محمود الوهب
(1)
يفكِّر الإنسان، في أحيان كثيرة، بحدسه.. والحدس لا يأتي تلقائيّاً مثل نبوءة أو كشف ما.. إنه تراكم لقراءات دقيقة للواقع، ولاستيعابه. هكذا كان أغلبنا ينظر إلى النظام المنهار في سورية في سنيِّه الأخيرة، على أنه هشّ، ومتفسخ، وأن أيامه غدت معدودة تنتظر “الشعرة التي ستقصم ظهر البعير..”، فكل فرد سوري لديه الكثير من الأسباب التي تستوجب مجيء اللحظة الحاسمة.. ومهما يكن من أمر ما حدث، وممن ساهم فيه، فقد استنفد النظام شروط بقائه سواء بالزمن الذي تجاوز دولة الأسرة إلى الدولة الحديثة أو بالأسلوب الذي حكمت فيه تلك الأسرة.. الأسلوب الذي لن يمحى من ذاكرة السوريين لما خلَّفه من آلام وأحزان.
(2)
بقوة الشعب، لا بغيره أبداً، اندحر نظام الاستبداد السياسي، اندحر بكل تسلّطه وشموليّته على الفكر والاقتصاد والمال والمجتمع.. وبقوة الشعب لا بغيره، انتهى حكم الطاغية الذي حوَّل سورية إلى مزرعة له ولأسرته.. أقول بقوة الشعب السوري، لأنَّ المدن السورية جميعها استقبلت فصائل تحريرها بالغبطة والفرح، وبكلّ الحب لدى مقابلتها سلام الفصائل وطمأنتها.. صحيح أنها معجزة كبرى! لكنها حدثت. وقد لخصت عمق القهر والذل الذي عاناه الشعب السوري 54 عاماً. نعم بقوة الشعب الذي أرغم رئيس الدولة على الفرار فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 الذي أظنه سيغدو عيداً وطنيّاً لسورية، وقد فرَّ مدحوراً من دون عينين يقابل بهما الشعب، ومن غير لسان يخاطبه. الشعب الذي كان قد صبر على ظلمه، وعسف أبيه من قبله، 54 سنة، حتى إنه حين حاصرته أفعاله لم يجد أحداً من شعبه “المتجانس” يقف إلى جانبه.
(3)
على الرغم من توسط عديد من الدول العربية والإقليمية التي اجتمعت مساء اليوم السابق لفرار بشار الأسد، في الدوحة، وقد قيل، وفق تسريبات، أنها طالبته بالتنحي، وإسناد مهمته “الوظيفية” لنائبه، والسعي إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي، كما ينصّ قرار مجلس الأمن 2254، وعلى الرغم أيضاً من رسالة تضمنت الطلب نفسه، أرسلها إليه 50 من أعضاء سابقين في مجلس الشعب. حقناً للدماء.. وعلى الرغم، كذلك، من إشارات تلقَّاها من دول كبرى تشير إلى الأمر ذاته، أبى واستكبر، ولا أقول خجلاً، بل استهتاراً بالشعب السوري، وبدمه، فمن أين له الخجل، وقد أهدر قبلاً دماء مئات الآلاف من المواطنين الأحرار، ومثلهم أذاق جلَّادوه المعتقلينَ مرارة القهر والإذلال، وقد أخرجت “لجان الدفاع المدني” وفصائل التحرير من تبقى منهم أشباه أموات..
جرائم كثيرة وفظيعة ارتكبها النظام قبل الثورة السورية وبعدها
(4)
سورية اليوم حرّة، متحررة بعد 13 عاماً من عمر الثورة السورية.. اليوم يعود الفرح ليعمّ الأرجاء السورية.. فرح يجيء في أعقاب شكوكٍ من بعضهم.. فرح أثاره دخول هيئة تحرير الشام، وفصائل من الجيش الوطني، كانت الغلبة فيها لقيادة أحمد حسين الشرع الذي تبين من قيادته عملية التحرير أنه قد تسلَّح بوعي خاص لما يقوم به، على عكس ما رسخ عنه في أذهان الناس، إذ بدت الفصائل أكثر حرصاً على سلامة المدنيين.. لكنَّ حذراً ما لم يزل كامناً في ضمير الناس بشأن أخطاء ارتكبت، خلال عهد جبهة تحرير الشام، في محافظة إدلب، أخطاء، ربما، كان لها علاقة بمواقفها من قضايا اجتماعية محددة.. قضايا لها علاقة بخصوصية بعض فئات المجتمع.
