عمر سمير
في الأسابيع الأولى لتولّي دونالد ترامب الرئاسة، تسرّبت أفكار وتفاصيل عن خطّته للتهجير، التي تقضي بأن تقبل مصر والأردن استقبال سكّان قطاع غزّة، في خطّة ترويج مؤقّتةً إلى حين إتمام عملية إعادة الإعمار، التي تمتدّ ما بين عشرة أعوام إلى خمسة عشر عاماً. أكد الرجل في أكثر من مقابلة صحافية وتلفزيونية أن الدولتين ستقبلان، وأنهما ستفعلان ما يُطلَب منهما لأنه قدّم كثيراً لأجلهما، وعلى الرغم من ترويج الكتلة العربية والإسلامية في الولايات المتحدة بأن ترامب أفضل من بايدن، وأنه من سيوقف الحرب، وأنه من أوقفها بتدخّلاته قبيل رئاسته، إلا أن هؤلاء يتناسون أن ترامب هو من نقل السفارة إلى القدس، وتبعته بلدان أخرى، وأنه من يؤيّد الاستيطان علناً، وأنه من قد ينقذ إسرائيل من تبعات الحرب، ويحقّق لها نصراً بالسياسة لم تستطع تحقيقه بالحرب، كعادة إسرائيل في حروبها السابقة، وأنه انتقل بالفكر الصهيوني من فكرة إبعاد “حماس” وحركات المقاومة إلى فكرة إبعاد الفلسطينيين جميعاً.
وتبدو تصريحات ترامب وخططه بشأن غزّة مستمرّةً، حتى إن أشار (لاحقاً) إلى أن الخطة “صفقة عقارية” و”لا داعي للعجلة لتنفيذها”، لكن هذا لا يعني أنه تراجع أو أنه يراجع خطّته، فهو يرى وبشكل مبدئي أن مساحة إسرائيل صغيرة ويجب توسيعها، وهذا الموقف تفخر به وتتفاعل معه حكومة نتنياهو بخطوات عملية في الأرض، على الرغم من الإدانات الدولية والتحذيرات التي أطلقتها الأمم المتحدة، وعدد من زعماء الدول الكبرى، يستمرّ ترامب بتأكيد خطّته بشأن “استيلاء” الولايات المتحدة على قطاع غزّة، وتحويله ما سماه “ريفييرا الشرق”، وإخراج الفلسطينيين منه. يتحدّث الرجل بلسان المقاول العقاري الذي لا يرى في غزّة إلا مساحة من الأرض في موقع متميّز عند البحر يمكن إزاحة سكّانه وتحويله منتجعاً سياحياً لتستفيد منه الإمبريالية العالمية، وشركات التطوير العقاري الجائعة والمتعطّشة لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من عمليات إعادة الإعمار في المنطقة.
أصدرت مصر والأردن عدّة بيانات ترفض خطاب التهجير، ويشير إليها بعضهم باعتبارها ردّات فعل قوية، ويعتبرون حراكهما الدبلوماسي تأكيداً لهذه المواقف، باعتباره صحوة دبلوماسية، بينما هي في حقيقتها، وإن كانت جيّدةً في سياق الضعف العربي العام، إلا أنها ليست بالأقوى من الخطابات العربية الضعيفة أيضاً بعيد حرب العام 2006، أو حتى “الرصاص المصبوب” في 2009، أو غيرها من الخطابات العربية الرسمية الرافضة للتهجير والمطالبة بالدولة الفلسطينية منذ عقود، واختزلتها في حلّ الدولتين المتبنَّى عربياً وفقاً لخطّة السلام العربية للعام 2002، التي لم تحدث أيّ تقدّم يذكر في الصراع العربي الإسرائيلي. وليس ما يدلّ على إمكانية لتبنّي هذه الخطّة إسرائيلياً، بل على العكس، تتجّه إسرائيل إلى اليمين الديني المتطرّف المؤمن بيهودية الدولة، وبعدم رسم أي حدود لها، بل إلى أنها دولة يجب أن تبقى وتتوسّع لتكون من النيل إلى الفرات، ومن الأناضول إلى شمال السعودية، لتبتلع العديد من جيرانها.
