خلال محنة فلسطينيي سوريا بدا واضحا للمتابعين أن تقلب مواقف وسلوكيات الفصائل الفلسطينية تجاه الثورة والشعب والنظام اتخذ مسارات متدرجة ومتفاوتة بين فصيل وآخر.
ويمكن القول إنه كلما تأخرت مرحلة تقلب الفصيل أو “انقلابه” مع ازدياد سيل دماء الفلسطينيين في المخيمات _وسيل الدماء هنا لأسباب لا يتسع المقال لذكرها_ زادت نسبة التخلي عن مبادئه التأسيسية واستسهلت جريمة الخيانة في صفوفه مع مراعاة عامل تأثيره في الساحة الفلسطينية، كما تتعاظم تزامنا درجة الأنا والغباء السياسي وقلة الأخلاق في دائرة أصحاب القرار لديه مع افتراض الدارس حسن نية ذلك الفصيل وعدم مباشرته في إعلان المواقف والمشاركة.
ولعل وضوح مواقف فصائل دمشق أو ما يعرف بالتحالف وأبرزها الجبهة الشعبية – القيادة العامة، فتح الانتفاضة وتنظيم الصاعقة، وتبنيها خيار القتل والإجرام والحصار ضد الفلسطينيين والسوريين باعتبارها جزءا من ماكينة القمع التابعة للأسد أفضل بدرجات في توقع نتائجه من تلكؤ فتح وسلطتها بعد مرور سنتين ونصف على حصار مخيم اليرموك قبل تطبيعهما العلاقات على دماء وعذابات الفتحاويين والفلسطينيين الشهداء والمعتقلين والمنفيين على يد هذا النظام، ومن يدري فقد يكون كلاهما أقل جرما رغم جريمته التي يحق لذوي الضحايا ملاحقته على ارتكابها، أمام الجريمة التي ترتكبها فصائل اليسار الفلسطيني (الجبهتان الشعبية والديمقراطية خاصة) بمواقفها المبنية على أسس غير قويمة والتي تؤدي إلى التعالي على معاناة فلسطينيي سوريا وثورة الشعب السوري، ولعل أبرزها نبذ تلك الفصائل الوجه الإسلامي للثورة وادعاء أنها مدعومة من محور الدول المطبعة والمتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي، فضلا عن ارتهان تلك المواقف لنظرية المال السياسي في ما يتعلق بتلقيها الدعم من إيران ومحور الدول الاشتراكية ذات النموذج الديكتاتوري المنسجم مع هيكلية نظام الأسد في أميركا اللاتينية وغيرها، وملف اليسار الفلسطيني هو الآخر يحتاج للتوسع فيه خلال إثباته بالحجة والرأي.
غير أن كل السابق ينتهك حرمات الدم البريء والوعي النقدي للفلسطينيين وغيرهم يمكن اعتباره أقل بدرجة من الجريمة التي ترتكبها قيادة حركة حماس اليوم بحق مبادئ الحركة أولا وبحق فلسطينيي سوريا والسوريين بأن تغير جلدها كالحرباء في ما يخص المواقف، رغم زعم أنها لا تفرط بجراحات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والمسلمة والحرة، وادعاء قادتها أن حسابات الاصطفاف والمحاور والتحالفات والارتزاق المالي والسياسي لا تعنيهم.
ويشار هنا إلى أن كل ما سلف ذكره حول الفصائل في المقال بعيد عن لغة التخوين، أي أنه يبدو بشكله البشع القذر ذاك في حال افترض العاقل الفلسطيني حسن نواياه وحسن نوايا الفصيل.
