جميل مازن شقورة
نفّذت حركة حماس، ومجموعات أخرى من المقاومة الفلسطينية، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عمليات عسكرية هجومية متزامنة على مقارّ عسكرية إسرائيلية، وفي المستوطنات المحاذية لقطاع غزّة، واخترقت الحدود مهاجِمةً فرقة غزّة (فرقة في الجيش الإسرائيلي تعمل في قطاع غزّة). تبنّت الحركة هذه العمليات مرحلةً أولى من معركة أطلَقت عليها اسم طوفان الأقصى، إذ أعلنت أنّ الأهداف الرئيسية وراء هذه العمليات هي بداية “معركة التحرير” لإعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة كلّها، وبناء دولة فلسطينية بعد تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي، وذلك على لسان القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسّام، محمّد الضيف، في كلمة مُسجّلة بُثَّت صباح 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
بعد هذه الضربة، استعاد الجيش الإسرائيلي السيطرة على الحدود مع قطاع غزّة، بعد معارك عسكرية مع مقاتلي كتائب القسّام، وفصائل مقاومة أخرى، بعد ثلاثة أيام من “طوفان الأقصى”، ثمّ شنّت إسرائيل حرباً برّية وبحريةً وجوّيةً شرسةً على قطاع غزّة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت النقاشات تدور بشأن “اليوم التالي” للحرب، لكنّ هذه التحليلات كانت تقتصر على استعراض الرؤية الإسرائيلية لذلك اليوم، من دون الالتفات إلى أنّ هناك طرفاً آخرَ في هذه الحرب. يسعى هذا المقال إلى كشف رؤية حركة حماس لـ”اليوم التالي”، طرفاً فلسطينياً أساساً في الحرب، وبوصفها الجهة المسؤولة عن حكم قطاع غزّة في الـ17 عشر عاماً الماضية.
يُسلّط هذا المقال الضوء على سيناريوهات “اليوم التالي”، انطلاقاً من الأهداف التي وضعتها حركة حماس في 7 أكتوبر، ومجريات حرب الإبادة، جنباً إلى جنب مع الأهداف التي وضعتها إسرائيل لهذه الحرب التي تشنها على قطاع غزّة منذ حوالي عشرة أشهر. كما يناقش المقال جولات المفاوضات، التي أجريت بوساطة الولايات المتّحدة وقطر ومصر، بهدف التوصّل إلى وقفٍ لإطلاق النار دائمٍ، وتعكس الحرب في غزّة في خضم تلك المساعي مشهداً مُعقّداً من المفاوضات، الأمر الذي يفتح المجال لاستعراض تصوّر حركة حماس لـ”اليوم التالي” للحرب.
أهداف 7 أكتوبر والحالة التفاوضية
تمثلت أهداف حركة حماس في 7 أكتوبر في فكّ الحصار عن قطاع غزّة، وتوجيه ضربة استباقية لهجومٍ كانت تنوي إسرائيل شنّه بعد الأعياد اليهودية، بالإضافة إلى القضاء على فرقة غزّة، بوصفها الفرقة المسؤولة عن الحصار الواقع على القطاع، وتنفيذ عمليات الاغتيال فيه، بحسب ما أعلنه نائب المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، بالإضافة إلى ما أعلنه الناطق العسكري باسم كتائب القسّام، أبو عبيدة، في كلّمة مُصوّرة، أنّ عمليات 7 أكتوبر ترتبط “بأقدس قضيتَين”؛ المسجد الأقصى والأسرى.
في الجهة الأخرى، شنّ جيش الاحتلال عمليةً عسكريةً تحت اسم “السيوف الحديدية”، ووافق مجلس الوزراء الإسرائيلي على تشكيل حكومة طوارئ ومجلس حرب. وبدأت إسرائيل حملتها العسكرية جوّاً وبرّاً وبحراً على قطاع غزّة، بغرض القضاء على قدرات “حماس” العسكرية، واستعادة الأسرى أحياءً، واستعادة الأمن، وقوّة الردع الإسرائيليَّين.
