحاً ربطة معتمد المخبز الآلي ، ولم أجد أثراً للنخلة وعروسها التي تضم بين جوانحها :
– رغيفي تنور وبيضتين وكمشة زبدة .
محمد عصام علوش رُوي أنَّ هذه العبارة وردت أوَّلَ ما وردت على لسان الشَّاعر أبي الفتح محمد بن محمود بن...
Read more