رندة حيدر
لم تنتظر إسرائيل طويلاً كي تقرّر أن سورية ما بعد الأسد وحكّامها الجدد أعداء لها. وقد شعَرت برعب عندما رأت نجاح فصائل المعارضة السورية المسلحة في إسقاط نظام بشّار الأسد خلال 11 يوماً، فسارعت إلى شن هجمات استباقية واسعة النطاق دمّرت، في ثلاثة أيام، ما تبقى من قدرات عسكرية للجيش السوري، الجوية والبحرية، خصوصاً منظومة المضادّات الجوية. وبحجّة القضاء على مخازن السلاح الكيميائي الذي أخفاها نظام الأسد، كثفت هجماتها على مراكز الأبحاث العسكرية في شتى أنحاء سورية. كما تذرّعت بالخوف من استيلاء قوى المعارضة السورية على المراكز التي انسحب منها الجيش السوري في الجولان، فتوغّلت في داخل هضبة الجولان السورية، وأعلنت انهيار اتفاق فصل القوات الموقع في 1974. باختصار شديد، أعلنت إسرائيل الحرب على سورية الجديدة وعلى حكامها الجدد، مستغلّة “الزلزال” السوري وانسحاب القوات الإيرانية وعدم التدخل الروسي لإنقاذ الأسد، لتقوم بضرباتها بذرائع أمنية وعسكرية، بينما تخفي أجندة أخرى، غرضها الأساسي إلحاق أكبر قدر من الأذى العسكري والسياسي والمعنوي بقادة سورية الجدد.
خاض الجيش الإسرائيلي، في السنوات الماضية، صراعاً ضد الوجود العسكري الإيراني والأذرع الإيرانية في سورية، وطبّق ما أسماها “المعركة بين الحروب”، وهي سلسلة ضربات جوية لأهداف عسكرية إيرانية وتابعة لحزب الله. حدث ذلك في الفترة التي سادت فيها نظرية “توازن الرعب” بين إسرائيل وحزب الله، وتجنّب إسرائيل مهاجمة حزب الله في الأراضي اللبنانية، خوفاً من استخدام الحزب ترسانته الصاروخية وصواريخه الدقيقة ضد جبهتها الداخلية. وبالطبع، سقط ذلك كله بعد العدوان الإسرائيلي أخيراً على لبنان، واضطرار حزب الله بعد الضربات القاسية التي تعرض لها والدمار الهائل الذي لحق بلبنان إلى القبول بوقف إطلاق النار.
طوال حكم الأسد الأب والابن، لم يتجرأ الجيش الإسرائيلي على ضرب الجيش السوري، وحافظ على الاتفاقات الموقعة معه. وخلال هذه السنوات، جرت محازلات لإجراء مفاوضات سلام مع سورية، آخرها في عهد نتنياهو في 2010. وبحسب مصادر إسرائيلية، أجرى الأخير مفاوضات سرّية من خلال الوسيط الأميركي، فريد هوف، مع بشّار الأسد بشأن اتفاق سلام تعهد فيه الإنسحاب من هضبة الجولان.
وفي الواقع، منذ بدء سنوات الحرب الأهلية في سورية، وقفت إسرائيل موقف المتفرّج، وكان شعارها “التعاون مع الشيطان الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه”، في إشارة واضحة إلى الموقف الإسرائيلي الضمني الداعم لبقاء نظام الأسد في سورية. لكنها أيضاَ أقامت، في واحدةٍ من فترات الحرب، علاقات مع جماعات مسلحة سورية فتحت لهم حدودها وساهمت في معالجة مصابين وجرحى منهم. لكن هذه التجربة كانت محدودة جداً، ولا يمكن التعويل إسرائيلياً عليها في كيفية التعامل مع قوى المعارضة والحكام الجدد لسورية.
منذ بدء سنوات الحرب الأهلية في سورية، وقفت إسرائيل موقف المتفرّج، وكان شعارها “التعاون مع الشيطان الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه”
من يتابع ردات الفعل الإسرائيلية على التطورات في سورية في الأيام الأخيرة، تستوقفه الادّعاءات الإسرائيلية أن الفضل في سقوط نظام الأسد يعود إلى الضربات القوية التي مني بها محور المقاومة بقيادة إيران على يد الجيش الإسرائيلي. لكن الجميع في إسرائيل من الزعامات السياسية وقادة أحزاب ومسؤولين عسكريين يشعر بالقلق والتوجس، ومقتنع بأن ما يجري في سورية تداعيات كبيرة وعميقة، لا يمكن أن تكون إسرائيل في منأىً عنها.
