عمر كوش
حملت نهاية العام 2024 فرحاً عارماً لغالبية السوريين بسقوط النظام السوري الدراماتيكي، وهروب رأسه بشّار الأسد إلى موسكو، بعد أن كذّب على أشدّ المقربين إليه، وتخلّى عن أزلامه ومريديه، وحتى عن أخيه، حين آثر الفرار بشكل مهين ومشين كي ينجو بنفسه، لكنّه لم ينسَ اصطحاب ملايين الدولارات التي سرقها من أموال الشعب السوري.
كان مهمّاً أن السوريين هم من أسقطوا نظام الأستبداد الأسدي، وذلك بعد أن تحمّلوا الويلات والكوارث وصبروا على ما أصابهم من آلام سنين طويلة، وبات مطلوباً من الإدارة الجديدة تشييد مرحلة جديدة، تختلف فيها صورة سورية المستقبل عن سابقتها الكارثية والمأساوية، كي تتمكّن من اجتياز تحدّياتٍ عديدة، داخلية وخارجية، عبر مرحلة انتقالية، تُقدَّم فيها خطّة عملية وموحّدة وبسرعة، تنهض على حوكمةٍ رشيدة، وتعمل لتنفيذها هيئة منبثقة عن مؤتمر وطني، تنتج منه حكومة انتقالية تمثيلية، ويضع إعلاناً دستورياً، يحدّد مواعيد إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية حرّة ونزيهة وكيفياتها، وبما تتيح المجال للسوريين كي يسهموا في تشكيل مستقبلهم.
من المهمّ الأخذ بوجهات نظر القوى السياسية السورية كافّة لتمثيل جميع القوى، منعاً للفوضى
لن تكتمل فرحة السوريين التي حملتها نهاية 2024، إلّا بتحقيق مطامح الثورة السورية ووعودها في إشادة دولة مدنية تفترق عن دولة الاستبداد الأسدي، وتقوم على مبادئ العدالة وسيادة القانون والمواطنة المتساوية. وقد ظهرت مؤشّرات أوّلية واعدة، تجسّدت في مساع لتوطيد الأمن، واعتماد خطاب تعدّدي وشامل يدعو إلى الوحدة الوطنية، والانتقال السلمي للسلطة، إلى جانب الاهتمام بتأمين حاجات الناس الضرورية واليومية، وعدم اللجوء إلى التحريض على ممارسات الانتقام والثأر. إضافة إلى عدم التعرّض للأملاك العامّة والخاصّة، والابتعاد عن تدنيس مواقع التراث الثقافي والديني لمختلف مكوّنات المجتمع السوري، الأمر الذي يؤشّر إيجابياً إلى إمكانية انضمامها جميعاً إلى المشاركة في مرحلة الانتقال السياسي، بدلاً من الدفع نحو الصراع والاقتتال الأهلي.
ينهض التصوّر الأمثل لإدارة المرحلة الانتقالية لما بعد سقوط نظام الأسد على تولّي قيادة سياسية متوافق عليها في مؤتمر وطني جامع، تقوم بمهامّ معالجة آثار الاستبداد، وتسيير أمور المجتمع في المرحلة الانتقالية ما بعد سقوط بشار الأسد، بما يعني القيام بتحقيق العدالة الانتقالية، وإجراء مصالحة وطنية، وفق آليات قانونية مدروسة، بعيداً من لغة الإقصاء والاستئصال، وتوفير التشريعات والإجراءات الكفيلة بإعادة بناء الهُويَّة الوطنية على أسس المواطنة والتعدّدية، وبما يتوافق مع المبادئ الدستورية والديمقراطية. ولعلّ من المهمّ تأمين تطلّعات السوريين ومراعاة مصالحهم، من خلال العمل على بناء سورية المستقبل، بالاعتماد على مجموعة متنوّعة من طرق التمثيل في هيئات الحكم والدولة، بحيث تمثل تركيبة المجتمع بمختلف الطوائف والحساسيات الاجتماعية والخلفيات الأهلية والمدنية. ومن المهمّ جدّاً الأخذ بوجهات النظر للقوى السياسية كافّة في المجتمع السوري، بغية تمثيل جميع القوى الاجتماعية، والتماس الآراء المعبّرة عنها، منعاً للفوضى أو زعزعة الاستقرار أو الانزلاق إلى توتّرات طائفية أو غيرها، أو صنع سياسات غير مناسبة تهدف إلى خدمة مصالح ضيّقة أو لجزء واحد من السكّان.
