بول ر. بيلار
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
فصل آخر في القصة الطويلة والمأساوية لقادة تل أبيب الذين اختاروا العيش إلى الأبد بالسيف.
* * *
انتقلت الأخبار عن العمليات العسكرية الإسرائيلية الهجومية، في الوقت الحالي، من قطاع غزة إلى الضفة الغربية.
وكانت قد بدأت في الأسبوع الذي سبق كتابة هذه السطور سلسلة من الغارات والهجمات الإسرائيلية على جنين ومدن الضفة الغربية الأخرى، والتي ما تزال مستمرة. وعلى الرغم من أن المذبحة التي وقعت في غزة خلال الأشهر الأحد عشر الماضية أكبر حجما وما تزال تستحق أكبر قدر من الاهتمام، فإن العمليات الجديدة في الضفة الغربية تشكل تصعيدا إضافياً لما كان بالفعل، خلال هذه الفترة نفسها، عنفا متسارعا يُمارس ضد السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية.
منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قتل ما لا يقل عن 622 من هؤلاء السكان، بمن فيهم 142 طفلا على الأقل، معظمهم على يد الجيش الإسرائيلي والآخرون على يد مستوطنين يهود. وقتل 15 إسرائيليا هناك خلال الفترة نفسها.
تشكل عمليات الضفة الغربية امتدادا مباشرا لما فعلته إسرائيل حتى الآن في غزة. وقال وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أن إسرائيل “يجب أن تتعامل مع التهديد (في الضفة الغربية) تماما كما نتعامل مع البنية التحتية الإرهابية في غزة، بما في ذلك الإخلاء المؤقت للسكان الفلسطينيين وأي خطوات أخرى مطلوبة. هذه حرب من أجل كل شيء ويجب أن ننتصر فيها”.
يتميز الأثر السيئ المباشر للعمليات الإسرائيلية الأخيرة –المعاناة التي يتعرض لها المدنيون– بأنه هو نفسه في غزة، ولو أنه كان يحدث حتى الآن على نطاق أصغر. ولا تقتصر المعاناة على الوفيات والإصابات المباشرة. فقد تم طرد وإجلاء العديد من السكان قسرًا من منازلهم. وتجري إعاقة توفر العناية الطبية عن طريق فرض الحصار على المستشفيات. ويجري تجريف الشوارع وتدمير البنية التحتية الأخرى اللازمة للحياة اليومية.
تتحدث التصريحات الإسرائيلية الرسمية، كما جرت العادة مع هذه التصريحات، عن “الإرهابيين” باعتبارهم المستهدفين، الذين يبدو أن القضاء عليهم هو الغرض من العمليات العسكرية. ولكن مرة أخرى، كما هو الحال في غزة، يظهر أن معظم الضحايا -مباشرة عندما يصبحون مصابين وقتلى، وبشكل غير مباشر من حيث جميع العواقب الأخرى للدمار والتشريد- هم مدنيون أبرياء.
مما لا شك فيه أنه يوجد في الضفة الغربية مقاتلون مسلحون، يستحقون تسمية “إرهابيين”، ويرغبون في إلحاق الأذى بإسرائيل. وقد قتل الجيش الإسرائيلي بالفعل بعض هؤلاء المسلحين وربما سيقتل آخرين. وليس وجود مثل هؤلاء الأفراد في الضفة الغربية مفاجئا، بالنظر إلى ما يدفع الناس بشكل عام إلى اللجوء إلى مثل هذه الطرق العنيفة وما هي على وجه التحديد الظروف التي تخضع لها إسرائيل سكان الضفة الغربية. وعلى المدى الطويل -الآن لأكثر من نصف قرن- كانت الحالة ذات الصلة هي اضطهاد السكان الخاضعين للاحتلال العسكري الإسرائيلي لوطنهم.