عكست الحالة التفاوضية في غزّة، في مدى الأشهر الماضية، تعقيداتٍ وتحدّياتٍ كبيرةً في المستويين، الدولي والإقليمي. بدأت المفاوضات والمبادرات منذ أوائل أكتوبر 2023 بمحاولاتٍ مُتعدّدة للتوصّل إلى وقف إطلاق نار دائم في القطاع، وهو ما يمكن تقسيمه بين مرحلتَين: الأولى، المحاولات عبر المؤسّسات الدولية، ودورها في المساهمة في الضغط علي إسرائيل إلى حدّ ما. والثانية، عبر الوسطاء الإقليميين والدوليين (الولايات المتّحدة وقطر ومصر). وتالياً جدولٌ زمني للحالة التفاوضية في المستويَين:
في أكتوبر 2023، بدأت أولى المحاولات، فتقدّمت روسيا بمشروع قرار في مجلس الأمن، يهدف إلى وقف إنساني لإطلاق النار وقفاً فورياً ودائماً، لكنّ مشروع القرار لم يحصل على الأغلبية اللازمة، تلاه مشروع قرار برازيلي لإدخال مساعدات إنسانية، ولكنّه اصطدم ب”الفيتو” الأميركي. بعد المشروعيَن، تقدّم الأردن بمشروع قرار باسم المجموعة العربية في الجمعية العامة، يدعو إلى “هدنةٍ إنسانيةٍ فورية ودائمة ومستدامة، تفضي إلى وقف الأعمال العدائية، وتوفير السلع والخدمات الأساسية للمدنيين، في شتّى أنحاء غزّة، فوراً ومن دون عوائق”، واعتمدت الجمعية العامة القرار بعد حصوله على أغلبية بواقع 120 صوتاً، وهو ما يُعتَبر أوّل قرار دولي يُعتمَد، ينادي بوقف إطلاق النار.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، طلبت إسرائيل من سكّان شمال مدينة غزّة ووسطها النزوحَ نحو جنوب القطاع تمهيداً لدخولها البرّي، بغرض توجيه ضربات عسكرية لحركة حماس، وأعلنت الولايات المتّحدة موافقة إسرائيل على هدنٍ إنسانيةٍ في غزّة، وأعلن الجيش الإسرائيلي أنّها وقف تكتيكيّ لإطلاق النار أربع ساعات يومياً، بهدف السماح لسكّان القطاع بالنزوح جنوباً، ودخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع. تلا ذلك الإعلان اعتماد مجلس الأمن قراراً قدّمته مالطا، يدعو إلى إقامة هُدنٍ مستمرّة وممرّات إنسانية في كل أنحاء قطاع غزّة. كان هذا أول نجاح في الوصول إلى وقف إطلاق نار جزئي بعد الضغوط الدولية. بعد جهود الوسطاء جرى التوصل إلى اتفاق هدنة إنسانية مُؤقّتة، يهدف إلى إدخال المساعدات إلى قطاع غزّة. في المقابل، تسلّم حركة حماس أسرى مدنيين بحوزتها، في مقابل تحرير إسرائيل أسرى فلسطينيين من الأطفال والنساء المُحتجزين في سجونها. جرى الاتفاق على هدنةٍ لأربعة أيّام قابلة للتمديد بين الطرفَين، واستمرّت الهدنة أربعة أيّام، بالإضافة إلى تمديدها يومَين إضافيَّين (50 إسرائيلياً في مقابل 150 فلسطينياً).