لعلّ الدرس الذي يفترض أن تضعه الإدارة الجديدة في سورية في حسبانها أن نهاية 2024 حملت الخلاص من نظام الأسد، لكن خطاب التغيير وأقواله لا تكفي كي يقتنع السوريون الذين عانوا أكثر من خمسة عقود من الاستبداد الذي جثم على صدورهم، وممارسات القمع السياسي والاجتماعي، فضلاً عن التسلّط والخراب والفساد والإفساد، لكنّ العام 2024 حمل لهم أملاً كبيراً في امتلاك صوتهم، وعودة بلدهم، وبالتالي باتوا يتطلّعون إلى عهد جديد، ولن يتوانوا عن الوقوف في وجه المحاولات التي يمكن أن تعيدهم إلى الوراء، لذلك يأملون في أن يكون العام 2025 مختلفاً عما سبقه، وفي حال الانشداد إلى الوراء، فإن الدرس، الذي يجب على الجميع عدم نسيانه، أن الحركات الاحتجاجية والانتفاضات والثورات لن تستأذن أحداً كي تندلع من جديد، وذلك في ظلّ ما يوفّره عالمنا الراهن من وسائل تواصل وقدرة على التحشيد.
لن تكتمل فرحة السوريين إلّا بتحقيق وعود الثورة السورية في دولة مدنية تفترق عن دولة الاستبداد الأسدي
يعي حكّام سورية الجدّد أن الوضع السوري الكارثي، الذي خلّفه نظام الأسد، يتطلّب القيام بالأفعال المطلوبة، خاصّة أن السوريين يراقبون كيفيّة تنفيد أفعالهم، وما الأدوات التي يستخدمونها، وماهية الوسائل التي يتّبعونها، ولن يتخلّوا عن وعود ثورتهم المتمحورة حول تلبية طموحات المجتمع السوري متعدّد الثقافات والمعتقدات، والغني بتاريخه وحضاراته، والتي تفترض أنها تشكّل حوافز نحو التغيير الديمقراطي، المرتكز على المواطنة، وليس المحاصصة بين المكوّنات الدينية أو القومية، ولعلّ المطلوب من بعض شخصيات الإدارة الجديدة الكفّ عن النظر إلى المجتمع السوري وفق منطق المكوّنات والطوائف، والنظر إلى السوريين بوصفهم مواطنين يطمحون في دولة مواطنة تسودها العدالة وسيادة القانون، ولن يتحقّق ذلك إلا عبر تشكيل هيئة حكم انتقالية، تضمّ القوى الجديدة، والقوى السياسية الموجودة في المشهد السياسي قبل إسقاط الأسد، إضافة إلى فاعلين سياسيين وأفراد لم يتورّطوا في الفظائع أو الفساد، لكي يطمئن الجميع أن مرحلة الصراع قد انتهت، وأن مرحلة بناء الدولة الجديدة قد بدأت. وبالتالي، تذهب التطلّعات باتجاه أن تضمّ الحكومة الانتقالية شرائحَ واسعة من المجتمع، وأن تكون غير متحيّزة، وتعطي الأولوية لتوفير الأمن والأمان للناس كي يستمرّوا في حياتهم من دون خوف، وأن تعمل جاهدةً لتوفير الخدمات الأساسية وإعادة الاستقرار للاقتصاد، وتوفير المساعدة الإنسانية والطبّية لهؤلاء الموطنين، الذين هم في أمسّ الحاجة إليها في سورية، ووضع أساس لحكم مستقرّ واحترام حقوق الإنسان ووسيادة القانون من خلال صيرورة سياسية سلمية.
في المقابل، لن تكتمل فرحة السوريين من دون محاكمة رموز النظام السابق، وجميع من ارتكبوا انتهاكات ومجازر بحقّ السوريين، وذلك إنصافاً للضحايا ولذويهم، ولكي يطمئن الناس إلى الحكّام الجدد، وإطفاء روح الانتقام لديهم. ولا يمكن الوصول إلى المصالحة الوطنية من دون تحقيق العدالة الانتقالية، لأن الأخيرة تكتسي أهميةً شديدةً، ولها حساسياتها في سورية، بالنظر إلى التراكم الهائل لانتهاكات حقوق الإنسان السوري، وخاصّة انتهاكات النظام الواسعة خلال السنوات السابقة.
المصدر: العربي الجديد