ليست صهيونية دونالد ترامب أعلى درجةً من صهيونية سلفه جو بايدن. بالعكس، ترامب عنصري، لا هو محبّ للديمقراطية، كما تشير مسيرته الحافلة بالطعن بها، ولا هو مولعٌ بالقوانين والمؤسّسات والدستور. وبهذه الناحية الأخيرة، يلتقي مع بنيامين نتنياهو، صاحب مشروع إنهاء استقلالية القضاء الإسرائيلي، وبقائه الأبدي في السلطة. الرجلان لا يلتقيان في قيمٍ أو معاييرَ، حتى ولو باللسان. تجمعهما كراهيتهما الديمقراطية، وما يمكن أن تنطوي عليه هذه الكراهية من خيوط عريضة. وأيضاً، ما يربحانه من جرّاء تفاهمهما في قضايا عويصةٍ، مثل التي تئنّ تحت أثقالها منطقتنا. نقطة الجذب بين الرَجلَين لها عنوان واحد، “البراغماتية” المغطّاة بقشرة أيديولوجية رقيقة. براغماتية يجب ترجمتها إلى معناها المُبطَّن، أي السينيكية (أحد توجّهات الفلسفة اليونانية)، أو بلوغ الأهداف من دون لبكة الأفكار أو المعايير. نتنياهو متّهم في عقر داره بأنه يخالف قواعد الصهيونية، فيما يأخذ المؤرّخون الأميركيون على ترامب أنه يخالف بسلوكه كلّه القواعد التأسيسية لقيام أميركا نفسها، وفي مقدّمتها الديمقراطية.
وقد كانت لترامب “إنجازات” قبل أربع سنوات؛ اتفاقية أبراهام، وبنودها المُجهِضة للحقّ الفلسطيني بأدنى طموحاته. أغلق مكتب البعثة الفلسطينية في واشنطن؛ نقل السفارة الأميركية إلى القدس؛ اعترف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السوري؛ منح الشرعية للمستوطنات المستحدثة (وقد تضاعفت أعدادها)؛ حمى إسرائيل في محكمة العدل الدولية؛ سحب الدعم المالي الأميركي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)… إلخ. وكلّ ما نجم من هذا الاتفاق “تعاون إقليمي”، أي دعم عسكري لإسرائيل، ومواجهة النووي الإيراني، أي ما يمكن أن يكرّس وظيفة إسرائيل الإقليمية شرطيّاً حاملاً العصا الأميركية الغليظة، وينزعها من الأيادي الإيرانية الطموحة، أو يلغيها من ميدان المنافسة. ويمكن اعتبار اتفاق أبراهام هذا بمثابة المُفجِّر لـ”طوفان الأقصى”، فهو ليس احتقاراً للفلسطينيين فقط، كما عهد ترامب أن يفعل كلّما ذكَرهم، مواربةً أو مباشرة، إنّما تغييب تامّ لهم، كأنهم لم يوجدوا في هذه الأرض.
في أثناء الحرب على غزّة، كان ترامب يتصرّف كالواثق من العودة إلى البيت الأبيض، فيدعو نتنياهو إلى “سرعة” القضاء عليها وعلى أهلها، كمن يطلب منه أن يُحضِّر له الأرض التي ستكون عربون نجاحه وتفوّقه. ولكنّه، في الوقت نفسه، ردّد كثيراً في حملته الانتخابية أنه “رجل سلام”، يريد السلام في الشرق الأوسط ويسعى إليه. وبهذا يكون ضرب منافسته كامالا هاريس بحجرَيْن. أولاً، بدا كأنه يدعم إسرائيل أكثر منها ومن حزبها، مقلّلاً من قيمة ما بذله حزبها كلّه في سبيل إسرائيل، منذ اندلاع الحرب على غزّة، من “منحة” الـ20 مليار دولار، إلى الأساطيل وحاملات الطائرات في مياهها، ناهيك عن المساعدات العسكرية والمالية المُبرمَجة أصلاً. وحجره الثاني، أصاب الإدارة نفسها، فبدت هزيلة أمام إسرائيل، غير منصاعة لها. نتنياهو وصحبه (خصوصاً بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير) كانوا يصدّون بايدن كلّما لاح في الأفق نقد خجول من هنا، أو استكثارٍ لأعداد القتلى الغزّيين، أو الحثّ على فتح معابر المساعدات الإغاثية إلى غزّة، أو كلام عن حلّ الدولتين. وهذا الأخير (حلّ الدولتين) تلعثمت به مرشّحة الحزب الديمقراطي في أثناء حملتها الانتخابية، ولم تتفوّه به تلميحاً إلًا مرّةً أو مرّتين. لذلك، لا جميل لأمنيات ترامب بـ”إحلال السلام في المنطقة”، بعدما قام الحزب المنافس له بما يلزم كلّه ليكون هذا السلام في قياسه، أو بالأحرى مزاجه، أي تتمّةً لاتفاقية أبراهام؛ والإدارة التي سبقته قامت بما يلزم؛ أمّنت الدعم العسكري والمالي للمجزرة والمجاعة والدمار في غزّة، بما يرغم أيّ متحدّث جدّي عنها على الاستسلام لأيّ سلام، مهما كانت صيغته، مع وخزة ضمير ضعيفة من هذه الإدارة، كما أسلفنا.
