جمال قارصلي
ما لاحظته من خلال عملي السياسي في ألمانيا، ومنذ أربعة عقود ونيّف، أن الائتلافات الحكومية في ألمانيا وفي كل الأنظمة الديمقراطية، إن جاز التعبير، يمكننا أن نشبهها بما يسمى بـ”زواج المصلحة”، وهذا الزواج يبقى مستمرًا طالما تتطلب ذلك المصالح الحزبية أو الشخصية لقيادات أحزاب تلك الائتلافات.
وتكون هذه الائتلافات طويلة الأمد إن كانت البرامج الاقتصادية والسياسية للأحزاب المؤتلفة قريبة من بعضها البعض. أما ما عدا ذلك، فيكون عمرها أقصر بأشهر قليلة من تاريخ الانتخابات الدورية التالية، ويكون “الطلاق” مبرمجًا سلفًا، لأن التباين في البرامج السياسية والحزبية يشكل عائقًا كبيرًا في الحملات الانتخابية للأحزاب المؤتلفة.
لذلك، وبشكل محتّم، يتم حل الائتلافات قبل المدة المحددة لها، لكي يرجع كل حزب إلى قاعدته الشعبية ويطرح برامجه ومشاريعه ووعوده التي سيطلقها للمواطنين الذين بأصواتهم سيصل إلى سدة الحكم في المرحلة القادمة. وهنالك شبه قاعدة في الائتلافات المبرمة، حيث تزداد طردًا في الانهيار مع عدد الأحزاب المشاركة في كل ائتلاف.
من المعروف بأن كل حزب، قبل بداية المرحلة الائتلافية، يبحث عن النقاط المشتركة فيما بينه وبين الأحزاب التي يرغب في الائتلاف معها، وهو يروّج لذلك الائتلاف لكي يوافق أعضاء الحزب على عملية الائتلاف.
شكّل صعود اليمين المتطرف في ألمانيا وانتخاب دونالد ترامب مجددًا للرئاسة في أميركا جرس إنذار للائتلاف، خاصة إذا ما فرض ترامب، وكما هدد في حقبته الأولى، زيادة في الرسوم الجمركية على البضائع الأوروبية، فسيكون لذلك تأثير سلبي كبير على الاقتصاد الألماني.
أما في المرحلة الأخيرة من الائتلاف فيحدث العكس من ذلك، حيث تبحث الأحزاب عن نقاط الخلاف والاختلاف فيما بينها لكي تبرر أسباب حل ذلك الائتلاف. ولكن، وبالرغم من حل الائتلاف، فلا يتأثر سير عمل مؤسسات الدولة. وكذلك لن يحصل شيء مفاجئ في سياسة اللجوء في ألمانيا، لأن ألمانيا دولة قانون ومؤسسات.
ألمانيا يحكمها حاليًا ائتلاف ثلاثي، أو ما يسمى ائتلاف “إشارة المرور”، لأن لون شعار الحزب الاشتراكي الديمقراطي هو الأحمر، والليبرالي الأصفر، أما حزب الخضر فإن لونه جاء من اسمه.
موعد الانتخابات الدورية التالية كان محددًا في 28 من أيلول/سبتمبر 2025، ولكن استمرار التوترات الداخلية والخلافات السياسية واختلاف التوجهات بين الأحزاب الحاكمة كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير وأدّت إلى انهيار حكومة شولتز، حيث يهدف الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر إلى زيادة الاستثمارات في المشاريع المستقبلية وتنفيذ سياسات إعادة توزيع الثروة، بينما يصر الحزب الليبرالي على سياسة ميزانية أكثر تقييدًا والالتزام بالقواعد المالية. إضافة إلى ذلك، شكّل صعود اليمين المتطرف في ألمانيا وانتخاب دونالد ترامب مجددًا للرئاسة في أمريكا جرس إنذار للائتلاف، خاصة إذا ما فرض ترامب، وكما هدد في حقبته الأولى، زيادة في الرسوم الجمركية على البضائع الأوروبية، فسيكون لذلك تأثير سلبي كبير على الاقتصاد الألماني.
بسبب التوترات المزمنة في الحكومة الألمانية، قام المستشار أولاف شولتز في الخامس من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، بإقالة وزيره للمالية، كريستيان ليندنر، والذي هو بالحين ذاته رئيس الحزب الليبرالي، ما أدى إلى انسحاب باقي الوزراء الثلاثة من الحكومة، وهو ما يعني بأن الائتلاف الثلاثي قد انتهى.
