غاليا لافي
منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، تبنّت الصين نهجاً مؤيداً للفلسطينيين بشكل واضح، فتجاهلت تماماً هجوم “حماس” على كيبوتسات “غلاف غزة”، والهجمات الأُخرى المنفّذة ضد إسرائيل من جبهات إضافية. وترافق ذلك مع إدانة صينية للعمليات الإسرائيلية التي جاءت كردة فعل على هذه الهجمات. فعلى سبيل المثال، في حين تُكثر بكين من معارضة المساس بسيادة الدول ووحدة أراضيها، تجاهلت تماماً انتهاك السيادة الإسرائيلية في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وكذلك الهجمات اللاحقة على إسرائيل من حزب الله وإيران والعراق والحوثيين، والتي تعدى بعضها على سيادة دول أُخرى في المنطقة، مثل الأردن والمملكة العربية السعودية. في المقابل، لم تتردد بكين في إدانة اغتيال قائد الجناح السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية في طهران، على الرغم من أنها لم تنسب الحادثة مباشرة إلى إسرائيل.علاوةً على ذلك، وبعد الهجوم الإيراني على إسرائيل في 14 نيسان/أبريل 2024، برّر سفير الصين في الأمم المتحدة الهجوم بقوله إن “إيران أعلنت أن عملها العسكري هو ردّ على العدوان الإسرائيلي”. وصرّح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية بأن “الإجراء الذي اتخذته إيران كان محدوداً، ويُعدّ عملاً من أعمال الدفاع عن النفس”. وأشار أيضاً إلى تقديره “لتأكيد إيران عدم التركيز على دول المنطقة المجاورة، وتكرار التزامها المستمر بسياسة حُسن الجوار والصداقة”.وبالمثل، تتبنى الصين موقفاً معارضاً لانتهاكات القوانين الدولية، لكن هذا ينطبق فقط عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. فعلى سبيل المثال، تدعو بكين إسرائيل، مراراً وتكراراً، إلى تنفيذ قرار الأمم المتحدة الرقم 2728، الذي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، لكنها تتجاهل الجزء الثاني من القرار، الذي يطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الأسرى المحتجزين لدى “حماس”. وتتجاهل بكين أيضاً قرار الأمم المتحدة الرقم 1701، الذي ينص على انسحاب حزب الله من الجنوب اللبناني وضرورة منع إدخال الأسلحة إلى المنطقة. وكذلك، فإن اتفاقية جنيف أو مبادئها – التي تحظر تعذيب الأسرى وتُلزم تمكين الصليب الأحمر من زيارتهم – لا يتم ذكرها في التصريحات الصينية.هناك أمر ربّما يُعدّ تفصيلاً صغيراً، لكنه مزعج؛ ففي جميع التصريحات الرسمية للمسؤولين الصينيين على مختلف المستويات، يتم استخدام مصطلح “معتقلين” (被扣押人员)، في إشارة إلى الأسرى الإسرائيليين، فيما يحمل معنى مقارنة الإسرائيليين المختطفين بمقاتلي “حماس” المعتقلين في إسرائيل، بدلاً من استخدام مصطلح “رهائن” (人质)، الذي يُفترض استخدامه للإشارة إلى المدنيين الذين اختُطفوا عنوةً من منازلهم.يمكن أن نعزو الانخفاض في تأييد الرأي العام الإسرائيلي للصين إلى المواقف المتناقضة التي تتبناها. في سنة 2019، كان 66% من سكان إسرائيل لديهم آراء إيجابية إزاء الصين، وفقاً لاستطلاع معهد PEW. لكن مع تفشّي جائحة كورونا في سنة 2020 والانتقادات التي واجهتها الصين في إثرها، انخفضت النظرة الإيجابية تجاهها إلى 48%. وفي استطلاع نشره معهد PEW في تموز/يوليو 2024، انخفضت نسبة التأييد إلى 33% فقط. وتُضاف إلى استطلاع PEW استطلاعات أجراها معهد أبحاث الأمن القومي بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، والتي تُظهر أن تأييد الرأي العام الإسرائيلي للصين مستمر في التراجع. وفي أيلول/سبتمبر 2024، رأى فقط 16% من مجمل العينة أن الصين دولة صديقة، أو حليفة لإسرائيل.في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بدا أن الصين بدأت تليّن قليلاً نبرتها تجاه إسرائيل وأصبحت تصريحاتها أقل عدائية. فعلى سبيل المثال، في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2024، أجابت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية عن سؤال أحد الصحافيين، قائلةً إنه “يجب مراعاة المخاوف الأمنية المشروعة لإسرائيل”. وفي 14 تشرين الأول/أكتوبر 2024، تحدث وزير الخارجية وانغ يي مع وزير الخارجية الإسرائيلي، آنذاك، إسرائيل كاتس، ودعا، من بين أمور أُخرى، إلى “إطلاق سراح جميع المختطفين”، مستخدماً مصطلحاً كان حتى ذلك الحين غائباً عن التصريحات السابقة للمسؤولين الصينيين. بالإضافة إلى ذلك، في 28 تشرين الأول/أكتوبر، وبعد الهجوم الإسرائيلي على إيران، رد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية بقدر من اللامبالاة على سؤال من صحافي في هذا الشأن، قائلاً إن “الصين تعارض انتهاك سيادة وأمن الدول الأُخرى والاستخدام المتكرر للقوة”. ومع ذلك، لم يكن هناك أيّ إدانة، ولم تُذكر إسرائيل.