في الأيام الماضية، كان الجميع في إسرائيل يحاول الإجابة عن السؤال: “هل سقوط نظام بشّار الأسد جيد لليهود”؟ ومن الخاسر الأكبر ومن الرابح؟ وكيف يمكن توظيف التغيرات في داخل سورية في خدمة الاهداف الاستراتيجية لإسرائيل، والتي يمكن حالياً تلخيصها بالتالي: استغلال الضعف الذي لحق بمحور المقاومة الذي تقودة إيران، من أجل ضرب أذرع إيران في المنطقة بأسرها، والتركيز منذ اللحظة على محاربة البرنامج النووي الإيراني، ومنع حزب الله من إعادة تسلحه وقطع الإمداد بالسلاح من إيران عبر سورية، وتعزيز قوة الردع الإسرائيلي.
لافت ومهم في هذا السياق أن إسرائيل تتعامل مع القوى السياسية الجديدة في سورية بوصفها عدوّاً محتملاً وشديد الخطورة، يمكنه، في أي لحظة، أن يشنّ عليها هجوماً مفاجئاً، مثل الذي شنه على نظام بشار الأسد. لذا، عليها استباق هذا ودرء الخطر بضرباتٍ قاصمة تشل أي قدرات محتملة لهذه القوى لمهاجمة إسرائيل في أي يوم. وليس واضحاً كيف بعد خروج القوات الإيرانية وقوات حزب الله من سورية أن يخدم ضرب الجيش السوري والغارات الإسرائيلية الاستراتيجية التي ذكرناها؟ وهذا يقود إلى استنتاج أن التوجهات الإسرائيلية العدوانية حيال سورية اليوم سببها أمران: أن القوى السياسية الإسلامية الجديدة في سورية تحمل الأيديولوجيا الإسلامية عينها لحركة حماس التي تعدّ فرعاً من جماعة الإخوان المسلمين. صحيحٌ أن “هيئة تحرير الشام”، وزعيمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) يأتي من خلفية جهادية سلفية أكثر راديكالية من “حماس” الإخوانية، لكن إسرائيل بعد التجربة التي خبرتها في صراعها مع “حماس” مقتنعة بعدم إمكانية التوصل إلى اتفاق مع “حماس” التي تمكّنت من القضاء عليها عسكرياً، ولكن من المستحيل القضاء عليها فكرةً، وأن عداء “حماس” لإسرائيل فكري- ديني- قومي.
تمارس إسرائيل في غزّة والضفة الغربية احتلالاً إحلالياً، فهي لا تحتل الأرض فقط، بل تعمد إلى إحلال سكان يهود محل سكان الأرض من الفلسطينيين
الأمر الثاني الذي أملى على إسرائيل هجماتها العسكرية في الأيام الماضية، تداعيات الإخفاق الإستخباري والعسكري الإسرائيلي في 7 أكتوبر(2023). فوجئت إسرائيل بهجوم قوات المعارضة السورية، وبسرعة تقدمه ونجاحاته العسكرية. وربما وجدت في هذا الهجوم محاكاة للهجوم المفاجئ الذي شنته “حماس” في 7 أكتوبر، وشعرت بأن عليها أن تتحرّك بسرعة كي تمنع سيطرة قوات عسكرية سورية إسلامية سنّية متطرّفة على جبهتها الشرقية.
يبقى أمر أساسي يتعلق بالتوغل الإسرائيلي في الأراضي السورية الذي قال وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إنه سيستمر خلال فصل الشتاء وربما أكثر. ما حدث هو تعدّي إسرائيلي سافر على سيادة الأراضي السورية، ويأتي بعد التوغل الإسرائيلي في الجنوب اللبناني وحزام الدمار والنار الذي فرضه الجيش العسكري في هذه المنطقة حتى انتهاء فترة وقف إطلاق النار المحددة بـ60 يوماً. وضمن هذا الإطار، يمكن أن تضاف المنطقة العازلة التي أقامتها إسرائيل في شمال القطاع مع أراضيها، وإجبار الجيش منذ أشهر سكان شمال غزّة على الرحيل والانتقال إلى جنوب القطاع في أكبر عملية تطهير عرقي ترتكبها إسرائيل أخيراً، وتشمل مئات آلاف من سكان شمال غزّة.
تمارس إسرائيل في غزّة والضفة الغربية احتلالاً إحلالياً، فهي لا تحتل الأرض فقط، بل تعمد إلى إحلال سكان يهود محل سكان الأرض من الفلسطينيين. أما في جنوب لبنان وفي الجولان السوري فهي تمارس احتلالاً عسكرياً سافراً، ضاربة في عرض الحائط كل القرارت الدولية. تجري هذه العربدة الإسرائيلة أمام أنظار الدول كلها، وفي ظل تواطؤ أميركي مجرم.
المصدر: العربي الجديد