في ديسمبر/ كانون الأول 2023، تقدّمت جنوب أفريقيا بدعوى ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة “الإبادة الجماعية”، كما تزامن ذلك مع أولى المُقترَحات التي وُضِعت أمام الطرفَين لوقفٍ دائمٍ لإطلاق النار، وهما مُقترَح قدّمه الوسيط القطري، ومُقترَح آخر عبر الوسيط المصري، ودعا اثناهما إلى وقفِ إطلاق النار شهراً أو أسابيع قليلة، وإطلاق سراح 40 إلى 50 أسيراً إسرائيلياً، على أن تنتقل المفاوضات إلى مرحلة ثانية أكثر تعقيداً، تشمل انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزّة جزئياً، والانتقال إلى المرحلة الثالثة من المفاوضات، والمتمثّلة في الوصول إلى صفقةِ تبادلٍ شاملةٍ بين الطرفَين، وإيقاف الأعمال القتالية. ولاحقاً، أصدرت الفصائل الفلسطينية بياناً تقول فيه إنّه لا اتفاقَ ولا تبادلَ أسرى من دون وقفٍ شاملٍ للعدوان على الشعب الفلسطيني.
في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط (2024)، طلبت محكمة العدل الدولية من إسرائيل القيام باتّخاذ “تدابيرَ مُؤقَّتةٍ” لضمان حماية المدنيين في قطاع غزّة، وقدّمت الجزائر مشروعَ قرارٍ “غير قابل للتعديل”، يُطالب بوقفٍ فوريٍّ لإطلاق النار في قطاع غزّة، لأسباب إنسانية. صوّت 13 عضواً لصالح المشروع، لكنّه أُسقط ب”الفيتو” الأميركي. بعد اجتماع باريس الأول، تمخّض عنه المُقترَح الثاني لاتفاق وقف إطلاق النار عبر الوسطاء، وهو الذي قوبل بردّ إيجابي من “حماس”، بحسب القيادي فيها، أسامة حمدان، الذي أضاف إنّ الحركة قدّمت ملاحظاتها بما يضمن وقف إطلاق النار الشامل والتامّ، وعاد لاحقاً ليصرح، في 12 فبراير/ شباط، إنّ الحركة وافقت على المُقترَح، إلّا أنّ الاحتلال تراجع عن مُقترَح باريس نفسه، ووضع شروطاً وعقبات تَعوق التوصّل إلى اتفاق، وأنّ ردّ الطرف الإسرائيلي لا يتناسب مع مطالب الحركة للموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار، ووصف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، المُقترَح بأنه “خيال”.
في مارس/ آذار 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية قراراً يطالب إسرائيل باتخاذ الإجراءات الضرورية والفعّالة لضمان دخول المساعدات الإنسانية، وتوفير الخدمات الأساسية لقطاع غزّة. لاحقاً، في الشهر نفسه، نجح مجلس الأمن باعتماد قرار يطالب بوقف إطلاق النار في غزّة خلال شهر رمضان، على أن يُفضي إلى وقفِ إطلاقِ نارٍ دائمٍ ومستدامٍ. تزامناً مع الدعوات إلى وقف إطلاق النار في شهر رمضان، عُقِد مُؤتمَر باريس الثاني، الذي أصدرت “حماس” لاحقاً تصريحاً صحافياً يتعلّق بالإطار الثاني للاتفاق، تقول فيه إنّها أبدت المرونة المطلوبة للتوصّل إلى اتفاق يُفضي إلى وقف شامل للحرب على قطاع غزّة، كما أكّد رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنيّة، رحمه الله، في كلمة ألقاها، إنّ الحركة تُفاوِض للتوصّل إلى اتفاق على أساس خمسة مبادئ: وقف إطلاق النار الشامل، والانسحاب الكامل لجيش الاحتلال من أراضي القطاع كلّها، وعودة النازحين بشكل كامل ومن دون شروط، وتأمين القضايا الإنسانية بما فيها من إغاثة وإيواء وإعمار، وإنهاء الحصار، ثمّ الوصول إلى صفقة مُشرِّفة بموجبها يُتبادل الأسرى. كما أعلن أنّ على الاتفاق أن يتمّ في ثلاث مراحل، وبضمانات دولية لإلزام الاحتلال به.
