فاطمة ياسين
بعد فترة من النشاط السياسي في دمشق، انهمك خلالها أحمد الشرع في استقبال وفود عربية وأجنبية كثيرة محاولاً أن يكون حاضراً شخصياً في كل لقاء مهما كان شأن الضيف، وهي علامة على اهتمامه بالتفاصيل الدقيقة. وقبل أن تمضي مدة الأشهر الثلاثة التي ربط نفسه بها باعتبارها فترة انتقالية، عقد اجتماعاً لقادة الفصائل المسلحة التي شاركت في عملية ردع العدوان، والتي كان لها فضل التحرّر من النظام السابق. لم يحظَ هذا الاجتماع بالعناية الإعلامية المتوقعة، وقد صدر عنه أكبر قرار يمكن أن يُتّخذ، تعيين رئيس جمهورية يقود المرحلة الحالية. يمكن أن يعطى هذا الاجتماع شرعيةً ما بحكم الأمر الواقع، فغرفة عمليات ردع العدوان تسيطر فعلياً على العاصمة بشكل تام، وتمدّ سيطرتها على جزء كبير من التراب السوري، ونجحت بشكل لافت في تحقيق مستوى أمنٍ مقبول حتى في المناطق التي كانت محسوبةً على النظام السابق، فلم تشهد مدن الساحل انزلاقات خطيرة تشكل تهديداً للدولة، وبقيت الأمور تحت سيطرة إدارة العمليات العسكرية، رغم وجود بعض الحوداث الصغيرة، بالإضافة إلى استقرار الأسعار وصعود تدريجي في سعر صرف الليرة السورية… كل تلك النتائج تعطي شرعية لهذا الاجتماع وما نتج عنه من اختيار رئيس للمرحلة، وخصوصاً باقترانها بما يرغب به السوريون حقيقة، وهو نفض غبار العهد السابق بشكل كامل، وكنس كامل التراث الذي زرعه خلال العقود الماضية، متمثلاً في حزبه ودستوره وجبهته التقدمية وكامل مجلس الشعب الذي أتى من لدنه.
مباشرة بعد عملية التكليف التي وجدت صدىً مقبولاً داخلياً وخارجياً، أرسل قادة عرب كثيرون برقيات تهنئة ومباركة، وزار دمشق أمير قطر الشيخ تميم بن حمد في اليوم التالي لعملية الاختيار، وبعدها، قدّم الشرع نفسه مرة جديدة من قصر الشعب، ومن المنبر نفسه الذي كان يقف عليه الرئيس السابق المخلوع، بخطاب إلى الشعب السوري، لم يتجاوز خمس دقائق، اختصر فيه رؤية الإدارة السياسية إلى ما سيحدُث، وحدّد للمرة الأولى خريطة طريق واضحة لتشكيل الجمهورية الجديدة. لم يسهب كيلا يقول أشياء زائدة، ولم يحشُ خطابَه بشعارات إعلانية، وكان حريصاً أن يستخدم عبارة “خادم للشعب” التي لم يعتد الشعب السوري على سماعها، وهذا انزياح مهم في طبيعة الخطاب السياسي السوري الذي كانت السلطة تسوّقه، حين كانت تطلق على نفسها القيادة الحكيمة والرشيدة. انقلب أحمد الشرع على الخطاب القديم بتعيين نفسه موظّفاً عند الشعب، ما يمكن أن يدخل الارتياح إلى الشارع الذي يرغب بأن تكون قيادته قريبة منه بأقل قدرٍ من التعالي، وهو ما أكّده الشرع باستخدام مفردة خادم.
التزم الشرع في خطابه بإعلان دستوري، وهي الخطوة الحقوقية الضرورية، وكان من المفترض أن يبدأ بها، ولكن ظروف إزالة نظام من ذاك النوع عرقلت المهمة. وأعلن الشرع عن تشكيل لجان لاختيار مجلس تشريعي يعدّ للدستور، ومجلس وزراء انتقالي يحضّر للمرحلة، وهي خطوات واقعية في حالة بلد كسورية لا يمتلك هوية سياسية محدّدة، حيث كان كل ما فيه يعدّ من ممتلكات العائلة الحاكمة، ومن الضروري نفض كل هذا الركام والبدء بورقة بيضاء وعنوان واضح في رأس الصفحة.
ربما كان من الأفضل أن يترافق إعلان الشرع السياسي وخريطة الطريق التي تحدث عنها مع فواصل زمنية محدّدة، ليس مهمّاً مقدارها، تلزم اللجان والهيئات المشكلة بالعمل وفق خطة زمنية واضحة، وتمكّن الشعب السوري من أن يكون قادراً على رؤية الإجابة عن سؤال متى، وهو سؤال طال حوالي 60 عاماً، كان “البعث” فيها حاكماً أوحد من دون خطة. قد تعلن أوقات تنفيذ الخطة لاحقاً، وهو ما يبدو أسلوباً لدى الشرع، الذي بدا متمهلاً ومتأنياً، ميّالاً إلى درس الأمور بعمق، قبل أن يجيب عن الأسئلة، وهي ميزة مهمة، بل وضرورية في مرحلة كهذه من تاريخ سورية.
المصدر: العربي الجديد