شخّص الباحثون هذا التغير في الخطاب الصيني وقدموا عدة تفسيرات له: التفسير الأول هو نجاحات إسرائيل في الحرب، والتي ربما أوضحت للصين أنها “راهنت على الحصان الخطأ”. أمّا التفسير الثاني فيرتبط بسياسة التوازن الصينية المعتادة. ووفقاً لهذا التفسير، شعرت بكين بأن خطابها المتطرف خلق وضعاً غير متوازن، وهي بالتالي تحاول إعادة التوازن إلى موقفها. هناك تفسير آخر يتعلق بالعملية الإسرائيلية في 26 تشرين الأول/ أكتوبر في إيران؛ وبحسبه، فإن محادثة وانغ يي مع الوزير كاتس، التي جرت قبل الهجوم الإسرائيلي، كانت تهدف إلى التقرب من إسرائيل ومحاولة إقناعها بالتراجع، أو تقليل حجم الهجوم. تنطلق هذه التفسيرات كلها من فرضية أن هناك تغييراً فعلياً في الخطاب الصيني تجاه إسرائيل، لكن فحصها يكشف أن الأمر ليس كذلك.صحيح أن التصريحات التي تتعلق بالمخاوف الأمنية الإسرائيلية نادرة، لكنها ظهرت سابقاً على ألسنة متحدثين صينيين مختلفين. ظهرت هذه التصريحات لأول مرة في سنة 2014، خلال عملية “الجرف الصامد”، عندما قدمت الصين “خطة النقاط الخمس” لحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ونصّت الفقرة الثانية من تلك الخطة بشكل صريح على أنه “يجب أخذ المخاوف الأمنية المشروعة لإسرائيل على محمل الجد”. ظهرت هذه التصريحات مجدداً بعد نحو أسبوعين من السابع من أكتوبر، في الثالث والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2023، عندما أجرى وزير الخارجية الصيني وانغ يي محادثة مع نظيره، حينها، إيلي كوهين، وأخبره أن الصين تدين جميع الأعمال التي تُلحق الأذى بالمدنيين، وتناول المخاوف الأمنية الإسرائيلية. وذكر وانغ أن الالتزام بالتسوية السياسية فقط هو ما سيتيح “حل المخاوف الأمنية ’المشروعة’ لإسرائيل بشكل جذري”. تجدر الإشارة إلى أن الترجمة لكلمة “مشروعة”، أو “منطقية”، المستخدمة بشكل متكرر في ترجمة التصريحات الصينية ليست دقيقة تماماً؛ إذ يمكن ترجمة الكلمة الصينية (合理) أيضاً إلى معنى “عادل”، “منصف”، أو “متساوٍ”. ربما تكون الترجمة الأخيرة أكثر تعبيراً عن قصد وانغ، الذي أشار لاحقاً في حديثه مع كوهين إلى أن “الحاجات الأمنية المشروعة لجميع الأطراف سيتم حلها بشكل حقيقي وجذري”.حسبما يظهر من تحليل بيانات الإدانة الصينية، فإنها غالباً لا تدين إسرائيل بشكل مباشر، بل تكتفي بإدانة عامة للانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين، أو استخدام القوة، أو خرق السيادة. تستخدم الصين هذه اللغة أيضاً تجاه دول أُخرى، فتتجنب تسميتها بالاسم، وبدلاً من ذلك، تذكر “الأطراف المعنية”، أو “الدول المؤثرة”.بعكس الصيغتين السابقتين اللتين لا تشيران إلى أيّ تغيير في النهج الصيني، فإن الإشارة إلى “المختطفين” باستخدام المصطلح الصيني الصحيح، بدلاً من كلمة “معتقلين”، تُعد تغييراً مهماً ومرحَّباً به. نظراً إلى أن هذا المصطلح استخدمه كلٌّ من المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية والسفير الصيني في الأمم المتحدة، يمكن الاستنتاج أن هذا التغيير مقصود، على الرغم من أنه لا يشير إلى انحياز السياسة الصينية لمصالح إسرائيل. ومن المرجح أنه بعد أشهر طويلة من تلقّي الحكومة الصينية العديد من الطلبات من وزارة الخارجية الإسرائيلية، وسفارة إسرائيل في بكين، ومن باحثين كثيرين، وبعد أن أصبح مصطلح “المختطفين” هو المصطلح المستخدم في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك العالم العربي، توصلت الصين إلى قناعة بأن مصطلح “معتقلين” غير مناسب، بل يبعث على السخرية. ولو كانت هذه لفتة تجاه إسرائيل، فإنها خطوة صغيرة ومتأخرة.حتى لحظة كتابة هذه السطور، يمكننا القول إن التغيير في الخطاب الصيني ليس سوى تغيّر سطحي فقط، ولا يحمل أيّ دلالة ذات مغزى على مستوى السياسة تجاه إسرائيل. وفي الواقع، تكمن المشكلة الأساسية ليس فيما تقوله الصين، بل فيما لا تقوله. طالما أن بكين تتجاهل أفعال الطرف الآخر المتمثل في “حماس” وحزب الله وإيران – لا يوجد ما يدعونا إلى الابتهاج، حتى عندما لا تدين الصين إسرائيل بشكل مباشر.
المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية – مختارات من الصحف العبرية/ معهد دراسات الأمن القومي