في إبريل/ نيسان 2024، بحسب مصدر خاص في حركة حماس، طرح مُقترَح وقف إطلاق النار في بداية الشهر، وهو في الأساس مُقترَح أميركي، تكفّل الوسيطان القطري والمصري تطويره مُقترَحاً لوقف إطلاق النار. لاحقاً، في 6 مايو/ أيّار، أبلغ إسماعيل هنيّة الوسطاءَ موافقة الحركة على المُقترَح المُقدّم منهم. لاحقاً فشل المُقترَح في أن يكون اتفاقاً لوقف إطلاق النار، بسبب رفض إسرائيل الانسحاب من قطاع غزّة، وأنّها تريد اتّفاقاً فضفاضاً يتيح لها العودة إلى الحرب بعد المرحلة الأولى من المُقترَح.
وكانت “حماس” قد أصدرت تصريحاً إنّ وفداً منها سيذهب إلى القاهرة لاستكمال المباحثات بناءً على المُقترَح الذي طُرِح عليهم في إبريل/ نيسان، وأنّها تُؤكّد تعاطيها مع المُقترَح بإيجابية. في هذه النقطة، قال المصدر الخاص إنّ إسرائيل ردّت على تعديلات “حماس” بتعديلات جديدة في 6 يونيو/ حزيران، ثمّ اعتُبرت هذه التعديلات ما عُرف لاحقاً بـ”مُقترَح بايدن”، وأنّه لا يوجد مُقترَح من بايدن في الأساس، وإنّما مبادئ وخطوط عامّة أعلنها الرئيس الأميركي في خطابه.
فشلت حتّى اللحظة الجهود التي يقوم بها الوسطاء (الأميركي والقطري والمصري)، بسبب عدم وجود أرضية مشتركة بين الطرفَين، وعدم جدّية الطرف الإسرائيلي في المحادثات، إذ تريد “حماس” صيغةَ اتّفاق شامل يضمن إيقاف الحرب على قطاع غزّة، وعودة النازحين، وإعادة الإعمار، وفكّ الحصار عن القطاع، وعقد صفقة تبادل. في المقابل، كانت إسرائيل تسعى في جولات المفاوضات كلّها إلى تخفيف العبء، والانقسام الداخلي، بسبب قضية الأسرى المحتجزين لدى حركة حماس والفصائل الأخرى، وكانت المساعي الإسرائيلية دائماً، المتمثّلة في شخص نتنياهو، ترمي إلى استعادة الأسرى الإسرائيليين من دون دفع ثمن باهظ متمثّل باتفاق لوقف إطلاق النار، والانسحاب من قطاع غزّة.
“اليوم التالي”
عند الحديث عادةً عن “اليوم التالي” للحرب، يتّجه الكتّاب والمحلّلون إلى تبنّي الرؤى الإسرائيلية أو سردها، واستعراض وجهة النظر الإسرائيلية. في المُقابل، هناك استعراض خجول، بل يكاد أن يكون معدوماً لشكل “اليوم التالي” كما تريده حركة حماس، وذلك لا يُقلّل من أهمية استعراض الخطط الإسرائيلية لذلك اليوم، وينطلق المقال هنا نحو تصوّرات حركة حماس، في محاولة بناءِ نظرةٍ استشرافيةٍ لما قد يحصل عند إعلان وقف إطلاق النار بين الطرفَين.
بالنسبة لإسرائيل، هناك حالة انقسام داخلي فيما يتعلق بـ”اليوم التالي”، ولديها ثلاث توجّهات. الأول يهدف إلى التركيز على الاستيطان في غزّة، وتهجير سكّانها، وهو ما يطمح اليه اليمين المُتطرّف ممثّلاً بالوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. وبالنسبة للتوجّه الثاني، تطالب إسرائيل بأن يكون هناك حرّية حركة عسكرية لها داخل قطاع غزّة من خلال إقامة منطقة عازلة، وبقاء الجيش في الحدود المتاخمة، ويتبنّى نتنياهو هذا التوجّه. أمّا التوجّه الأخير، الذي يُمثّله وزير الأمن يوآف غالانت، فيفضّل التوصّل إلى اتفاق مع “حماس”، وتجنّب الاحتلال المباشر، لأنّ في ذلك خطر على “أمن إسرائيل”، ولكنه يرى أن على أيّ جهة ستدير القطاع أن تكون مدعومة دولياً، وألّا تكون في عداء مع إسرائيل.