يضاف إلى ذلك هذه الفظائع التي ألحقتها العمليات العسكرية الإسرائيلية بإخوانهم الفلسطينيين في قطاع غزة خلال العام الماضي. ويمكن الغضب من هذه الفظائع وراء زيادة الدعم لـ”حماس” بين سكان الضفة الغربية، على الرغم من أن الشعور السائد ليس حبًا لـ”حماس” بقدر ما هو معارضة لما تفعله إسرائيل بإخوانهم الفلسطينيين. ولا شك أن المأساة في غزة توفر دوافع إضافية للمسلحين الذين يطاردهم الجيش الإسرائيلي اليوم.
وفوق كل ذلك، ثمة الآن هذا العنف المكثف الذي تضيفه إسرائيل إلى احتلالها للضفة الغربية نفسها. ومهما كانت المقاومة المسلحة التي تنشأ، فإنها لا تعتمد على “حماس” أو أي جماعة أخرى، بل على الغضب الذي يحدث بشكل طبيعي ردًا على هذا الشكل المميت من الاحتلال العسكري. وسوف تستمر المقاومة كإمداد جاهز للمجندين لقضية المقاومة، يحل محل أي مسلحين قد تستطيع القوات الإسرائيلية قتلهم.
باختصار، ما يحدث في الضفة الغربية اليوم هو فصل آخر في القصة الطويلة والمأساوية للقادة الإسرائيليين الذين اختاروا العيش إلى الأبد بحد السيف، جالبين صراعًا لا نهاية له لإسرائيل نفسها ومعاناة لا تنتهي للأمة الفلسطينية.
ويوفر الهجوم على الضفة الغربية سببًا إضافيًا -على الرغم من أن ما يقرب من عام من المذبحة في قطاع غزة كان أكثر من سبب كاف مسبقًا- للمراقبين في الولايات المتحدة وأماكن أخرى -ليس للاعتراف بالسبب الذي يجعل إسرائيل تسلك هذا المسار المدمر فحسب، بل للتحدث صراحة عن السبب الذي يجعل إسرائيل تتبع هذا المسار.
إن العمليات العسكرية الإسرائيلية -في كل من غزة والضفة الغربية، ناهيك عن أي مكان آخر- قد تجاوزت منذ زمن بعيد أي شيء يمكن تفسيره، ناهيك عن تبريره، بالإحالة إلى الهجوم العنيف الذي شنته “حماس” على إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
كانت العلاقة بين هذا الهجوم والعمليات العسكرية الحالية في الضفة الغربية هي أن النقل المبكر للموارد العسكرية من جنوب إسرائيل إلى الضفة الغربية ربما كان جزءًا من الاسباب التي جعلت إسرائيل مكشوفة أمام ما فعلته “حماس”. وكانت هذه الحادثة واحدة من العديد من الأدلة على أن تشبث إسرائيل بالأراضي المحتلة لا يعزز أمن إسرائيل، وإنما يضعفه ويقلل منه.
يبدو أن هذه الحقيقة ضاعت في خطاب السياسيين الأميركيين من كلا الحزبين الذين يكررون مرارًا وتكرارًا التعهد لالتزامهم بأمن إسرائيل وبحق الإسرائيليين في الدفاع عن أنفسهم. كما لا يوجد في الخطاب أي تفسير لماذا لا ينبغي للآخرين التمتع بهذا الحق وممارسته بقدر ما ينبغي أن يتمتع به الإسرائيليون. وبالنظر إلى ما حل بالفلسطينيين خلال العام الماضي، يبدو أن حقهم في الدفاع عن أنفسهم في حاجة إلى التعاطف والدعم أكثر من أي شعب آخر في العالم.
إن السبب الأساسي لكل هذه القصة المأساوية برمتها هو القرار الإسرائيلي بعدم العيش بسلام إلى جانب دولة للفلسطينيين -كما دعت إلى ذلك ”خطة التقسيم” التي اقترحتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1947، والتي هي أقرب شيء إلى شهادة ميلاد لإسرائيل -وبدلاً من ذلك الاحتفاظ بالأراضي التي كان يسكنها الفلسطينيون والتي احتلتها إسرائيل بقوة السلاح.
