خليل البطران
لطالما كان الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي محكومًا بمعادلات إقليمية ودولية، حيث لم تكن القضية الفلسطينية يومًا مجرد نزاع محلي، بل ساحة صراع كبرى تتداخل فيها القوى العظمى وفق مصالحها واستراتيجياتها. ومنذ نكبة 1948 مرورًا بحرب 1967 والانتفاضتين، كان الفلسطينيون دائمًا أمام واقع دولي يكرس الاحتلال ويفرض شروطه، في ظل هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك منظومته.
في خضم هذا المشهد، تتوالى المشاريع التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، وآخرها ما طرحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي فاز مؤخرًا بالرئاسة في 2025، حيث تحدث عن فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن كجزء مما يسميه “الحل النهائي للصراع”. ولكن، هل هذا الطرح مجرد اقتراح عابر أم أنه جزء من مخطط أكبر تمتد جذوره إلى قرن مضى؟
من مؤتمر كامبل بانرمان إلى مخططات التهجير
لم تكن محاولات إعادة تشكيل الخارطة السياسية للشرق الأوسط وليدة اللحظة، بل هي امتداد لاستراتيجيات استعمارية وضعت منذ أكثر من قرن. ففي عام 1907، اجتمعت القوى الاستعمارية الكبرى في لندن فيما يعرف بـ مؤتمر كامبل بانرمان، حيث خلص المؤتمرون إلى أن العالم العربي يمتلك الثروات الطبيعية والبشرية، ولا ينقصه سوى قيادة قادرة على توحيده، مما يجعله تهديدًا محتملاً للمصالح الغربية.
من هنا، جاءت التوصية بضرورة زرع كيان وظيفي غريب في قلب المنطقة العربية، يمنع وحدتها، ويحول دون نشوء أي مشروع نهضوي عربي. وكان هنري كامبل بانرمان، هو من أبرز الشخصيات في المؤتمر، قد أكد أن هذا الكيان لا بد أن يكون حاجزًا بين المشرق والمغرب العربي، وأداة للحفاظ على الهيمنة الغربية.
لاحقًا، تجسد هذا المخطط في إنشاء إسرائيل عام 1948، التي لم تكن مجرد كيان سياسي، بل أداة استراتيجية لإدامة التفوق الغربي في المنطقة. واليوم، عندما يطرح ترامب فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة، فإن ذلك ليس مجرد اقتراح انتخابي، بل هو امتداد لهذا النهج الاستعماري القديم، القائم على الهندسة الديموغرافية وإعادة رسم الخرائط وفقًا لمصالح القوى الكبرى.
تهجير الفلسطينيين.. جس نبض أم بداية لمشروع جديد؟
منذ بدء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في 7 أكتوبر 2023، بدا واضحًا أن إسرائيل تسعى إلى تغيير قواعد اللعبة. فرضت حصارًا خانقًا، وحرمت المدنيين من الغذاء والدواء، مما أدى إلى سقوط آلاف الشهداء، وأعاد للأذهان مشاهد التهجير القسري عام 1948. ومع تزايد الضغوط، بدأ الحديث يتصاعد عن “الحل النهائي”، الذي يتضمن ترحيل سكان غزة إلى سيناء والأردن، في محاولة لإنهاء القضية الفلسطينية عبر التهجير الجماعي.
لكن هذا الطرح يواجه رفضًا فلسطينيًا وعربيًا واسعًا، حيث تدرك الشعوب أن أي قبول بهذه الفكرة يعني استكمال المشروع الصهيوني القائم على تفريغ فلسطين من أهلها. كما أن الدول المستهدفة، مثل مصر والأردن، لن تقبل بأن تتحمل تبعات المخطط الإسرائيلي – الأمريكي، لأن ذلك يعني تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
إسرائيل وأمريكا.. بين إدارة الصراع وإنهائه
منذ عقود، تعتمد الولايات المتحدة سياسة إدارة الصراع بدلاً من إنهائه، وفق ما أشار إليه عدد من منظّري السياسة الأمريكية، مثل البروفيسور هنري كيسنجر ومستشاري البيت الأبيض السابقين. فواشنطن لا تسعى لحل القضية الفلسطينية، بل لإبقائها في حالة اشتعال دائم، تسمح لها باستخدامها كورقة ضغط في المنطقة.
واليوم، عندما يعيد ترامب طرح فكرة التهجير الجماعي، فإنه في الواقع يعيد إنتاج مشاريع قديمة فشلت في الماضي، لكنه يراهن على تغير الظروف الإقليمية والدولية لتمريرها. لكن الحقيقة التي لا يدركها الكثيرون أن الفلسطينيين أثبتوا عبر العقود أنهم ليسوا مجرد ضحايا، بل أصحاب إرادة صلبة وصمود أسطوري، وأن محاولات تصفيتهم سياسيًا أو ديموغرافيًا لن تكون سهلة كما يتخيلها صناع القرار في واشنطن وتل أبيب.
تصريحات نتنياهو والتفاعل السعودي: رد فعل متسارع
في يوم الأربعاء، صدر بيان قوي من المملكة العربية السعودية استنكر تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الأردن ومصر. حيث أكدت السعودية على رسوخ فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، داعية إلى احترام حقوق الفلسطينيين وحمايتها.
في هذا السياق، جاء رد رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، في تصريحات أدلى بها خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة، حيث أشار إلى أنه يمكن للسعودية أن تستوعب الفلسطينيين في المساحات الشاسعة غير المستغلة من أراضيها. وهذا التصريح اعتُبر بمثابة تحدٍ للبيان السعودي، في إطار المحاولات الإسرائيلية لتوطين الفلسطينيين في مناطق أخرى بدلًا من حل القضية الفلسطينية بشكل عادل.
الخاتمة: فلسطين باقية والمخططات زائلة
على مدى العقود الماضية، تعاقب الرؤساء الأمريكيون، وتغيرت الحكومات، وسقطت مشاريع كثيرة، بينما بقي الفلسطينيون صامدين في أرضهم. ورغم كل ما يجري اليوم، تبقى الحقيقة الواضحة أن التاريخ لا يرحم المحتلين، وأن قوة الحق أقوى من أي مخطط استعماري.
قد يحاول ترامب، ومن قبله الكثيرون، إعادة رسم الجغرافيا السياسية لفلسطين والمنطقة، لكن التاريخ يؤكد أن كل الاحتلالات زالت، وبقيت الشعوب. وإذا كان البعض يراهن على التهجير والتصفية، فإن الواقع يؤكد أن غزة ستبقى شوكة في حلق الاحتلال، وأن الفلسطينيين لن يرضخوا لأي مخطط يُحاك ضدهم.
فالتاريخ يُكتب بالصمود، وليس بالصفقات السياسية الزائلة.