في المستويين الدولي والإقليمي، وفقاً لتسريبات، كان هناك توجّه إلى نشر قوات عربية أو دولية في قطاع غزّة، بحسب مُقترَح مشترك بين إسرائيل والولايات المتّحدة. في هذا الإطار، أعلنت السعودية تأييديها إرسال قوات دولية إلى القطاع، على لسان وزير خارجيتها في اجتماعات المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بينما عبّرت حركة حماس في تصريح صحافي، في 29 يونيو/ حزيران الماضي، عن رفضها أيَّ خططٍ تسعى إلى تجاوز الإرادة الفلسطينية، وأنّها لن تسمح بأيّ وصاية أو فرض أيّ حلول ومعادلات خارجية، بناء على رغبة الشعب الفلسطيني، وأنّ أيَّ قوىً تُفرض على قطاع غزّة ستعامل بوصفها قوّة احتلال، ولو كانت قوّةً عربية. في حين رفضت الأردن إرسال قوّات تحلّ في مكان القوات الإسرائيلية في قطاع غزّة، كما عبّرت مصر عن رفضها إرسال أيّ قوّات إلى قطاع غزّة، وأكّدت أنّ ترتيب أوضاع قطاع غزّة شأنٌ فلسطينيٌّ خالصٌ.
وفي الصعيد الفلسطيني، قال المصدر الخاص في حركة حماس إنّ لدى الحركة استراتيجية مُحدّدة، تتعلّق بـ”اليوم التالي” للحرب، وتتبنّى ثلاثة خيارات رئيسة للتعامل مع الوضع المستقبلي لقطاع غزّة: الأول، وهو الخيار المُفضّل لدى الحركة بحسب المصدر، تشكيل حكومة تكنوقراط من خبراء وطنيين، يكون أعضاؤها مستقلّين وغيرَ مرتبطين بأيّ حزبٍ، سواء من “حماس” أو من أيّ فصيل آخر.
تكتسب هذه الحكومة أهمّيتها من خلال ملفّ إعادة الإعمار وإدارة آثار الحرب، بالإضافة إلى التمهيد لإجراء انتخابات فلسطينية شاملة، وفقاً لجدول زمني متّفق عليه بين جميع الفلسطينيين. بالنسبة لدور “حماس”، سيتمحور حول تعزيز البنية البيروقراطية في القطاع، وضبط الأمن لمنع الجريمة. وفيما يتعلق بمرجعية هذه الحكومة، ترى الحركة أنّ تكون مرجعية هذه الحكومة منظّمة التحرير الفلسطينية شرط انضمام حركتي حماس والجهاد الإسلامي إليها، من دون فرض أيّ شروط عليهما. من المتوقّع أن يواجه هذا الخيار عراقيل عديدة سيضعها الاحتلال الإسرائيلي، لأنّ من الممكن أن يفرض شروطاً تضع “حماس” في موقف صعب، مثل خروج بعض قيادات الحركة من قطاع غزّة شرطاً للتوصل إلى اتّفاق وقفِ إطلاقِ النار، وهو ما كان مطروحاً على طاولة الوسطاء في مرحلة من المراحل، بحسب التسريبات في حينه، أو مطالبة الاحتلال بتقديم ضماناتٍ من الوسطاء بعدم مشاركة “حماس” في أيّ هياكلَ إداريةٍ مستقبليةٍ للقطاع، وذلك ما سيُهدّد أيّ عملية سياسية مستقبلاً في قطاع غزّة، وسيهدّد ملفّ إعادة الإعمار بشكل حقيقي. كما سيواجه هذا الخيار عراقيل داخلية من خلال منظّمة التحرير وحركة فتح، إذ تقف الرئاسة الفلسطينية متمسّكة بشروطها، برفض انضمام “حماس” و”الجهاد الإسلامي” إلى المنظّمة، من دون تنازل الرئيس محمود عبّاس عن اخضاعهما لشروط الرباعية الدولية، والتخلّي عن السلاح، كما أنّه تراجع عن المبادئ التي تم الاتفاق عليها بين الفصائل الفلسطينية، التي وَقّعتها حركة فتح في موسكو في الأول من مارس/ آذار، وكان الهدف من الاجتماع عقد جولات حوارية للوصول إلى وحدة وطنية شاملة تضم القوى كافّة، والفصائل الفلسطينية، كان الانسحاب متمثّلاً بقرار عبّاس تشكيل حكومة بقيادة محمّد مصطفى بقرار أحادي الجانب.