ترامب عنصري، لا هو محبّ للديمقراطية، كما تشير مسيرته الحافلة بالطعن بها، ولا هو مولعٌ بالقوانين والمؤسّسات والدستور
وفي لبنان، الوضع أقلّ تعذّراً، “التنظيف” المطلوب هو القضاء على حزب الله، وإن بأثمان باهظة. حاولت الإدارة السابقة أن تجد مخارج له عبر مبعوثها، ولكن الحزب لم يستجب، فكانت تلك الحرب عليه وعلى لبنان بأسره. والنهج الترامبي، رغم المزاجية، يفترض بأن لبنان المقبل سيقوم على “مقايضة” أيضاً، لن تكون عادلة؛ فبمُجرَّد أن يتوقّف الضرب الإسرائيلي على لبنان، سيكون هذا النهج صاحب السلطة عليه، وفرض قراره.
مثل الإدارة السابقة، سيكون ترامب في خطّ تطبيق القرارات الدولية، التي زاد الحديث عنها وعن بنودها منذ فوزه بالرئاسة. أي القرار 1701، القائل عملياً بتجريد حزب الله من سلاحه. استمرار الحزب برمي الصواريخ على إسرائيل يدلّ على كباشه السلطوي الحادّ، إنه يريد، حتى آخر نَفَس، حصّةً في هذه التي تقدّم نفسها عمليةَ سلام في لبنان، أي أن سلاحه سيكون قد نفد، ويكون نتنياهو قام باللازم بالمزيد من القصف والقتل، فيقدّم القرار الدولي في طبق من ذهب، ويكون الجيش هو السلاح الوحيد الباقي في الأرض.
كيف تكون “الصفقة” اللبنانية التي يتمنّاها ترامب، والتي فتح أبوابها نظيره نتنياهو؟ … لن تكون في مصلحة لبنان، طالما لبنان ليس صانعها. بنودها الأولية جذّابة، لأنّها تخلّص لبنان من هيمنة حزب الله (ومن خلفه إيران)، ولكنّ عموميّتها وتفاصيلها، وخلفيات ترامب وصحبه، لا تبشّر كلّها إلّا بهيمنة أميركية بديلة، وراءها لوبيات لبنانية، وشخصيات، وحتى جمهور. وترامب استطاع أن يُقنِع ناخبيه اللبنانيين بأنه سيؤمّن وقفاً تامّاً للنار وعودتهم إلى قراهم المدمّرة. وهم صدّقوه عقاباً لبايدن، بعدما خاب أملهم فيه.
الرجل الذي نسّق حملته الانتخابية بين العرب الأميركيين، هو من “مجاله”، هو ابن المهنة ذاتها، إنه مقاول ملياردير، نموذج لبناني من “النجاح” في الخارج. نشأ في نيجيريا، درس مسعد بولص الحقوق في تكساس، ورث عن أهله تكتّلاً تجارياً مالياً في نيجيريا بقيمة مليار دولار، وانتقل بثروته هذه إلى أميركا، حيث توسّعت أعماله في المقاولات. في عام 2009، ترشّح في الانتخابات النيابية اللبنانية ولم ينجح. بعد ذلك، تزوّج ابنه من ابنة ترامب الأصغر، تيفاني، فحصل التقارب بين الرجلَين، وتطوّر إلى أن صار “منسّق الحملة الانتخابية لترامب وسط العرب الأميركيين”، وقد أقنع نسبةً معتبرةً منهم بالتصويت لترامب، وكانت له إطلالات كثيرة في الشاشتَين الأميركية واللبنانية، أثناء الحملة الانتخابية، وبعيدها. وما يكرّره في المقابلات أنه “الناطق الرسمي باسم ترامب من أجل لبنان”، ومهمّته “أن يكون وسيطاً بين لبنان والولايات المتحدة بهدف وقف إطلاق النار”.
الصفقة اللبنانية التي يتمنّاها ترامب لن تكون في مصلحة لبنان طالما لبنان ليس صانعها
ولتخيّل ما في جعبة الرجل من “مشاريع” لبنانية، يكفينا تذكّر مبعوثٍ أميركي من عهد آخر، وزمن آخر. في عام 1982، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، كان الوسيط الأميركي أيضاً من أصل لبناني، واسمه فيليب حبيب. خلفيّته لا تمتّ إلى دونالد ترامب ومسعد بولس بصلة. درَس القانون والاقتصاد في أميركا وفرنسا، عمل أستاذاً جامعياً، وشارك في الحرب العالمية الثانية، قبل أن يلتحق وهو في التاسعة والعشرين من عمره في السلك الديبلوماسي، أي أنه كانت له أربعون عاماً في هذا السلك عندما عيّنه الرئيس الأميركي (وقتها) رونالد ريغان مبعوثاً رسمياً إلى لبنان لحلّ موضوع السلاح الفلسطيني. ذاك الرجل السبعيني، ذو القلب الضعيف، أمضى ستّة أسابيع وهو يتوسّط بين لبنان وإسرائيل، استطاع أن يقنع رئيسه رونالد ريغان، وبالتالي الإسرائيليين، بإعادة المياه إلى بيروت المحاصرة، حتى إخراج الفصائل الفلسطينية المسلّحة من لبنان، وبالخسائر الممكنة.
بين الديبلوماسي والمقاول، قطعت أميركا مع ترامب شوطاً نحو الاعتباط واحتقار المؤسّسات، والحسابات الربحية المبتذلة. فإذا لم تفِ حلول فيليب حبيب بحقّ الفلسطينيين وكانت مؤقَّتةً بحساب الزمن السياسي، إذ بقيت القضية الفلسطينية مُعلّقةً، وبقي جنوب لبنان مُحتلّاً، فماذا تكون حلول مسعد بولس أو “سلام” ترامب غير ألغام في أعماق الأرض، قد تنام عقداً أو اثنين، لتعود فتنفجر في وجه من واظب على الدعْس فوقها؟
المصدر: العربي الجديد