علينا رفض التهجير بشيء آخر غير النواح والبكائيات، وتصديق كذب بعض الحكومات علينا
انسحب الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018، الذي جرى التوصل إليه بعد مفاوضات ماراثونية استغرقت أكثر من عشر سنوات، واتفاقيات المناخ التي ظلّت الجهود عقوداً للتوصل إليها، واتفاقات التجارة الحرّة مع المكسيك وكندا، التي كلّلت سنوات من جهود التفاوض والتفعيل، واعتبرت انتصاراً لمبدأ النيوليبرالية الأساس الخاصّ بفتح الأسواق وتوسيعها، بل أكثر من ذلك، يسعى ترامب إلى محاسبة ومعاقبة منظّمات دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية ومنظّمة الصحّة العالمية، وفرض قيود على المنتمين إليهما، وسوف يوقف التهجير بناء على مجموعة بيانات رافضة من دون فعل جدّي يدعم صمود الشعب الفلسطيني في غزّة، والضفة في أرضه.
المشكلة هنا ليست وعود ترامب بالتهجير، ولكن كيف يعيش سكّان غزّة والضفة المقاومون مع هذا الدمار كلّه، المتعمّد والمقصود، الذي لم نفعل شيئاً جدّياً لنوقفه 15 شهراً، من دون أن يجدوا طعاماً يأكلونه وماء يشربونه، وسقفاً يظلهم وملبساً يسترهم، وحمّامات يقضون فيها حوائجهم؟ علينا إذن رفض التهجير بشيء آخر غير النواح والبكائيات، وتصديق كذب بعض الحكومات علينا، فليس بالكلمات التي لن تسدّ رمق مليوني إنسان يتم رفض التهجير ودعم الصمود. قد تصيب بعضنا الحميّة حدّ مشاركة فيديوهات قديمة لتعزيزات عسكرية هنا وهناك في الحدود مع فلسطين، باعتبارها موقفاً إيجابياً، لكن لا يدرك هؤلاء أنه بالبحث في “غوغل” سوف تجد عشرات الأخبار الدورية حول هذه التعزيزات العسكرية المصرية أو الأردنية على الحدود، وبالتالي فهي لا تعني أكثر من شعور بالنشوة المؤقّتة وإبراء الذمّة ومحاولة استجداء فعل وأمل حقيقي في بعض الحكومات.
مغفّل من لا يعتبر هذا صراع وجود لا صراع حدود
ليس هذا وقت اللّوم أو الصراع مع تلك الحكومات، فهذا أيضاً ممّا يستغلّه العدو، بينما تعلمنا تجارب التاريخ الطويل أن الإسرائيلي طوال عمره يكسب بالسلام ما لم يكسبه بالحرب أو حتى ما خسره فيها، والعكس عند الطرف الآخر، ولذلك مغفّل من لا يعتبر هذا صراع وجود لا صراع حدود، بالمعنى الحرفي للعبارة، ولهذا على الجانبين المصري والأردني، ومن خلفهما العالم العربي والإسلامي، أن يكونا على قدر الحدث واعتبارها هدنةً مؤقّتةً مثل هدن العام 1948، والبدء فوراً بالردّ على ترامب ونتنياهو عملياً بإدخال الخيام والبيوت المؤقّتة ومواد ومعدّات إعادة البناء، فوراً من دون انتظار الإذن من إسرائيل، غير ذلك من بيانات وإدانات وإنكار هي تهريج عديم القيمة ولا تساوي ما كتبت به من حبر.
بينما انهمكت الدول العربية في بيانات الإدانة والشجب طوال 15 شهراً من الحرب وبعدها، فقد بادرت جنوب أفريقيا ومجموعة من الدول بملاحقة مجرمي الحرب من قيادات جيش وحكومة الاحتلال، كما تم الإعلان أخيراً تشكيل مجموعة لاهاي، من تسع دول، بهدف إنهاء الاحتلال ودعم حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير، وللأسف الشديد لم توجد أيّ دولة عربية في هذه المجموعة، ولولا وجود ماليزيا والسنغال لقلنا إنها تخلو من دول إسلامية، وهو ما يطرح سؤالاً: من أولى بالقضية المركزية للعرب والمسلمين منهم؟ وبالطبع، فإن هذا لا يعني أننا ضدّ التضامن العالمي والإنساني، بل إنه أشدّ قيمةً من ذلك التضامن العربي والإسلامي في أحيان كثيرة، وتدرك إسرائيل ذلك، ومن هنا فإنها بدأت بالتنسيق مع جهات وهيئات أوروبية وأميركية لملاحقة مناصري القضية الفلسطينية، وما لا يسع العرب هنا هو ترك هذه الموجة كلّها من التضامن العالمي الواسع مع الفلسطينيين تذهب سدى، ومن دون تنسيق وتشبيك مع هذه المجموعات من داعمي الحقّ الفلسطيني في تقرير المصير، وواجب الوقت هنا أن تنصّ أيّ مبادرة فعلية عن اجتماع جامعة الدول العربية الطارئ على تنسيق كامل مع مجموعة لاهاي، والانضمام فوراً، وبشكل جماعي، إلى الدعوى التي أقامتها جنوب أفريقيا لملاحقة مجرمي الحرب في الكيان، وأن تتحوّل السفارات العربية والمنظمات العربية الأهلية، العاملة على دعم القضية، خليةَ نحل في سبيل تجميع شتات هؤلاء المتضامنين.