يجب ألا يكون هناك أي شك في هذا بعد الآن، على الرغم من خطاب “عملية السلام” السابق الذي حجب هذا الهدف الإسرائيلي في الماضي. لقد طغى التحرك نحو اليمين في السياسة الإسرائيلية على التشكيك الداخلي في الهدف. وأعلنت الحكومة الإسرائيلية والمجلس التشريعي، رسميًا وبقوة، معارضتهما لإقامة دولة فلسطينية.
تشير الضفة الغربية إلى هذا الهدف أكثر مما يفعل قطاع غزة. وعلى الرغم من أن بعض القوميين الدينيين الإسرائيليين يتحدثون عن إعادة المستوطنات اليهودية إلى غزة، إلا أن الضفة الغربية –ما تسميه إسرائيل يهودا والسامرة– وكل القدس هي التي تلعب الدور الأكبر في تحقيق هدفهم.
وتترافق مع هذا الهدف نظرة متعصبة تجاه العرب الفلسطينيين تَظهر أكثر ما يكون بين اليمينيين الأكثر تطرفًا في السياسة الإسرائيلية، بمن في ذلك أولئك الذين في الحكومة الإسرائيلية، ولكنها مترسخة على نطاق أوسع في كل المجتمع الإسرائيلي. وينعكس هذا الموقف الخبيث أحيانًا في كلمات القادة الإسرائيليين، مثل وزير الدفاع يوآف غالانت، في إعلانه عن فرض حصار وإغلاق شاملين لقطاع غزة، الذي أثر على كل من يعيش هناك، قائلًا أن إسرائيل تعمل ضد “حيوانات بشرية”.
ويمكن سماع تعصب أكثر صراحة من قادة الرأي الآخرين، مثل الحاخام الأكبر السابق لإسرائيل، عوفاديا يوسف، الذي قارن ذات مرة غير اليهود بالحمير، وقال في عظته: “الغوييم [غير اليهود] ولدوا فقط لخدمتنا. من دون ذلك، ليس لهم مكان في العالم –إنهم هنا فقط لخدمة شعب إسرائيل”.
كما ينعكس هذا الموقف أيضًا في الأفعال، خاصة في التكتيكات العسكرية الإسرائيلية التي لا تبدي أي اعتبار يذكر لحياة الفلسطينيين وتستخدم قواعد اشتباك لا تشبه القانون الإنساني الدولي وقوانين الحرب في ما يتعلق بحماية المدنيين. وإذا كانت العملية المعنية تتمتع بفرصة جيدة لقتل حتى ولو شخص واحد يشتبه في أنه من مقاتلي “حماس”، فمن الواضح أن القادة الإسرائيليين يعتبرون قتل عدد كبير من المدنيين في هذه العملية مقبولا.
في كثير من الأحيان، تظهر قرارات السياسة الإسرائيلية اهتمامًا بحياة الفلسطينيين فقط عندما يكون هناك تأثير على حياة الإسرائيليين. هذا هو الوضع اليوم في غزة، حيث كان الدافع وراء موافقة إسرائيل على “هدنة إنسانية” لتوزيع تطعيم شلل الأطفال إلى حد كبير هو القلق من “انتشار الأمراض في المنطقة”، على حد تعبير مكتب رئيس الوزراء، حيث ثمة احتمال لإصابة الإسرائيليين.
إذا وضعنا هدف الاحتفاظ بالأرض والمواقف المتعصبة معًا، فإن هذا يترجَم إلى هدف أوسع يتمثل في تدمير الأمة الفلسطينية. وعلى الرغم من وجود حجة معقولة لاعتبار أن ما يتعرض له الفلسطينيون ليس أقل من إبادة جماعية، فإن المرء لا يحتاج إلى استخدام هذا المصطلح، المثقل بالآثار القانونية والمقارنات مع عمليات الإبادة الأكثر فظاعة في الماضي. وربما يكون التطهير العرقي مصطلحًا محملًا أقل، لكنه يظل يصف ما يحدث للفلسطينيين.