وفي مقابلة أجريتها مع رئيس مكتب العلاقات الوطنية في حركة حماس، حسام بدران، أكّد أنّ خيار “حماس” الأول لليوم التالي في غزّة هي حكومة كفاءات وطنية، رفض تسميتها بحكومة تكنوقراط، وأن مرجعيتها الفصائل الفلسطينية كافّة، وليست منظمّة التحرير، ويرى أنّ هذا الخيار بعيدُ المنال إلى حدّ ما بسبب تعنّت كلّ من حركة فتح ومنظّمة التحرير، بسبب سيطرة محمود عبّاس وتفرّده على قراريهما السياسيين.
أما الخيار الثاني، فيُعتبر بديلاً في حال فشل الأول، يتضمّن تشكيل إدارة محلّية لقطاع غزّة، على أن يتولّى مسؤوليّتها كفاءات سياسية من القطاع، تتولّى المهام المُتمثّلة في إعادة تنظيم الحياة في قطاع غزّة، وإعادة الإعمار، مع التأكيد على استقلالية الأعضاء السياسيين في هذه الإدارة. بالنسبة إلى هذا الخيار، الذي شبّهه بدران بـ”بلدية كبيرة”، هو الأقرب إلى الواقع، برايه، ولديه فرصٌ أكبر من الخيار الأول. وبالنسبة إلى الخيار الثالث والأخير، الذي تراه “حماس”، على لسان بدران، فيتمثّل في استعادة السيطرة على قطاع غزّة. قال لي بدران إنّ هذا الخيار سيأتي لا محالة فور انتهاء الحرب، وقال إنّه حتى خلال الحرب الجارية، وعند انسحاب الجيش الإسرائيلي من أيّ منطقة في قطاع غزّة، فإنّ “حماس” هي من تعود إلى السيطرة على المنطقة، وإعادة تنظيم الأمور البيروقراطية والحياتية للناس هناك، ويرى بأنّ ذلك سيحصل فور انتهاء الحرب، بوصف “حماس” القوّة الوحيدة في قطاع غزّة، التي تستطيع إعادة فرض النظام.
أكد بدران في المقابلة أنّ ترتيب الخيارات كما تراها الحركة كالتالي: الأول، والمرجّح تحقيقه في أرض الواقع، هو إعادة سيطرة حركة حماس على قطاع غزّة لتسيير الأمور البيروقراطية والحياتية. وأنّها في الوقت نفسه ستعمل على الوصول إلى حكومة من الواجهات الوطنية في قطاع غزّة (الخيار الثاني). وبعد تحقيق ذلك، ستسعى الحركة جاهدةً إلى الوصول لتشكيل حكومة الكفاءات الوطنية من خلال التنسيق مع مكوّنات الشعب الفلسطيني السياسية كافّة، وعلى وجه الخصوص حركة فتح ومنظّمة التحرير.