وبالعودة إلى حماس مع حسن النوايا يلاحظ أن دائرة القرار في الفصيل كانت تحاول العبث والمراوغة أكثر واختراق الكتلة الأكبر من المنكوبين والمحاصرين والمهجرين والمعتقلين والمفقودين والشهداء من كوادر الحركة في سوريا وعموم الفلسطينيين لجني مكاسب هي أعلى بالنسبة إليها من كل نزيفهم عند إعلان موقف كلي أو جزئي مغاير، وتتناسب طردا مع درجة الاستنزاف الكبيرة ومع الهرولة للحاق بمن تسوقهم المتغيرات في المنطقة بالتزامن مع اللهاث نحو التسويات والتطبيع وإعادة تدوير المهام.
ويحق للعاقل الفلسطيني مع التأكيد مرة جديدة تحليه بحسن النوايا؛ التوصل لنتيجة مفادها أن فصيلا مثل حماس يستهتر بنكبة جزء من شعبه ولا يؤتمن في مواقفه على دماء ومصير نصف مليون فلسطيني في سوريا، هو فصيل لا يؤتمن على دماء ومصير مليوني فلسطيني في قطاع غزة المحاصر حال تعرضه لهزات ونكبات في الفترات القادمة تزامنا مع “صفقة القرن” التي قالت الإدارة الأميركية إنها ستعلن عنها قريبا فيما بدأ تنفيذها منذ أشهر ومرت على ركام مخيم اليرموك وأشلاء أبنائه ووصلت حد نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
وقد يكتشف العاقل الفلسطيني أن كل هذه الأقوال والأفعال من قيادة حماس تعتبر خلاصة مواقف وسلوكيات مضطربة وسيئة يتخذها القائمون على الحق الفلسطيني وحقوق الشعوب العربية بثوراتها المطالبة بالحرية والكرامة تعكس سوء الإدارة وانتهازية البعض منهم، وكل ذلك في حال افترض أن قيادات بقية الفصائل فقدت هذا الائتمان في مراحل مبكرة.
ويمكن استنتاج أن كل من يتحكم بالمسموح به من القرار الفلسطيني يسهل عليه التحول إلى عنصر ضغط وإرهاق واستنزاف للإنسان الفلسطيني، وهو ما بدا جليا في انعكاسات ما أدلى به رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية ضمن مقابلة أجراها معه موقع “سبوتنيك” الروسي مؤخرا، وأظهر فيها مواقف أكثر مرونة تجاه النظام السوري واصفا الثورة السورية بالفتنة وتحولها إلى مسرح لتصفية الحسابات الدولية. كما يستنتج ذلك من لقاء وفد حماس القادم من غزة إلى بيروت قبل مدة بقيادة صالح العاروري نائب رئيس مكتبها السياسي مع مؤسس فصيل القيادة العامة وأمينه العام الدائم أحمد جبريل رغم معرفة حماس بالتاريخ الأسود للفصيل الأخير عديم الشعبية فلسطينيا ودوره الوظيفي المدمر للاجئين الفلسطينيين، ورغم خلاف الفصيلين الذي اتخذ طابعا عسكريا ودمويا غير مباشر بينهما في مخيمات الفلسطينيين في سوريا دفع أبناؤها ثمنه، وهو ما يعكس رغبة الحركة بالقفز عن كل الدم الفلسطيني المستباح مقابل بعض الدعم والمكاتب والامتيازات المفقودة، وهذا الحال لا يخص حماس وحدها بل يعم كل الكتل الوازنة والفصائل في الساحة الفلسطينية تاريخيا وحديثا والتي جعلت من الفلسطينيين دروعا بشرية للرفاه السياسي خارج حدود الصراع المركزي أكثر من كونه استعطافا للدعم وحفاظا على اللاجئين في وجه العواصف التي تواصل اقتلاعهم.
وهنا يأتي السؤال المهم: أين العقلاء والمثقفون والشرفاء من أبناء تلك الفصائل ومن عامة الشعب الفلسطيني لتكوين حالة إدراك وحركة توعية تخففان الاستثمار السياسي لجراحهم وتشرفان على إنتاج قيادة وقوى جديدة ترتقي بهم بدل تحييدهم واستغلالهم؟