أما كيف ينوي القادة الإسرائيليون أن يكملوا إنجاز هذا الهدف، فلم يتم التفكير فيه بشكل كامل، وهو مسألة عداء عميق أكثر من كونه مسألة تخطيط دقيق. ويشكل موت الفلسطينيين الأفراد، كما يحدث بالجملة في قطاع غزة، إحدى الطرق. وقد يؤدي مزيج من الترهيب والتدمير الكافي للمساكن والبنية التحتية لجعل المناطق الفلسطينية غير صالحة للعيش إلى إجبار الآخرين على المغادرة والانضمام إلى أربعة ملايين لاجئ فلسطيني يعيشون بالفعل في بلدان أخرى في الشرق الأوسط. وقد يكون أحد الآمال الإسرائيلية هو أن أولئك الذين يبقون -مثل الحيوانات التي تم كسرها وترويضها ووضعها في حظيرة- سوف يخضعون بسهولة لوضعهم كتابعين في مرتبة أدنى.
ولكن، ثمة كثيرون لن يخضعوا. وسوف تستمر المقاومة، بما في ذلك المقاومة العنيفة، وربما ما يكفي من الانتفاضة في الضفة الغربية لأن تسمى انتفاضة ثالثة. لكنّ الأمر الأكثر إثارة للقلق، كما يلاحظ المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة ريتشارد فولك، هو احتمال حدوث نكبة أخرى، حيث يواجه الفلسطينيون خيار الإبادة الفورية أو الفرار إلى بلدان أخرى.
إن سياسة الولايات المتحدة، وتعبيرات قادة كلا الحزبين السياسيين فيها، لا تعترف بالحقائق المذكورة أعلاه. بالتأكيد يجب على الولايات المتحدة أن تدعم الأمن الإسرائيلي وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، على الرغم من أنه من دون الاحتلال لن يكون هناك الكثير مما يدعو للقلق في هذا الصدد بالنظر إلى وضع إسرائيل باعتبارها الدولة الأكثر تقدمًا من الناحية العسكرية في المنطقة والثروة الوطنية الكافية لدفع ثمن الحفاظ على هذا الوضع بنفسها.
سوف يكون تصدير أنظمة دفاعية مثل أسلحة الدفاع الجوي متسقًا مع الهدف المعلن، ولكن ليس تصدير الذخائر التي تستخدمها إسرائيل هجوميًا بحيث تكون النتيجة إيقاع موت ودمار كبيرين.
وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن تعكس سياسة الولايات المتحدة ملاحظة كم مما تفعله إسرائيل يقوض أمن إسرائيل نفسها بدلاً من تعزيزه. إن الاحتفاظ بالأراضي المحتلة يشكل عبئًا، وليس تعزيزًا للجيش الإسرائيلي. كما أن التكتيكات القاتلة المعروضة في غزة والتي تتسارع الآن في الضفة الغربية تحفز مقاومة أكثر فتكًا ضد إسرائيل من التي تقمعها.
ليست للولايات المتحدة مصلحة إيجابية في معظم السلوك الإسرائيلي الذي حرض عليه الدعم المادي والدبلوماسي الأميركي. ليست للولايات المتحدة مصلحة إيجابية في احتفاظ إسرائيل بالضفة الغربية، أو بالتطهير العرقي للفلسطينيين. إن مصالح الولايات المتحدة ذات الصلة كلها سلبية، من حيث الإساءة إلى القيم الإنسانية، وعدم الاستقرار الذي ينطوي عليه خطر نشوب حرب أوسع، والمزيد من الأضرار المباشرة للولايات المتحدة نفسها.
وتشمل هذه الأضرار احتمال حدوث إرهاب إضافي مناهض للولايات المتحدة بدافع الغضب من السياسات المتعلقة بإسرائيل، وعرقلة الدبلوماسية الأميركية مع الحكومات الأجنبية التي تشعر بالإهانة بقدر ما تشعر شعوبها بها من تلك السياسات الأميركية.
*بول ر. بيلار Paul R. Pillar: زميل أقدم غير مقيم في مركز الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون، وزميل غير مقيم في معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول. وهو أيضا زميل مشارك في مركز جنيف للسياسة الأمنية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Why Israel is attacking the West Bank
المصدر: الغد الأردنية/ (ريسبونسيبل ستيتكرافت)