رغم الجهود المبذولة، لم تُحقّق حرب الابادة في قطاع غزّة أهدافها المُعلَنة بالكامل، وتظلّ المفاوضات المستقبلية بين الأطراف ذات أهمّية حاسمة لإيجاد حلول دائمة وإدارة النتائج المترتّبة على هذه الحرب. بينما ستواجه “حماس” تحدّياتٍ كبيرة في المستويات: المحلي والإقليمي والدولي. في السياق الفلسطيني الراهن، تُظهر خيارات حركة حماس للمستقبل إمكانات واعدة، لكنّها تواجه عقبات بالغة التعقيد تحول دون تحقيقها بسهولة، فمن المتوقّع أن تواجه رؤية “حماس” لـ”اليوم التالي” بالرفض من حركة فتح ومنظّمة التحرير المتمثل رأيهما، والمنحصر، بقرار محمود عبّاس، وهذا ما سيقوّض الوصول إلى الخيار الأول (حكومة الكفاءات الوطنية). أمّا في المستوى الإقليمي والدولي، تُؤكّد “حماس” رفضها أيّ ترتيبات أو هياكل إدارية تُفرض عليها من دون موافقتها المسبقة، وذلك لأنّها القوّة الفاعلة الوحيدة في حكم قطاع غزّة، وتتمسّك بأنّها الجهة المسيطرة على الأوضاع الداخلية، إذ ستقوم الحركة بالسيطرة الأمنية على القطاع فور إعلان انتهاء الحرب، بغرض استعادة السيطرة الأمنية والحياتية، مُعبّرة عن نيتها توفير الأمن، واستعادة الحياة الطبيعية، تمهيداً لوصول حكومة تكنوقراط إلى الحكم وتحقيق الانتخابات الشاملة.
بناءً على ما سبق، يمكن الاستنتاج إنّ “حماس” ستدمج بين الخيارين الثاني والثالث، فمن المُتوقّع، فور انتهاء الحرب على غزّة، وبطبيعة الحال، أن تفرض الحركة سيطرتها على قطاع غزّة لإعادة ضبط النظام العام، وتيسير الحياة اليومية للناس، وعودة الخدمات الحكومية. بالإضافة إلى أنّها ستخضع للضغوط الداخلية والإقليمية والدولية، لتسليم الحكم لجسم سياسي يكون (في الأقلّ في العلن)، لا علاقة له بالحركة، من أجل ضمان إعادة إعمار القطاع، لأنّ ملفّ إعادة الإعمار يُعدُّ التحدّي الأكبر للحركة داخلياً، ويُهدّد حكمها للقطاع بشكل حقيقي. وبناء على هذه الضغوط، ستستجيب الحركة وتشكّل جسماً محلّياً من قطاع غزّة من المكونات السياسية كافّة، وسيكون بعيداً سياسياً عن الحركة، فتضمن “حماس” إعادة الإعمار في قطاع غزّة وتسهيل الأمور الحياتية للناس، ولاحقاً من الممكن أن تفرض الحركة سيطرتها على قطاع غزّة بعد انتهاء مهمّة هذا الجسم، في حال تضاربت المصالح بين هذا الجسم السياسي الجديد والحركة. وفي حال كان هذا الجسم لا تتعارض مصالحه مع مصالح حركة حماس، فسيتسمر في تسيير الأمور المدنية والحياتية للناس من دون أيّ دور سياسي، وسيعمل من دون عقبات أو قيود من الحركة، وستكون “حماس” بمثابة الحكومة العميقة لهذا الجسم، وستكون هي المسؤولة عن أيّ ترتيبات سياسية تتعلّق بمستقبل القطاع، وليس هذا الجسم السياسي الجديد، الذي قد يقتصر دوره على الإشراف على عملية إعادة الإعمار، وعلى إدخال المساعدات، وعلى تنفيذ المشاريع الإغاثية والإنسانية بعد انتهاء الحرب.
المصدر: العربي الجديد