ومع انهيار هذا الائتلاف، لن يكون لدى الحكومة أغلبية برلمانية، ما يعني أن الانتخابات المبكرة ستصبح أمرًا حتميًا. وعليه سيطرح المستشار أولاف شولتز في 16 كانون الأول/ديسمبر 2024 مسألة الثقة في البرلمان الألماني (البوندستاغ)، ومن المتوقع أن يتم سحب الثقة منه، وهذا يعني بأنه لم يعد بإمكانه مواصلة العمل في منصبه كمستشار.
وبعد ذلك، سيقوم الرئيس الألماني، فرانك-فالتر شتاينماير، بحل البرلمان وتحديد موعد الانتخابات، والذي، عادة ما يتم الاتفاق عليه ما بين الأحزاب مسبقًا، وهو سيكون في 23 شباط/فبراير 2025.
المشهد السياسي في ألمانيا الآن في حالة توتر شديد، والاستعداد للانتخابات المبكرة في شهر شباط/فبراير 2025 تجري على قدم وساق، ومن المتوقع أن تتغير الساحة السياسية في ألمانيا بشكل كبير؛ حيث إن هذا الانهيار لا يقتصر فقط على فقدان الثقة في الحكومة الحالية، بل يفتح أيضًا الباب أمام عدد من التحولات الاستراتيجية، سواء على مستوى الأحزاب أو على مستوى التحالفات المستقبلية.
بحسب توقعاتي الشخصية، سيصبح فريدريخ ميرتس، رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي، المستشار الألماني القادم.
ألمانيا، وعلى المستوى الفيدرالي، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحكمها دائمًا ائتلافات حزبية ولم يحدث من قبل أن حكمها حزب وحده. في الانتخابات القادمة سينتج ائتلاف جديد وستكون هنالك تحديات كبيرة أمام الأحزاب للحصول على أغلبية الأصوات. من الأغلبيات المرجحة والتي ستؤدي إلى تحالف أو ما يسمى “الائتلاف الكبير” بين الاتحاد المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، وذلك على الرغم من التوترات السابقة بين الحزبين، إلا أن الحاجة إلى تشكيل حكومة قوية وموحدة قد تدفعهما إلى التعاون مرة أخرى في هذا الائتلاف الكبير، حيث إن ائتلافاً كهذا شهدته ألمانيا عدة مرات في العقود السابقة.
إضافة إلى ذلك، هنالك إمكانية تشكيل ائتلاف بين الاتحاد المسيحي الديمقراطي والحزب الليبرالي الديمقراطي. وكذلك من الاحتمالات الواردة هو أن تصل الأحزاب اليسارية مجتمعةً إلى أغلبية برلمانية تمكنها من تشكيل ائتلاف يساري مكوّن من عدد من الأحزاب، مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب اليسار وتجمّع سارة فاغنكنخت وحزب الخضر. أما ما يسمى “حزب البديل لألمانيا”، وهو حزب يميني متطرف، فسيحصل على عدد كبير من الأصوات وربما يكون ترتيبه الثاني بعد الاتحاد المسيحي الديمقراطي، ولكن لن يكون له نصيب المشاركة في الحكومة القادمة، لأن الأحزاب اليسارية ترفض مشاركته في أية حكومة كانت، والأحزاب اليمينية لا تتجرأ على مشاركته في ائتلاف حكومي خوفًا من ضياع مصداقيتها.
الانتخابات المبكرة ستكون نقطة تحول حاسمة في مسار السياسة الألمانية، خاصة بعد انهيار الائتلاف الثلاثي بسبب التضخم والعبء الاقتصادي. والتحديات التي ستواجه الحكومة المقبلة ستكون متعددة ومعقدة، من بينها إدارة الاقتصاد في وقت يعاني فيه المواطنون من ارتفاع الأسعار، وتنفيذ سياسات مناخية وطاقة مستدامة، إضافة إلى تحديد العلاقات الألمانية مع الرئيس الأميركي المنتخب ترامب والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين. في ظل هذه الظروف، سيكون من المهم أن تتمكن الحكومة القادمة من تشكيل تحالف قادر على تقديم حلول فعالة للتحديات الداخلية والخارجية.
بحسب توقعاتي الشخصية، سيصبح فريدريخ ميرتس، رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي، المستشار الألماني القادم، ولكن من المعروف في الأنظمة الديمقراطية بأن القرار الأول والأخير هو بيد الناخب الذي عن طريق صندوق الاقتراع يحاسب حكوماته على نجاحها أو فشلها، حيث يمكنه أن يزكيها لحقبة حكومية جديدة أو أن يسقطها. وهذا هو تداول السلطة الحقيقي والذي نتمناه لجميع دول العالم.
المصدر: تلفزيون سوريا