(5)
يعرف أن جرائم كثيرة، وفظيعة ارتكبها النظام قبل الثورة السورية، وبعدها. فهو أساساً قام على الجريمة، وقد تفاقمت نسبتها، بعد أحداث عام 2011 إذ أخذت شكل المجازر، وتكشف السجون المحرّرة كم كان يحدث فيها من جرائم لا يمكن لأحد أن يعبر عنها، ولا يوجد لغة تسعفه، إذ تتكشف وحشية ما كان يحدث من جرائم، فلا يمكن لأي كائن بشري أن يتصور مدى فظاعتها، ولعلَّ ما كتبه ميشيل سورا في كتابه “سورية الدولة المتوحشة” (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017) غيض من فيض، فقد وجدت في سورية ظاهرة قتل القاتل، أي التخلُّص من “الشاهد على الجريمة” تلك التي كان يفعلها المعز لدين الله الفاطمي، الملقب بالحاكم بأمره” حتى إن أخته تخلصت منه خشية منه على نفسها ، ومعروف أنَّ عبارة ساخرة درجت على ألسنة السوريين هي: “انتحر بثلاث رصاصات في الرأس..”.
(6)
أوَّل ما يهم الشعب السوري اليوم، هو الحفاظ على وحدة بلده أرضاً وشعباً، وإعلاء راية الوطن الواحد الموحّد، والانتماء إليه، والعمل على تمتين عرى روابط المكونات السورية، لا على أساس المحاصصة التي تتقاسمها زعامات سياسية تتعيش على حساب الطوائف! بل وفق مبادئ ديمقراطية، وعقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع، عقد تصونه قوانين واضحة تكفل حقوقاً متساوية في كل ما يخص شأن المواطن السوري، وبذلك فقط يمكن الانتهاء من قضية تحرير سورية من ربقة الاستبداد.
العلاقة بين التنمية والحرية جدلية ترتقي بالعمل المبدع، وتفسح في المجال لوجود حال من التنافس البنَّاء لما فيه خير الوطن والإنسان
الأمر الثاني في غاية الأهمية، بل هو الذي يعطي الثورة السورية شرعيتها، فهو التنمية المستدامة التي تقوم على أسس علمية تحاكي حضارة اليوم، وتستفيد من إمكانيات البلد الطبيعية سواء تعلَّق الأمر بالصناعة أم بالزراعة أم بالسياحة أم بأي مجال متوفر يساهم في نقل سورية من عالم التخلف إلى عالم يليق بالحرية التي يقف السوريون اليوم على أعتابها.. فالعلاقة بين التنمية والحرية جدلية ترتقي بالعمل المبدع، وتفسح في المجال لوجود حال من التنافس البنَّاء لما فيه خير الوطن والإنسان.
(7)
أخيراً يمكن القول: إنه منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، سقطت الأيديولوجيات بكل مفاهيمها. بمعنى سقوط ما كان يعرف بنظام الحزب الواحد الأبدي، وسقطت معظم الدول التي كانت تدور في فلكه، وانتقل بعضها إلى بناء الدولة الحديثة، ولأن النظام الذي كان في سورية مشابهاً، لا يمكن أن يكون نشازاً في عالم شديد التواصل والتأثر فيما بين دوله وشعوبه، ولدى قيام الثورة السورية رفع بعضهم شعار: الأسد أو نحرق البلد.. احترقت البلد.. ومن هنا كانت فرحة الشعب يوم الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري على أمل الانتقال إلى نظام تشاركي حقيقي.. يلبّي حاجات شعبه ويودع الاستبداد السياسي إلى الأبد.
المصدر: العربي الجديد