يجب أن تتبع القمة العربية الطارئة، المزمع عقدها نهاية هذا الشهر الجاري، قمّة عربية إسلامية عاجلة، ولا بدّ أن يخرج منها بيان واضح بدعم موقف مصر والأردن برفض التهجير، وأن تتلافى أخطاء القمة السابقة بنصّ واضح على مقاطعة الدول الداعمة لمشروع التهجير اقتصادياً وسياسياً، وأن يعلم قادتها أن هذا فيه فائدة للدول النفطية، إذ قد يؤدّي إلى ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي عليها ضمان تزويد الدول العربية والإسلامية غير النفطية بالنفط والغاز بنفس أسعار ما قبل الارتفاعات، التي قد تحدث بسبب تلك القرارات، وذلك لطمأنتها وضمان إمكانية تحمّلها تبعات تلك القرارات، وأن يكون الجميع على قدر الحدث إذا أرادوا أن يثبتوا مواقفهم وقدرتهم على الفعل، وأنهم ليسوا أقلّ من قادة العرب في حرب 6 أكتوبر (1973).
تعلمنا تجارب التاريخ الطويل أن الإسرائيلي طوال عمره يكسب بالسلام ما لم يكسبه بالحرب، أو حتى ما خسره فيها
كما ينبغي أن تقدّم الدول العربية، فرادى وبشكل جماعي، شكاوى لمجلس الأمن والأمم المتحدة، والمؤسّسات الدولية المعنية كافّة، على الخروقات المتكرّرة لاتفاقيات السلام، واتفاقية المعابر، وغيرها، مع تقديم حصر شامل بهذه الانتهاكات والخروقات، ولا تكتفي بالتصريحات التي ترى أن الأفعال الإسرائيلية تهدّد اتفاقات السلام باعتبارها اتفاقات مقدّسة، فهذا يوحي بأن هذه الاتفاقات هي ما يحمي الأنظمة من شعوبها، وهذه ثغرة تستغلها الولايات المتحدة وإسرائيل جيباً استعمارياً غربياً أخيراً.
على هذه البلدان العربية أيضاً، وبالذات دول الطوق، أن تفتح حواراً مع معارضاتها السياسية في الداخل والخارج، لأن اتساع الهوة بين هذه الحكومات وجمهورها في الداخل والخارج يشكلّ آليةَ ضغط على الأنظمة الحاكمة، ويمثل نقيصة في أيّ مواجهة محتملة مع إسرائيل وحلفائها، وبالتالي فإن مثل هذا الحوار يفوّت تلك الفرصة ويجعل دعوات الاصطفاف الوطني أكثر جدّيةً في مواجهة خطر وجودي على الدولة العربية والشعوب، وليس الأنظمة الحاكمة فقط، وبالتالي يستوجب مواجهة أيّ أسباب للفرقة.
من دون أن يحدث، هذا فإننا لا نستطيع أن نستبعد استئناف عمليات الانبطاح والتطبيع وتمرير مخطّط التهجير، بل وترويجه باعتباره فرصةً عقاريةً كما بدأ تفاعل بعض رجال الأعمال في المنطقة معه، وما لم نتخيله واقعاً اليوم، كان مستبعداً أيضاً في موجات التهجير السابقة، بل وفي سياق عربي أكثر تضامناً وانخراطاً في الحرب، والصراع باعتباره صراعاً عربياً إسرائيلياً، وليس باعتباره نزاعاً فلسطينياً إسرائيلياً، أو نزاعاً بين حركة حماس وإسرائيل، كما تروّج بعض الحكومات، ومواقع الصحف والقنوات العربية التابعة لها.
المصدر: العربي الجديد