أحمد غنام
في غرفة الانتظار لإجراء مقابلة تلفزيونية مع مسؤول في الإدارة السورية لصالح التلفزيون العربي، الذي أعمل فيه منذ عشر سنوات، أجلس برفقة فريق التصوير وعدة صحافيين وإعلاميين. وبعد رؤيته “لوغو” التلفزيون، بادرني ستّينيٌّ بسؤال: أنتم أيّ تلفزيون، وإلى أيّ جهة تتبعون؟ وهذا السؤال واجهني عشرات المرّات في دمشق تحديداً، حيث كنّا فريق “العربي” حاضرين من اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد في ساحة الأمويين.
المواطن السوري الذي يسأل، وقد أمضى سنين طويلة من حياته يعمل في التفزيون الحكومي للنظام الساقط، أي قد تملّكه الخوف من أعماقه، ليس وحده، بل أخصّ بالذكر ذلك المواطن الذي كان مضطراً للعيش في دمشق، فكان الخوف يعيش معه في كلّ تفصيل من تفاصيل حياته، لاعتبارات كثيرة؛ ثقل الأجهزة الأمنية ومراكزها ومعتقلاتها… وهذا نابع من أن الحساسية من أجهزة النظام الساقط أعلى بكثير ممّا هي عليه في باقي المدن، نظراً إلى أنها العاصمة.
ولكنّ المشهد العام في دمشق لم يكن قانعاً للخوف، فثمّة تمرّد داخلي رأيته لدى بعض الشباب، تمرّدوا على كثير من حواجز النظام التي صنعها في داخل النفوس، وفي البيوت وخارجها. فجاءني شاب، وأنا في الأيام الأولى لتغطية فرحة النصر في ساحة الأمويين، وكنت على الهواء، وقد رأى لوغو التلفزيون العربي في يدي، فقال لي من دون سابق كلام: “التلفزيون العربي… ابتسم أيها الجنرال… أنتم على راسي…”، بادلته بابتسامة عريضة، وسألته كيف استطعت مشاهدته، فأجابني بأنه كان يستعمل برنامجاً لتشفير الموقع، ويدخل إلى “يوتيوب” ويشاهد التلفزيون مجّاناً على حسابات التلفزيون العربي”. واضح أن “ابتسم أيها الجنرال” أزعج نظام الأسد، إلى درجة أن الناس داخل حاضنته تناقلت مخاطرَ مشاهدته من دون الاستناد إلى مرسوم أسدي يحظر هذا المسلسل، وإلّا فلماذا صدر حكم إعدام بحقّ مخرج المسلسل الشاب عروة محمّد.
تحتاج وسائل الإعلام العربية إلى الوضوح في خطابها الموجّه إلى الشعوب، وإعادة النظر في تقييمها الثورة السورية، وإنصافها
ذهبت إلى تغطية وصول البعثة الدبلوماسية للسفارة التركية في حي أبو رمّانة، الثري، يقطنه كثيرون من تجّار دمشق، ومعروف أن عديدين من هؤلاء من ساندوا الأسد بكثير من المال لإبقاء نظامه في قيد الحياة رغم موته سريرياً على الصعيد الاقتصادي. وحينما كنتُ على الهواء في إحدى المداخلات بادرت سيّدة من شرفة المنزل تنادي على ابنها، وتقول له باللهجة الشامية: “تعال شوف يا حسن التلفزيون العربي هون عم يغطّوا…”. نزل ابنها حسن، وإذ به يتجاوز الأربعين، استأذنني أن يمرّ من خلفي ليظهر في الشاشة ويراه الأقارب. بادرني بالقول: “نحن نستمع للتلفزيون العربي من موجات الراديو، لعدم وجود كهرباء. وتابعنا تغطيتكم تحرير دمشق من اليوم الأول”، وإذا به يقترب من أذني، ويهمس لي إنه شاهد مسلسل “ابتسم أيها الجنرال”. ضحكت، وقلت له انتهى النظام لا داعي للهمس والخوف. وضحك حسن.
نعود إلى “أيّ جهة تتبع؟”. حدّثت ذلك الرجل الستّينيّ (عمل مذيعاً في التلفزيون السوري الحكومي في تسعينيّات القرن الماضي)، وسألته: “كيف ترى الإعلام، هل من المفترض أن يكون له أجندة كأجندة فرع فلسطين أو المخابرات الجوّية؟ الغمز واللمز في أسئلة كهذه يثير شهية الناس للغرق في نظرية المؤامرة الكونية، اخلع عنك تجارب التلفزيون السوري ونظريات النظام البائد، أو ستُبقي نفسَك مسجونةً خلف أوهام ومخاوفَ لا أساس لها في الواقع”. لم يعجبه كلامي أو أسلوبي في الردّ. وكثيرا ما كان ضيوف آخرون من الشباب، واضح أنهم كانوا يعيشون في “المحرّر” سابقاً، أي في ريفي إدلب وحلب، وأبدوا رأيهم ومعرفتهم بالتلفزيون العربي، وكان قد ذكر أحدهم أنه ينتهج سياسة تحريرية تتوافق مع تطلّعات الشعوب، خاصّة شعوب المنطقة العربية، وذهب الستّينيّ إلى القول إن الاعلام العربي (على كثرته واختلافات سياساته التحريرية) يدور في فلك المخابرات البريطانية، وإنه لا يعتقد أن الإعلام المرئي والمكتوب وُجد لترفيه الشعوب وزيادة ثقافتها.
خلاصة القول، سقف الحرّية والمرونة في التعامل مع الإعلام واضح بين من هو قادم من الشمال السوري ومن كان يعيش في مناطق النظام المنهار السابق. تحتاج وسائل الإعلام العربية إلى الوضوح في خطابها الموجّه إلى الشعوب، وإعادة النظر في تقييمها الثورة السورية، وإنصافها، وعدم الغمز أو الطعن برموزها وجناحَيها العسكري والسياسي. من الضروري أن يشعر الشعب السوري بحاضنته العربية، وألّا تحاول بعض الأنظمة الالتفاف على مكتسبات هذا الشعب، الذي غرق في المآسي وحيداً. أيها السادة القائمون على وسائل الإعلام العربية استمعوا إلى مطالب الشعوب ولا تتنكّروا لها، فهذا من أهم الاستثمارات وأعظمها، سواء في صناعة الأخبار أو في صناعة الدراما، فالثورة السورية جزء من “الربيع العربي” لا أحد يستطيع نكران ذلك، نفضت عن أبنائها ركام 14 عاماً، ومرّت السنون ولم يقتلها اليأس، واقتلعت بعواصفها أسوأ نظام استبدادي عرفته المنطقة في تاريخها الحديث، وشركاؤها في النصر من وقف معها، سواء من الدول العربية؛ قطر أو من الجوار؛ تركيا، وكذلك وسائل الإعلام والنخب العربية التي أنصفتهم حينما فرحوا في موت خصومهم الطائفيين العابرين للحدود.
المصدر: العربي الجديد